من مفكرة سفير عربي في اليابان
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، حاولت الولايات المتحدة المحافظة على اليابان كحصن منيع للرأسمالية ضد امتداد النظام الشيوعي. وقد استفادت اليابان من تلك الفرصة بذكاء لتطوير مجتمعها وتكنولوجيتها واقتصادها. كما استطاعت أن تخلق نظام يجمع بين حرية رأس المال ومسؤوليته الاجتماعية. فمع اختيار اليابان للنظام الرأسمالي، لكنها ركزت على تطوير طبقتها الوسطى التي تمثل معظم شعبها اليوم، ووفرت لجميع أفراد الشعب ضمان تعليمه المجاني ووظيفته الدائمة والتأمين على البطالة والصحة والتقاعد. ومع تطورات سوق الانترنت وانتشار ظاهرة العولمة وانفتاح الأسواق العالمية للتجارة الحرة، وبدء مشاركة الصين والهند بمواردهما البشرية الهائلة، برزت المنافسة الشديدة في الأسواق. وبدأت اليابان والدول الصناعية الأخرى تعاني من منافسة رخص الأيدي العاملة المتخصصة، كما بداء الخوف من ضعف النمو الاقتصادي، وازدياد نسب البطالة. وأدى ذلك لإرهاصات اقتصادية خطيرة. وبداء قلق رجال السياسة بتساؤلات مستقبلية هامه. ما هو مستقبل النظام الرأسمالي؟ هل سيفشل هذا النظام مع التحديات العالمية الجديدة؟ أم سيستعد لتحديات الثروة المعلوماتية ويتناغم مع تطوراتها. وما شكل هذا التناغم الجديد؟ وهل سيحافظ رأس المال على القوة التي يتمتع بها، أم ستتبعثر؟
يقول الكاتب الأمريكي، المتخصص في علم استقراء المستقبل، الفن توفلر في كتابه الجديد، ثروة الثراء، quot;لقد أعلن عن موت الرأسمالية مرات عديدة لا تحصى، والمدافعين عنها يقولون بأنها وجدت لتبقى. ولم يسجل التاريخ إبداعات خالدة، فلماذا نفترض بأن الرأسمالية دائمة، وما العمل حينما تفقد ديمومتها؟ والواقع المرئي هو أن جميع أساسياتها، من الملكية، ورأس المال، والسوق، وحتى العملة نفسها، بدأت تصبح باهته المعالم، ويصعب التعرف عليها.quot; ويعتقد الكاتب بأن التغيرات المرافقة للثروة المعلوماتية القادمة ستجعلنا نتساءل من المالك وماذا يملك؟ وما نوعية العمل المستقبلي؟ وكيف سيباع هذا العمل في السوق؟ ومن سيدفع الثمن؟ وما هو دور المستهلك؟ وما نوعية الأسهم المستقبلية؟ ومن هي الدول التي ستقود ثورة الثراء الجديدة؟
يعرف قانون رأس المال بأن الملكية هي شيء محسوس والذي يملكه شخص ما. ومع التكنولوجية المتطورة، تحولت الملكية اليوم إلى استثمار ينشط الاقتصاد ويخلق الثراء، وذلك بفضل نظام آلي يتكون من كمية هائلة ومتزايدة من المعلومات يعتمد على معرفة من يملك ماذا، ويلزم المستثمرين بالعقود، ويوفر التسهيلات البنكية، والمتناغمة دوليا، للاستثمار. ونلاحظ بأن هذا التطور المعرفي يدخل قيمة إضافية على رأس المال، كما يسهل استثماره السريع. وقد بدأت شركات المعرفة، والغير ملموسة بالمعنى التقليدي، تتصدر الثروة الجديدة. والمثل الحي لذلك شركة غوغل التي توفر بنك للمعلومة على شبكات الانترنت. وتقدم هذه الشركة خدماتها للمستهلكين بالمجان، ولكن تجني ثروتها الكبيرة من بيع إعلانات الدعاية المنتجة، فكلما تصفح شخص دعاية ما يسجل لحساب شركة غوغل نصف دولار. فهل تصدق عزيزي القارئ بأن قيمة السهم لهذه الشركة قد ارتفع لخمسمائة دولار، بينما قيمة السهم لشركة فورد لصناعة السيارات، والملموسة جدا بمصانعها وعمالها، أقل من ثمانية دولارات.
وتعرف القوانين الرأسمالية السوق، بأنه المكان الذي تتم فيه عملية البيع والشراء. وقد ترافقت هذه السوق بزيادة أسعار البضاعة لتغطية مصاريف السوق ووسطائها المختلفين. وقد طورت التكنولوجية الحديثة معالم هذه السوق إلى سوق الإنترنت الغير ملموسة، والتي قللت الوسطاء وتخلصت من مصاريف الأسواق التقليدية. وقد ارتفعت معاملات السوق الالكترونية العالمية لأكثر من ألف وخمسمائة مليار دولار سنويا، وهي في تزايد مستمر.
