نضال وتد من تل أبيب: أطلق البيان الرسمي الذي صدر ظهر الأربعاء في كل من دمشق والقدس وأنقرة، العنان للمحللين والمراقبين السياسيين، كما للسياسيين للخوض في الشأن السوري ndash; الإسرائيلي ومحاولة التكهن بمدى جدية النوايا السورية الإسرائيلية في التوصل إلى اتفاق سلام، أو خوض غمار معارك مفاوضات بين الطرفين، من جديد بعد توقف دام 8 سنوات منذ أفشل براك في الدقيقة التسعين مساعي التوصل إلى اتفاق سلام بين البلدين في شيبرد ستون.

وخاض المحللون والمراقبون في دواعي ودوافع كل من أولمرت (ورطته مع ملفات فساد ورشاوى، واهتزاز ائتلافه الحكومي، وفشله في إخضاع حماس والبحث عن إنجاز دبلوماسي يخفف عنه الضغوط الممارسة عليه) والرئيس الإبن بشار الأسد ( توقه لإخراج سوريا من عزلتها الدولية، وفك المقاطعة الأميركية له، وتعزيز النظام في سوريا)، لينتقلوا بعد ذلك إلى البحث في فرص واحتمالات نجاح هذه المفاوضات وسيناريوهات الحل الممكنة بين الطرفين. لكن التصريحات الأولية التي أعقبت البيان الاحتفالي، سواء تلك الصادرة من دمشق بوجود تعهد إسرائيلي بالانسحاب من الجولان إلى حدود ما قبل الرابع من حزيران 67، أو تلك الصادرة من تل أبيب بأن الاتفاق بين الطرفين هو البدء بمفاوضات بنية حسنة ودون شروط مسبقة مع علم الطرفين الإسرائيلي والسوري بالثمن المطلوب من كلا الطرفين يمكن لها أن تشكل بذرة الشقاق الأولى، أو السند الأهم الذي سيرجع إليه الطرفان، في حال تكرر سيناريو شيبارد ستون، وأقفل الباب أمام اتفاق إسرائيلي سوري في الدقيقة التسعين.

عقبات إسرائيلية أمام الاتفاق

أولمرت: يجسد رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت بشخصه العائق الأول الذي يمكن له أن يفجر المسار السوري الإسرائيلي ووضع له نهاية أولى، أو قل مؤقتة، في حال تمخضت التحقيقات الشرطية ضده عن تقديم لائحة اتهام ضده، ففي هذه الحالة سيستقيل أولمرت من منصبه، سواء كان ذلك بمحض أرادته، أم تم فرض الاستقالة عليه من قبل حزبه، أو بإسقاط الحكومة، في مثل هذه الحالة يدخل إسرائيل في انتخابات نيابية جديدة تستغرق بين ثلاثة إلى أربعة شهور، يكون فيها أولمرت رئيسا لحكومة انتقالية تتمتع قانونيا بكافة الصلاحيات، لكنها ستفتقر إلى شرعية جماهيرية، وبالتالي سيكون بمقدور كل حكومة جديدة أن تتنكر للاتفاقات السابقة أو التفاهمات التي تم التوصل إليها بدعوى أن الحكومة الانتقالية لم تكن مخولة شعبيا بإنجاز اتفاق سلام نهائي مع سوريا.

وحتى لو صمد أولمرت، وأسفرت التحقيقات الشرطية عن تبرئة ساحته، امتدت للعام القادم،2009، فإن ذلك وإن أبقى على أولمرت على رأس الحكومة، إلا أن ظلال الشك بنزاهته ونظافة كفيه ستبقى تحوم حوله، ولن يكون قادرا على الترويج لاتفاق يعيد الجولان بأكمله، لافتقاره، على عكس شارون ورابين، وحتى نتنياهو وبراك، إلى التجربة والرصيد العسكريين أولا وإلى الشخصية الكارزمية ثانيا. صحيح أن أولمرت أثبت أنه سياسي محنك لا تهزه الضربات، لكنه لن يقوى على تمرير اتفاق داخل حزبه في ظل المعارضة الداخلية التي بدأت تباشيرها تخرج إلى النور، ليس فقط على خلفية الرشاوى والفساد وإنما أيضا على خلفية الطروحات السياسية والأمنية له. فلن يكون بمقدور أولمرت أن يفر من مصائبه إلى المسيرة السلمية مع سوريا، على غرار ما فعل شارون في قطاع غزة بسبب الاختلافات الموضوعية بين المكانين، فإذا كانت غزة تشكل كابوسا للإسرائيليين، فإن الجولان بنظرهم المتنزه القومي الأجمل، وموطن الطبيعة البكر، عدا عن أهميته الاستراتيجية والأمنية واحتضانه لمصادر المياه المستقبلية لإسرائيل.

