من مفكرة سفير عربي في اليابان
حينما كانت دول العالم الثالث تستورد المنتجات التكنولوجية من دول الغرب في العقود الماضية، كانت هذه الدول توفر جميع السبل لتستقبل عقول الشرق المبدعة والمهاجرة. وقد اختارت بعض دول الشرق أن تسمح بحرية هجرة عقولها للغرب أيمانا منها بأن هذه العقول ستبدع في الدول المتقدمة، وستنقل صورة جميلة عن بلدانها وستبني جسور مستقبلية مع هذه الدول، وستنقل مع الوقت المعرفة التكنولوجية والعلمية لبلدانها الأصلية. بينما حاولت دول أخرى عزل مجتمعاتها ومقاومة هجرة عقولها المبدعة للخوف من خسارتها المجتمعية، فسجنتها وجمدتها لتتحول أحيانا لعقول متحجرة أو نفوس ثائرة ومتمردة على واقعها ومتطرفة في التعامل مع تحدياته. وفي نفس الوقت تجنبت بعض الدول المتقدمة الأخرى هجرة العقول المبدعة لبلدانها اعتقادا منها بأن هذه العقول لن تقدم شيئا جديدا بل قد تسرق تكنولوجيتها المتطورة لتنقلها لدولها المتخلفة.
وقد حاولت اليابان في القرن الماضي تجنب استيراد العقول المهاجرة من دول العالم الثالث للمحافظة على تجانس شعبها، ولاعتقادها بحاجة هذه الدول لعقولها المبدعة وبعدم فائدتها لليابان بخلفيتها الصناعية المتخلفة، بل كان خوفها من أن تنسخ التكنولوجية اليابانية وبدون التزامها بقوانين براءة الاختراع. وحينما بدأت تبدو في الأفق خطورة انخفاض عدد السكان على تطور اليابان الاقتصادي، ارتفعت أصوات جديدة لتنادي للبحث عن الحلول الممكنة لمنع التباطؤ الاقتصادي المترافق بتناقص القوى البشرية العاملة. ومن المتوقع أن يستمر في الانخفاض نسب النمو السكاني الياباني بسب انشغال الشباب عن الزواج والإنجاب. فقد توقفت الزيادة السكانية في عام 2005، لتنخفض في عام 2006، ولتستمر في الانخفاض عما يقدر اليوم بمائة وسبعة وعشرين مليون لحوالي مائة مليون في عام 2050. وسيترافق كل ذلك بارتفاع عدد المسنين لما يقارب لثلث عدد السكان، لذلك بدأت ترتفع الأصوات المنادية بضرورة فتح الأبواب للعقول المهاجرة المبدعة.
لنتفحص عزيزي القارئ مقالة بعنوان الحاجة لأفضل عقول العالم والتي نشرتها مجلة سنتاكو اليابانية، وترجمتها للانجليزية صحيفة اليابان تايمز في السابع عشر من فبراير عام 2008. فقد كتبت المجلة تقول: quot;فمع عولمة الإستراتيجيات الاقتصادية في الدول الصناعية المتقدمة، أصبح من الضرورات ألأساسية لكل دولة أن تتبنى بل وتؤمن العقول المهاجرة المتخصصة في العلوم التكنولوجية. فكانت تتأخر ولسنوات عديدة الاختراعات المبدعة لكي تتحول لمنتجات مفيدة، بينما قصرت هذه المدة اليوم وبشكل كبير. فمثلا لم يحتاج للوقت الكثير لكي يتحول إعلان بروفسور جامعة كيوتو الأستاذ شنيا ياماناكا بنجاحه بتحويل خلايا الجلد للخلايا الجذعية في الشهر الماضي، حتى ليبدءا تنافس عالمي لتطوير تكنولوجية اكتشافه. ولتتقدم دولة في هذه المنافسة الشديدة الناتجة عن التغيرات التكنولوجية الجديدة، أصبح من الضرورة جذب خيرة العقول العالمية المبدعة. ولذلك اهتمت الولايات المتحدة والدول الأوربية لوضع استراتيجيات لجذب وتوظيف العقول المبدعة المستقبلية من الدول الأخرى. ومع الأسف تخلفت اليابان عن الدول المتقدمة في جلب هذه العقول الشابة من الخارج بسبب عدم فهم البريوقراطين والسياسيين أهمية المنافسة العالمية لجلب هذه العقول، ولقلة البعثات من الجامعات اليابانية للطلبة الأجانب، ولمحدودية توظيف الأجانب بعد تخرجهم.quot;
وعرض المقال الوسائل المتبعة في الدول المتقدمة لدعم تطور مواردها البشرية، وناقش ما يجب أن تقوم به اليابان لكي تشارك في منافسة العقول المبدعة المهاجرة. وقد لفتت المجلة النظر لما حدث في الولايات المتحدة، حيث إنصدمت حكومة واشنطن باكتشاف نقص العقول المبدعة في بلادها، بسبب انخفاض عدد الطلبة الأجانب الملتحقين بالجامعات الأمريكية، بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر. وقد اجتمعت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس مع قيادات التعليم في الولايات المتحدة لمناقشة كيفية جذب الطلبة الأجانب من جديد، كما طلبت من الكونجرس الأمريكي بتسهيل إجراءات التأشيرات لدخول هؤلاء الطلبة. وقد علق ألان غودمان رئيس معهد التعليم الدولي الأمريكي بأن جذب العقول المبدعة من الدول الأخرى هي الطريقة الوحيدة للمحافظة على القوة التنافسية العالمية لبرامج الأبحاث في الجامعات الأمريكية والتي تعاني من نقص خطير في عقولها المبدعة. كما نظمت الحكومة الأمريكية في العام الماضي برنامجا جديدا ضمن برنامج فأولبرايت يدعو ثلاثين من عباقرة العالم للدراسة في الجامعات الأمريكية ولمدة خمس سنوات وبمنحة قدرها مائة وستون إلف دولار سنويا. كما وصل في العام الماضي عدد الطلبة الأجانب الحاصلين على درجة الدكتوراه من الجامعات الأمريكية لحوالي 35% من المجموع الكلي، وبنسبة 45% في اختصاصات العلوم الطبيعية والتكنولوجية المتقدمة. كما أن 75% من الطلبة الصينيين المتخرجين من خيرة الجامعات الصينية وبدرجة امتياز، قد أكملوا دراستهم بجامعات امريكية مشهورة كهارفارد وستانفورد وام أي تي.، وهم يقومون اليوم كأساتذة بتقديم نفس المستوى من التعليم المتميز في جامعاتهم الصينية.
وقد سارت على نفس المنوال الجامعات الأوربية، حيث أكد جوردون جونسون نائب الرئيس جامعة كمبريدج بأن مستوى الجامعات تتحدد بعدد ما تجذبه من الطلبة والباحثين المبدعين من مختلف أنحاء العالم. وقد ارتفع عدد خريجي الطلبة الأجانب بجامعة كمبريدج لحوالي 66% من المجموع الكلي لطلبة الدراسات العليا. كما زادت الحكومة البريطانية عدد بعثاتها الدراسية للطلبة الأجانب منذ عام 2001، فمثلا هناك ثلاثمائة طالب صيني يحصلون على منح دراسية تقدر بثلاثين إلف جنيه سنويا. واهتمت فرنسا أيضا بالطلبة الأجانب حيث دعا الرئيس الفرنسي شراك في زيارته للصين عام 2004 الطلبة للذهاب لفرنسا، ووفرت لهم حكومته عدة مدارس لتعليم اللغة الفرنسية. كما أضافت وزارة التعليم الفرنسية مقرر دراسي للغة الصينية في عشر مدراس ابتدائية ومائة وثلاثة وخمسين مدرسة ثانوية ومائة جامعة. كما عملت الحكومة الألمانية والاسترالية مع مؤسساتها التعليمية لجذب عباقرة العالم لجامعاتها.
