(1-2)

الجذر اللغوي لكلمة quot;يقولquot;، وquot;يريquot; وquot;يضئquot; وquot;ينيرquot;، في اللغة الإنجليزية واحد. والحال نفسه في معظم اللغات الأجنبية الأخري، وحتي اللغات الشرقية، بما في ذلك اللغة العبرية. وكأن هناك اقترانا وتزامنا بين الكلام والرؤية والنور. و كلمة quot;نورنيquot;، في العامية والفصحي أيضا، هي إحدي لوازم الكلام في بر مصر، وتقال عادة حين يريد شخص ما أن يعرف ما خفي عنه، أوأن يسترشد برأي أو حكمة أو نصيحة من أحد الثقات، لأن quot;العلم نورquot; في الوعي الجمعي، وحين يصيب شخص ما القول أوالهدف، يقال له quot;الله ينور عليكquot;.
أول من دشن في العصر الحديث فكرة أن المعرفة laquo;رؤية ونورraquo;، الفيلسوف الفرنسي quot;رينيه ديكارتquot;. وأقام منهجه على أساس المعرفة اليقينية التي لا يطاولها أي شك من خلال رفض كل معرفة احتمالية والوثوق بما هو معروف معرفة تامة، وما هو غير قابل للشك. ونظر الى العقل باعتباره مسرحاً فكرياً توجد فيه مواد استعارية (هي الأفكار) يضيئها نور داخلي (نور العقل الطبيعي) ويراقبها مشاهد استعاري (هو قدرتنا على الفهم).
ويسمي ديكارت الرؤية العقلية حدساً وهو ما يمكنه من رؤية الأفكار واضحة ويميز في ما بينها. وأثبت كل من لاكوف وجونسون في كتابهما laquo;الاستعارات التي نحيا بهاraquo; عام 1980، بأن قناعة ديكارت في العقل الذي يستطيع أن يعرف أي شيء، تستند إلى مجموعة من الاستعارات laquo;المنسوجة ببعضها على نحو محكم، وأهم هذه الاستعارات وأكثرها أساسية هي (المعرفة رؤية) والتي تنقل مجال رؤية الأشياء المادية من طريق العين إلى مجال المعرفة وفهم الأشياء. إن استعارة (المعرفة رؤية) من الاستعارات التقليدية المألوفة في فهم المعرفة العام، كأن نقول laquo;رؤية ثاقبةraquo; أو laquo;رؤية صائبةraquo;.
ولم يختلف الأمر كثيرا مع عصر التنوير أو العقل في القرن الثامن عشر، الذي غالبا ما نتوسل به في كتاباتنا النقدية بالإشارة إلي مغزى الثورة التي قادها مونتسيكيو وفولتير وروسو وديدرو وكوندرسيه، وquot;كانط quot; قمة عصر التنوير وذروته، الذي عبر عن روح هذا العصر، في مقال بعنوان quot;جواب عن سؤال: ما التنوير؟quot;.. نشره عام 1784 في مجلة شهرية ببرلين.
في هذا المقال عرف كانط التنوير بأنه: quot;هجرة الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول وحده عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام العقل، والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره لأن العلة في ذلك ليست في غياب quot;العقلquot; وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين، لتكن تلك الشجاعة على استخدام عقلك بنفسك، ذلك هو شعار التنويرquot;.
لكن ما يغيب، أو يغيب، في تناولنا لفكرة التنوير عادة، شجاعة كانط وجرأته في اخضاع العقل ذاته للنقد، في كتابه quot;نقد العقل الخالصquot; عام 1787، وهذه الشجاعة تحديدا هي إحدي سمات الفروسية، التي شكلت أهم مقومات البحث العلمي عبر العصور، وأدت إلي تقدم العلم وتطوره.
ومن المفارقات، أن هذه المقومات لا تنتمي إلي عصر التنوير وإنما إلي العصور الوسطي. فلم تكن الجامعة في العصور الوسطي ndash; حسب يوهان هويزنجا - إلا حلبة نزال وأرض تدريب علي المصارعة بكل معاني الكلمة، تماثل علي أكمل وجه منازلات الفروسية. علي انها حلبة كثيرا ما يلعب المرء فيها لعبة جادة بل خطرة في أغلب الأحيان. ذلك ان مناشط الجامعة تشبه مناشط الفروسية والفرسان، واتصفت بإحدي صفتين هما التكرس في مذهب والتلمذة في عقيدة، أو النزاع والتحدي والصراع.
فمدار حياة الجامعة في العصور الوسطي هو المنازعات الدائمة التي تتزيا بأشكال المراسم. وهذه الخصومات الجدلية ndash; شأن منازلات الفروسية ndash; من الأشكال الجدية للتفاعل الاجتماعي الذي تتولد عنه الثقافة.
والرسالة الجامعية والخصومة الجدلية بوصفهما من الأساليب الفنية قد وفتا تماما بأغراض تكوين الفكر والمجتمع في العصور الوسطي. حيث تقاتل العلماء بأسلحة quot;القياس المنطقيquot;. فإن القياس بتركيبه الثلاثي قد عكس إليهم بالفعل ثلاثية أخري هي الرمح والدرع والسيف. ومن ثم فإن أصحاب الدرجات العلمية كالدكتوراه، تقلدوا أسلحة نبيلة، شأن الفارس والسيد التابع له.
والرسالة الجامعية تفترض مقدما ان الطرفين المتنازعين يتحليان بأسلوب للتفكير جيد التحديد واضح المعالم، وكل مفهوم فيه محدد بالدقة تحديدا عقلانيا، فهو بعبارة أخري مفهوم quot; مدرسي quot;، وهي تفترض أيضا وجود درجة عالية من التوافق الفكري والتسامح الثقافي بين المفكرين.
اليوم، تعتبر الرسالة العلمية وسيلة قديمة الطراز، وتقليدا يتخذ في الطقوس الأكاديمية في أفضل الأحوال، وان غابت quot;الشجاعةquot; في البحث العلمي، وquot;الفروسيةquot; عن معظم الباحثين، إلا فيما ندر.
لعل هذه الشجاعة، أو تلك الفروسية، هي التي دفعت طه حسين (1889 ndash; 1973) إلي تأليف كتابه quot;في الشعر الجاهليquot; عام 1926، وهو الكتاب الذي أدي إلي مثوله للتحقيق، الذي حفظ في النهاية. وربما كان طه حسين من رواد التنوير القلائل الذين اكتشفوا - ويا له من اكتشاف - وشائج القربي بين الكلام والعقل والنور، بين الفروسية والنقد والبحث العلمي، بين التعليم والثقافة ونهضة المجتمع.
ففي عام 1938 أصدر كتابه laquo;مستقبل الثقافة في مصرraquo;، ودفع إلى كتابته أمران، أولهما توقيع معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، وبداية عهد جديد أكثر استقلالاً، أو حسب تعبيره: فوز مصر بجزء عظيم من أملها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية. وثانيهما انتداب وزارة المعارف له لتمثيل مصر في مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري في باريس، وكذلك جامعة القاهرة لتمثيلها في مؤتمر التعليم العالي في العاصمة الفرنسية أيضاً. وعلي الرغم من أن القضية المحورية للكتاب قد تمحورت حول التعليم وآلياته وكيفية النهوض به، فقد عنون كتابه بquot; مستقبل الثقافة quot;، ليؤكد أن وظيفة التعليم هي إعداد الإنسان ليكون مثقفا، ويتعامل بوعي مع ثقافة العصر، أي عصر.


أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية