يتناول هذا المقال أحد المواضيع الأساسية التي لا زال النقاش محتدماً حولها في العراق والتي تضمنها مشروع قانون الانتخابات لمجالس المحافظات (الذي قدمته الحكومة). وأتوقع أن يؤدي تبني القائمة المفتوحة، إضافة الى منع استخدام الرموز والمراكز الدينية في الحملة الانتخابية والتي سأتناولها في مقال قادم، الى إحداث انعطاف إيجابي كبير في سير العملية السياسية الراهنة في العراق. وقد أرجأت رئاسة مجلس النواب التصويت عليه الى 15 تموز (يوليو) القادم، لتمنح الكتل السياسية مهلة إضافية لحل خلافاتها القوية حول الموضوع. إن الموقف الواضح تفرضه في رأيي النظرة الموضوعية ولا يمنع من افتراض حسن النية لدى مختلف القيادات السياسية وجل ما أتمناه هو أن يساهم هذا المقال في إغناء النقاشات الجارية.
المحاصصة والقائمة المغلقة
يبدو واضحاً على المشهد السياسي العراقي أن الجميع تقريباً بدأ يتنصل من المحاصصة بل يصفها بالمقيتة، الا أن بعض الشخصيات السياسية المستفيدة منها تعارض إلغاء القائمة المغلقة مع أنه سيساهم كما سنرى في القضاء على أسسها. وتقوم المحاصصة على تقاسم السلطة ليس بين أبناء المكونات الأثنية والدينية كما يدعي أصحاب الديمقراطية التوافقية بل بالضرورة بين من يمثلون هذه المكونات أو يدعون تمثيلها في ظروف توارث تقليدي للسلطات المحلية وانفصالها النسبي عن بعضها. بينما لا توجد في العراق سلطات تقليدية تحكم هذه المكونات (سنة أو شيعة أو كرد) بل هناك مثلاً سلطات دينية (مراجع) وقيادات عشائرية (مُتوارثة) عربية أو كردية، لا يملك أي منها زمام حكم مُتوارث لأي من هذه المكونات الثلاثة الرئيسية.
ولذلك فقد زُرعت المحاصصة في غير أرضها فزادت من مساوئها بل وأصبحت مخربة لتماسك البناء الوطني العراقي. أما القائمة المغلقة، فرغم أنها قامت بدور ما في تسهيل الانتخابات الماضية، فقد ساهمت أساساً في تكريس القيادات القائمة على التخندق الضروري لقيام المحاصصة وسهلت تقاسم السلطة باسم التوافق، مع ما جرته من ويلات أقلها انعدام الكفاءات وسوء الأداء على أعلى مستويات الإدارة إضافة الى انتشار الفساد مما ساهم بالتأكيد في ابتعاد الجماهير عن الطبقة السياسية بحيث بدت ملامح الخطر في الانتخابات القادمة على نفس القيادات (المستفيدة حالياً من القائمة المغلقة)، إذ قد يؤدي سخط الناخبين من ممثليهم الى ترك قائمتهم برمتها واختيار قائمة أخرى أو بالعزوف عن المشاركة أصلاً في الانتخابات. ولذلك فان مصلحة الوطن والعملية السياسية وحتى القيادات المختلفة تفرض ترك القائمة المغلقة.
إضافة لما سبق، يمكن اختصار المضار الأساسية للقائمة المغلقة كما يلي:
1- القائمة المغلقة تشوه حقيقة الصراع السياسي حيث تفرض قيادات المكونات الاجتماعية لنفسها مع التابعين لها كممثلين للمكونات ولا تترك لأفرادها إلا انتخابهم كسلة واحدة وبالتالي تؤدي إلى ظهور نوع من حكم الحزب الواحد كلّ في منطقته أو مُكونه quot;التابعquot; له. بينما تكمن مصلحة العملية السياسية الراهنة في التناوب على السلطة بين تنظيمات وأحزاب سياسية حقيقية قائمة على مواقف فكرية مختلفة وبرامج وطنية (أي مرتبطة بالوطن الواحد حتى لو كان بعضها يدافع عن مطالب محلية).
2-تشوه القائمة المغلقة الوعي السياسي للمواطنين الناخبين لأنها تنمي إحساسهم بانتمائهم الى هذا المكون المذهبي أو القومي وتوهمهم بأنهم إن كانوا أبناء مخلصين لمذهبهم أو قوميتهم فعليهم تسخير الانتخابات لصالح انتماءاتهم الجزئية وتعزيزها quot;وفرضquot; الاستجابة لمطالبها quot;المشروعةquot; على الآخرين. ورغم مشروعية الدفاع عن مصالح قومية أو مناطقية أو محلية لكن تفضيل الجزء على الوطن أمر آخر ويجب إدانته لأنه يتم على حساب الوعي السياسي الوطني القائم على فكر تنظيمي عقلاني وعلاقات متوازنة وبرامج لتحقيق مصالح يومية ومستقبلية لمختلف أبناء البلد.