ليفني موفاز وبراك

يشكل الثلاثي ليفين وموفاز وبراك، عقبة رئيسية أخرى داخل حكومة أولمرت أمام المضي في المفاوضات السورية الإسرائيلية إلى شط وديعة رابين، فليفني التي كانت quot;آخر من يعلمquot; بالتطورات على محور دمشق تل أبيب، لا تملك تطابقا في وجهات النظر- سياسيا وأمنيا- مع أولمرت لا على المسار الفلسطيني ولا على المسار السوري، ويدل تصريحها الأولي أمس، وما أدلت به اليوم خلال لقائها بوزير الخارجية الفرنسي كوشنير، حيث طالبت سوريا باعتزال المحور الإيراني، من جهة، وتركيزها على احتياجات الأمن الإسرائيلية، على أنها، وخصوصا في حال لم تحظ بوراثة أولمرت، أو طال انتظارها لوراثته، قد تكون أول المعترضين، في الدقيقة التسعين، على مسار التسوية المقترح quot;وديعة رابينquot;، فقد سبق لها أن عارضت في حكومة نتنياهو، وهي لن تعدم التلويح باحتياجات إسرائيل الأمنية وأولها بقاء إسرائيل في جبل الشيخ ووضع قواعد للإنذار المبكر، وعدم العودة لحدود ما قبل الرابع من حزيران، وهناك طبعا دائما الورقة الإيرانية وquot;الخوف من تواجد إيران على الهضبة المطلة على الجليلquot;.

ولا يختلف الأمر لدى موفاز، الذي يتمتع بعكس أولمرت رصيد وسجل أمنيين من أعلى درجة، فالرجل كان رئيسا لهيئة الأركان، ووزيرا للدفاع، وبالتالي، فإن تصريحاته اليوم، من عدم السعي والركض لتسليم الجولان للمحور الإيراني، وتعريض أمن إسرائيل ومواقعها الاستراتيجية، ومواردها المائية للخطر، يعكس في الواقع رفضا مبطنا، لا يرى موفاز حاليا داعيا لإظهاره علانية، فهو مضطر إذا رغب بوراثة أولمرت، إلى عدم فتح جبهة على نفسه داخل صفوف الحزب، وبالتأكيد ليس من طرف أولمرت، وإنما يسعى للتقرب من الأخير، في ظل الهوة السحيقة الآخذة بالاتساع بين أولمرت وليفيني.

يقول المثل الشعبي quot;لا تجرِب مجربquot;، وينطبق هذا المثل أكثر ما ينطبق على إيهود براك بتجربته العسكرية وغروره الشخصي واعتداده بنفسه. فقد هبط براك إلى مقاعد الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى ، مقتحما السياسة الإسرائيلية بعملية إنزال محكمة خططها ونفذها رئيس الحكومة الإسرائيلية، في تموز 1994، إسحاق رابين. وكان رابين بحاجة لبراك ليدعمه في اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين من جهة، وفي المفاوضات مع سوريا منجهة أخرى، لأن حكومته اعتمدت على دعم النواب العرب من جهة، ولأن نائبه ووزير خارجيته آنذاك شمعون بيرس، لم يكن موضع ثقته. لكن براك أدار ظهره لرابين في أول فرصة فامتنع عن التصويت مع اتفاق أوسلو، واحتفظ لنفسه بمساحة (في اليمين) من مواقف رابين التي بدت في عيون الإسرائيليين حمائمية أكثر مما يجب.

عندما فاز براك برئاسة الحكومة الإسرائيلية، في العام 2000، واستأنفت المفاوضات على المسار لسوري، كان أول ما فعله هو التنكر لوديعة رابين، صحيح أنه تمكن من زرع الوهم، إعلاميا ودوليا بأن حكومته ستكون هي التي ستوقع على اتفاق سلام مع السوريين، لكنه عاد ووضع العقدة في المنشار في الدقيقة التسعين. فقد كشفت المستشار السابق للرئيس الأمريكي كلينتون، بروس رايدل، في حديث مع موقع يديعوت أحرونوت اليوم، إن براك كان المسؤول عن تعثر مفاوضات شيبردس تاون، فهو quot;لم يكن مرتاحا لوديعة رابينquot; وخانته الشجاعة في الدقيقة التسعين، ورفض انسحابا حتى حدود ما قبل الرابع من حزيران، عارضا انسحابا إسرائيل إلى quot;الحدود الدولية لفلسطين الانتدابيةquot;، وهو ما يبقي بحيرة طبريا كاملة ونهر الأردن داخل حدود إسرائيل. وهذا هو عمليا السياق الوحيد لتصريح براك اليوم، بأنه سيكون على الجانبين تقديم تنازلات مؤلمة، فبراك لن يتراجع في حكومة جذورها ليكودية عن موقف متشدد لحكومة quot;حمائميةquot; كان رئيسها.

ولعل ما يزيد من تشدد براك اليوم، هو الظروف الإقليمية الجديدة في المنطقة، من ظهور إيران كلاعب رئيسي، من جهة، وخسارة سوريا للورقة اللبنانية، من جهة أخرى.

الرأي العام الإسرائيلي والتشريع البرلماني

يشكل الرأي العام في إسرائيل، وفق الاستطلاعات التي تجريها الصحف اليومية، بارومترا يكشف ويعكس المزاج الإسرائيلي العام، لكنه لا يعكس بالضرورة موقفا عاما ثابتا يمكن الاعتماد عليه لقراءة الموقف الإسرائيلي الشعبي، فهو يتغير بين لحظة وأخرى، ويكفي أن تقع عملية عسكرية أو انتحارية داخل العمق الإسرائيلي ليرتد الشارع الإسرائيلي إلى اقصى اليمين، كما حدث بعد اغتيال رابين، حيث كانت عدة عمليات انتحارية كافية لنقل نتنياهو من صفوف المعارضة إلى الحكومة على الرغم من صدمة اغتيال رابين، وقد تمكنت ماكينة دعاية نتنياهو التي اعتمدت على الترهيب من تغيير حال الإسرائيليين من البكاء على رابين واحتضان خليفته، بيرس، إلى قرع طبول الحرب والانتقام من الفلسطينيين.

وتشكل هذه النقطة عمليا، نقطة الضعف الرئيسية التي يواجهها كل رئيس حكومة إسرائيلي يفكر بالسير على نهج رابين. ومن هنا فإن نتائج الاستطلاعات اليوم، في الصحف الإسرائيلية المختلفة، وبفعل تأثر لجمهور الإسرائيلي العام، بالدعاية الإسرائيلية، وفي مقدمتها دعاية أولمرت، بشأن الخطر الإيراني، لم تجد أكثر 48% الإسرائيليين ، وبضمنهم الفلسطينيين في الداخل، يؤيدون تقديم تنازلات في الجولات، أو انسحاب من الجولان وليس انسحابا من كامل أراضي الجولان، ويكفي هذا المعطى، دون حاجة للخوض في تفاصيل الأسئلة الافتراضية الأخرى، للاستنتاج أنه لا يوجد في إسرائيل اليوم تأييد كبير لعملية سلام مع سوريا تدفع فيها إسرائيل الثمن الكامل المطلوب منها، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن السرعة التي تمكن فيها عضو الكنيست من الليكود، إلياهو غباي، من جمع تواقيع 57 عضو كنيست يؤيدون سن قانون ينص على ضرورة الحصول على أغلبية ثلثي أعضاء الكنيست للمصادقة على الانسحاب من الجولان، ورهن ذلك باستفتاء شعبي، توضح مدى صعوبة التوصل إلى الاتفاق المأمول، من وجهة النظر السورية.