وقد اهتمت الجامعات الأسيوية أيضا بهذه العقول المبدعة. فقد وفرت جامعة سنغافورة الوطنية برنامج للطلبة الأجانب المتميزين، بالتعاون مع جامعة ام أي تي الأمريكية. وقدمت الحكومة السنغافورية منح دراسية شاملة للرسوم والسكن والمصاريف الحياتية لهؤلاء الطلبة. وقد أنضم سبعمائة شخص من الهند لهذا البرنامج وهناك طلبة من أربعون دولة أخرى. كما تشجع الحكومة السنغافورية هؤلاء الطلبة بالبقاء بعد تخرجهم، بل وتوفر لهم تأشيرة أقامة دائمة وتلزمهم بالعمل لمدة ثلاث سنوات فيها، لذلك يستمر 70% من هؤلاء الخرجين للعمل في سنغافورة بعد أن تنتهي فترة عملهم الإلزامية. وقد طورت جامعة هون كونج برامجها التعليمية مع جامعة لندن ليستفيد طلبتها من البرامج التعليمية المتطورة وليستمروا العمل في بلادهم. كما تحتاج الإستراتيجية الصينية والهندية في إرسال طلبتهم للدراسة في الدول المتقدمة للتفحص والاهتمام. فمن الملاحظ بأن هذه الدول لا تدقق كثيرا على استرجاع طلابها للبلاد، لاعتقاد مسئوليها بأن هؤلاء الطلبة سيرفعون من سمعة بلدانهم في دول الغرب، وسيتخصصون في مجالات تساعدهم لنقل المعرفة التكنولوجية الغربية لبلادهم، وسيكونون جسورا لبلادهم مع الدول التي سيتخرجون منها. وقد أكدت نجاح التجربة التعليمية الهندية ذلك، حيث قرر الكثير من الهنود خريجي الجامعات الأمريكية للرجوع لبلادهم بعد أن عملوا لسنوات طويلة في الخارج ليبنوا بخبراتهم وأموالهم هند الألفية الثالثة. بينما عمل الكثير من المتخصصين الهنود الذين فضلوا البقاء في الولايات المتحدة مساعدة بلادهم بخلق لوبي هندي قوي يدافع عن مصالح بلادهم في واشنطن. وقد أختمت مجلة سنتاكو مقالها بالقول: quot;حينما نقارن اليابان مع هذه الدول نجدها متخلفة جدا في مساعيها. فالمشكلة الأولى هو إن معظم البيروقراطين والسياسيين اليابانيين لم يدرسوا العلوم الطبيعية والتكنولوجية، ولم يشجع أي من القيادات اليابانية التي زارت دول العالم المختلفة طلبة هذه الدول للدراسة في الجامعات اليابانية. كما كان بعض سياسي اليابان ينظرون للطلبة الأجانب بأنهم اتو من دول متخلفة تكنولوجيا ليستفيدوا من التعليم في اليابان، وتناسوا بان الكثير من هؤلاء الطلبة ينافسون طلبتهم. كما أن البعثات التي تقدم للطلبة الأجانب قليلة، وفرص العمل لهم منخفضة جدا، وحتى لو كانوا ذو عقول موهوبة ومبدعة. ولن يكون لليابان مستقبل زاهر إلا إذا استطاع رجال السياسة والتجارة والاقتصاد وقيادات الجامعات فيها بالعمل بجهود مخلصة للتعامل مع هذه التحديات لجذب العقول المبدعة.quot;
لنقارن عزيزي القارئ هذه التحديات اليابانية التي ناقشتها مجلة السنتاكو مع تحديات مجتمعاتنا العربية. فقد ارتفعت أسعار برميل النفط مؤخرا لأكثر من المائة دولار، ويتوقع المختصون بأن هذه الأسعار لن تشاهد انخفاضا مستقبليا حادا للحاجة المتزايدة لمصادر الطاقة ولانخفاض الاحتياطي العالمي لها. كما تحتوي منطقة الشرق الأوسط على ما يقارب من نصف مخزون الاحتياطي العالمي من النفط والغاز الطبيعي، والذي سيؤدي لارتفاع ميزانيات هذه الدول لآلاف المليارات من الدولارات في السنوات القليلة القادمة. والتحدي الكبير الذي ستواجهه المنطقة هي كيفية صرف هذه المبالغ الطائلة لتؤمن مستقبل مجتمعاتها قبل أن ينتهي مخزون الطاقة المتحجرة خلال عقود قليلة قادمة. فهل ستستفيد من هذه الأموال في ضمان الأمن الغذائي وتحسين البنية التحتية والاستثمارات البشرية والتجارية المدروسة؟ وهل ستعمل لإنشاء قاعدة صناعية تكنولوجية متطورة؟ وهل ستطور تقنية القوى العاملة من خلال التعليم التكنولوجي المتقدم والتدريب المتطور؟ وهل ستطور مراكز أبحاث متقدمة ضمن جامعات تكنولوجية، لتبدع في اختراعات جديدة، ولتحولها لمنتجات عالمية مربحة؟ وهل حان الوقت للاهتمام بالعقول الموهوبة في وطننا العربي وتوفير الوسائل اللازمة لإبداعها؟ وهل سنوفر فرص دراسية وتدريبية لهذه العقول لتستقي من منابع ألإبداع في جامعات الشرق والغرب؟ وهل سنجذب العقول المبدعة العالمية ونحتضنها لتبدع باختراعات تطور صناعاتنا التكنولوجية المستقبلية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف نسبب ملاحقه قانونيه