3-تمنع القائمة المغلقة من تشكيل طبقة سياسية حقيقية لأن المرشحين في القائمة يأتون أكثر بفضل (الزعيم القائد) أو زعامات القائمة، كبرت أو صغرت إمكانياتهم أو قدراتهم على إقناع الناخبين وبالتالي تزداد نسبة ما يمكن تسميته (بالبطالة السياسية المقنعة) لكثرة الإمّعة وضعف المستوى الفكري وانتشار الفساد. ويشكل الفساد أهم الظواهر المرتبطة بالمحاصصة حيث تغطي كل جهة على مفسديها وتقايض الأطراف الأخرى للحصول على السكوت المشترك على المفسدين من مختلف الأطراف. ولا ينبغي الخلط هنا بين وجود مثل هذه الظواهر في مختلف البلدان الديمقراطية بشكل محدود وعابر واستفحالها في ظل المحاصصة وقائمتها المغلقة مما يجعلها ظاهرة سرطانية عدوة للعملية الديمقراطية الجارية. وينطبق نفس الأمر على النساء الناشطات في البرلمان وفي المواقع العليا في الدولة، فقد دمرت المحاصصة فوائد التمييز الايجابي (النسبة المفروضة) عندما وصلن الى هذه المواقع بإرادة رؤساء الكتل quot;الممثلةquot; للمكونات الاجتماعية وليس باختيار الناخبين لهن. ورغم تميز بعضهن في مجلس النواب، إلا أن المهم هو تقييم الوضع العام.
4-ومن أهم أضرار القائمة المغلقة أنها تعزز تقسيم العراق على أساس طائفي أو قومي لما تكرسه من قيادات زعامية لهذا المكون أو ذاك، حيث تقف مع معاونيها على رأس القوائم وفي حالة نجاحها المتكرر في الانتخابات سيتكون في هذا البلد وفي ظل quot;الديمقراطيةquot; ما يشبه الإقطاعيات السياسية تتحكم في مناطقها (على حساب التيارات العديدة الموجودة فيها) وتؤخر عملية تماسك الصف الوطني. وبالتالي أصبحت الفيدرالية بكل مزاياها بعبعاً بالنسبة للكثيرين ممن يتخوفون من الانحدار الى تقسيم العراق. ورغم وجود مواقف مسبقة لدى بعض خصوم الفيدرالية فلا يمكن إنكار مشروعية التخوف حالياً من تحول المحاصصة والقوائم المغلقة (على زعاماتها) وما تعنيه من تقاسم للمناصب الى اقتسام أكبر لفضاءات الإقليم العراقي.
في مقابل ذلك، فان القائمة المفتوحة
1-تعطي الناخب حقه الطبيعي في انتخاب هذا المرشح أو ذاك وتساهم في تنمية وعيه السياسي الديمقراطي كونه هو صاحب الحق في اختيار ممثليه بدون وصاية من أحد، وهذا لا ينفي إمكانية لجوء الناخب الى من يرشده بل ربما من يضلله ولكن على الأقل تضع القائمة المفتوحة هذا الناخب على الطريق الصحيح أمام مسؤولياته بتعويده تدريجياً على اتخاذ قراره بمسؤولية وبوعي لأهمية دوره في العملية السياسية.

2-تقدم البلد نحو الوضع الصحي إذ تساهم في تكوين طبقة سياسية واعية لمسؤولياتها أمام ناخبيها وتسمح بتشذيب وتنقية العملية السياسية من خلال الانتخابات. وهذا ما سيدفع الكفوئين من الطبقة السياسية الى المزيد من الجهد الفكري والعملي للارتقاء في عالم العمل السياسي الرحب وخدمة البلد.
3-وبالتالي، فان القائمة المفتوحة ستساهم في ارتقاء المرأة السياسي والاجتماعي لأنها ستزيد من عدد الكفوءات العاملات على الساحة السياسية مهما كانت انتماءاتهن الاجتماعية والفكرية، وهن اللواتي سيقدمن النموذج المقنع (في عيون بقية أفراد المجتمع) بضرورة ارتقاء المرأة ودورها السياسي وبضرورة الاستمرار في هذه العملية الحضارية.
وأخيراً، ورغم اقتناعي التام بأن المسيرة نحو الديمقراطية طويلة ومتدرجة، إلا أن حاجتها الى النقد والمراجعة تشكل ضرورة لاستمرارها. لذلك نقف اليوم في العراق على منعطف خطير وقد يساعدنا القرار الصحيح على بداية التخلص من المحاصصة المقيتة كما تسمى باعتراف الجميع، ولذلك نتوقع أن تحصل القائمة المفتوحة على موافقة مجلس النواب لأن مستقبل العراق ومصداقية العملية السياسية والتنمية الديمقراطية هي الأهم من كل الاعتبارات الأخرى، أليس كذلك ؟