لماذا انطلقت المفاوضات إذا

في ظل ما ذكر أعلاه، وفي حال انطلقت المفاوضات فإن السؤال المحوري والأساسي هو ما الغاية منها ومن الرابح في نهاية المطاف. فإذا أخذنا بالحسبان الإصرار السوري، كما جاء على لسان الوزير وليد المعلم، على الانسحاب الكامل من الجولان، إلى حدود ما قبل الرابع من حزيران، ومعرفة طاقم المفاوضات السور ي، بطبيعة الحال بمجريات المفاوضات السابقة، مع ربط ذلك بالعقبات المحتملة من الجانب الإسرائيلي، في ظل المستجدات الإقليمية، فإنه من الواضح أن سوريا، وإن كانت جادة في سعيها لاستعادة الجولان كاملا، تعول على تحقيق مكاسب وأهداف مرحلية على المدى القصير لا تضر بهدفها الاستراتيجي، وهي مكاسب وأهداف يمكن إجمالها على النحو التالي:

إن مجرد الإعلان عن إطلاق المفاوضات، بين سوريا وإسرائيل، يعيد سوريا إلى مقدمة المسرح الإقليمي، ويكسر طوق العزلة الذي فرضه عليها بوش الإبن بدعوى محاصرة المحور الإيراني، ويعيد سوريا إلى قلب الحدث والصورة، ويمنحها شرعية للإدلاء بدلوها بالمستجدات والتطورات الإقليمية، وعلى رأسها ما يحدث في لبنان، خصوصا بعد أن بدا أن سوريا خسرت الورقة اللبنانية كليا.

المكسب الثاني، والمشتق من الأول، هو استعادة ولو تدريجية، لدور سوريا ومكانتها الإقليمية، دون أن تضطر على تقديم إيران على مذبح المفاوضات مع إسرائيل، بل على العكس، تكون إيران الورقة الرابحة، تكتيكيا، في وجه إسرائيل، بعد خسارتها للورقة اللبنانية.

إذا تمكنت سوريا من تحقيق المكسبين السالفين فإن ذلك سيعزز من قوة نظام الرئيس بشار الأسد على الساحة الداخلية، في سوريا، خصوصا في حال تعثرت المفاوضات في الدقيقة التسعين، حيث يكون بمقدور سوريا والرئيس الأسد أن يؤكد أنه لم يفرط رغهم كل ما عرض على سوريا، بشبر من الأرض السورية، من جهة، كما أنه لم يدخر جهدا في السعي للوصول إلى تسوية سلمية مع إسرائيل، مع تثبيت وديعة quot;رابين من جديدquot;، كنقطة انطلاق لأي مفاوضات إسرائيلية.

في المقابل، وفي الطرف الإسرائيلي، فقد حقق أولمرت هدفه الأول، بلفت الأنظار عن quot;ورطتهquot; الحالية، حتى وإن كان بالإمكان القول إن حسم موعد إصدار البيانات الثلاثة، كان مقصودا أمس، للتغطية على رفع حظر النشر عن الشبهات الدائرة حوله. صحيح أن الساحة الحزبية الإسرائيلية، لم تقع سبية الإعلان وسارعت لربطه بالتحقيقات الجارية مع أولمرت، الذي يفترض أن يمثل الجمعة، لجولة أخرى من التحقيق، إلا أنه لا يمكن التنكر لحقيقة تسليط الضوء على المسار السوري- الإسرائيلي بدلا من التحقيقات مع أولمرت.

إلى ذلك فإن الورقة السورية، تشكل بالنسبة لأولمرت ورقة يلوح بها في وجه حماس إذا أصرت الأخيرة على مواقفها الحالية وعلى شروط التهدئة التي تضعها، وبالتالي فإن الانفراج على الجبهة الشمالية، مع ما يرافقه من جو دولي عام مساند لإسرائيل، يسهل على أولمرت، في حال اتجه نحو حسم عسكري مع حماس، القيام بالمهمة، دون أن يخشى ضغوطا دولية أو حتى عربية ( من الدول الصديقة)، لا سيما وأن انطلاق المفاوضات لا يلزم أولمرت بجدول زمني له سقف لموعد أخير للوصول إلى اتفاق.