كما تعرف العملة بأنها مادة لها قيمة سوقية يمكن تبادلها لشراء بضاعة أو خدمة أو قرض. ويعتبر اختراع النظام النقدي من أهم المنجزات الإنسانية. وقد ترافق هذا الاختراع بتكلفة عالية على اقتصاد المجتمع وجيوب المتسوقين. فحينما نشتري بضاعة ما نقوم بدفع ضريبة غير محسوسة، وهي مصاريف الخدمات البنكية التي تشمل قيمة بناية البنك ومعاشات الموظفين والمحاسبين وحتى الديون التي يدفعها البنك. وتزيد القوى البشرية العاملة بالمؤسسات النقدية عن 5.5% من مجمل عدد القوى العاملة بالولايات المتحدة. كما تخسر كثير من الدول مليارات من الدولارات للمحافظة على سعر صرف عملتها بإيداع احتياطياتها النقدية بالعملات الغربية، والتي تحصل عليها نسبة قليلة جدا من الفوائد، والتي يمكن إن تستثمرها في مشاريع إنمائية تجني من خلالها أموال طائلة قد تصل إلى 15% من الفوائد. وتتعرض أسعار العملات لتغيرات مختلفة في سوق الصرف مما يؤدي بخسارة مالية كبيرة في دول العالم الثالث. وتقدر قيمة السوق العالمية المالية بأكثر من ألف ومائتي مليار دولار يوما.
وتتم اليوم الكثير من عمليات البيع والشراء بدون التعامل الملموس بالنقود. فتحولت النقود إلى رقم بطاقة مرافقة لعملية الشراء من خلال الانترنت. وأخذ هذا الرقم بالتطور من رقم حسابات البنك وبطاقات الائتمان إلى البطاقات النقدية. وهناك أكثر من ثمانمائة وخمسين مليون بطاقة ائتمانية في الولايات المتحدة وحدها وتقدر قيمة عمليات تعاملاتها لأكثر من ألف مليار دولار سنويا. كما أدخلت نقاط الشراء في عمليات البيع والشراء بشركات الطيران والفنادق، حيث تستطيع أن تشتري بهذه النقاط تذاكر جديدة. ويمكن أن تحدد البطاقة النقدية الذكية الجديدة كمية الشراء ونوعيته. فالبطاقات النقدية التي تعطى للطفل في اليابان تحدد نوعية الأكل الذي يمكن أن يشتريه، والوقت الذي يشاهد فيه فلما سينمائيا، ونوعية الفلم، فمثلا لا يستطيع الطفل شراء أغذية تحتوي على كمية كبيرة من الدهون. وقد أصبحت مشكلة سرقات النقود والبطاقات النقدية مشكلة أخرى، لذلك قامت البنوك اليابانية باختراع بطاقة تتعرف على صاحبها من خلال توزيع شبكة الأوعية الدموية في الأصبع. كما تم اختراع نقود الكترونية خاصة بتعاملات الشركات اليابانية مع موظفيها. كما سيأتي اليوم الذي تكون محفظتك مليئة بالنقود الالكترونية، وقد تكون تلك المحفظة ضمن هاتفك النقال. كما ستتغير طريقة شراء العمالة، فبدل أن يعمل الموظف شهرا كاملا ليحصل على راتبه، سيتطور نظام العمل الالكتروني، فسيقوم الموظف بعمله من خلال الانترنت، ويتم الدفع الالكتروني ساعة بساعة في الحساب الشخصي، وبدون أن تلامس اليد للنقود.
وبداء العالم تاريخ تعاملاته التجارية بالمقايضة، أعطيك سلة بيض وتعطني كيس من الحنطة، أعطيك درس في اللغة العربية وتعطيني درس في لعبة الشطرنج. ويبدو كأن التاريخ سيعيد نفسه بطريقة جديدة حيث ستكون المقايضة تجارة هامة. ويقدر اليوم بأن حوالي ثلثي الشركات العالمية تتعامل بالمقايضة. ففي عام 2002 قبلت شركة تويوتا لصناعة السيارات مقايضة البرازيل بالحبوب كبدل لقيمة السيارات. وحينما زادت ديون الغاز الطبيعي على اوكرانيا، قبلت روسيا مقايضتها بطائرات تي يو 160. وتقدر قيمة تجارة المقايضة العالمية بأكثر من ألف ومائتي مليار دولار سنويا. وقد سهل الانترنت عملية المقايضة وانتشارها بين الناس. كما طورت بعض المجتمعات طرق جديدة للمقايضة، فمثلا بمدينة اثيكا الأمريكية، يستطيع تجار المدينة تبادل البضائع بورقة تعهد شخصي مقدرة للقيمة ممكن مقايضتها مستقبلا ببضاعة أخرى، كما يتبادل الأفراد الخدمات الخاصة.
فتلاحظ عزيزي القارئ بأن تكنولوجية المعرفة ستخلص الاقتصاد الوطني من تكاليف كبيرة وستغير الكثير من أساسيات الرأسمالية. فمع الوقت سيتخلص العالم من الكثير من الأسواق والخدمات المالية التقليدية. كما ستوفر سوق الانترنت العمالة المتخصصة، حيث سيقوم الموظف بالعمل من مسكنه، وتنتهي الحاجة للمكاتب وما يرافقها من تكلفة وتلوث للوصول إليها. ويعلق الكاتب الأمريكي الفن توفلر قائلا، quot;ومن الواضح بأن تعريف الرأسمالية سيحتاج إلى مراجعة، وحينما تكتمل هذه المراجعة، هل ما سيتبقى منها سيكون الرأسمالية التي نعرفها؟quot;
والسؤال المطروح لعزيزي القارئ هل ستبدأ الدول العربية بتهيئة اقتصادها للتغيرات الرأسمالية المرتقبة؟ وهل ستحول كل مواطن لزبون لأسواق المعرفة، بتوفير خدمات الانترنت المجانية بالتلفون الجوال الشمسي؟ وهل ستجني شركات الانترنت ثروتها من خدمات الإعلانات والتعاملات التجارية؟ وهل من الممكن أن نتصور كم ستجني هذه الدول من ثروة المعرفة المستقبلية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه