المتأمل للصورة الآن في شرقنا يجد أن تحالف فلول الناصريين أبطال خيبة 67 والشيوعيين المندحرين باتساع كوكبنا وقطعان القوميين والبعثيين الرثة مع المارد الأصولي الذي أطلقه ركودنا الطويل من القمقم، هذا التحالف الذي أطلقنا عليه "الفاشيون الجدد" - ربما افتراء على الفاشية التي لم تكن قطعاً بهذا القدر من الدموية والنذالة – يأخذ الآن موقع الصدارة في العالم على مستوى الفعل، في حين يأخذ بقية العالم، وعلى رأسهم القوى العظمى موقع رد الفعل، حتى ما يعرف بالحروب الاستباقية التي تشنها أمريكا وحلفاؤها، هي في الحقيقة ليست أكثر من رد فعل لمبادرات "الفاشيون الجدد" الجسورة، سواء على المستوى العسكري بقيادة أمراء الموت والذبح، أو المستوى الإعلامي والدعائي بقيادة أذناب الحكام المرتعبين على كراسيهم، ومرتزقة الدولارات النفطية، والنتيجة الواضحة أن العالم المتحضر يرقص على أنغام شرقية لأول مرة منذ قرون، وهذا بلا شك مدعاة لفخر الفاشيين الجدد، لكن مع الأسف لن يدوم هذا الفخر طويلاً، فقوى الحضارة لن تستمر طويلاً في رقصها على أنغام الموت والكراهية التي يعزفها الفاشيون الجدد، وسرعان ما ستأخذ زمام المبادرة، فالتاريخ يعلمنا أن موكب البشرية قد يتعثر، وقد يتلكأ، لكنه أبداً لن يغير اتجاهه إلى الخلف.
في الصورة أيضاً جماهير غفيرة مؤيدة ومتحمسة، وجماهير راضية بلا حماس، وفى ركن قصي لا يكاد يرى من الصورة أغلبية صامتة مستسلمة لقدرها، فقدت مجرد الأمل في أن تصبح حياتها جديرة بأن تعاش، وربما أقنعت نفسها بأن هذا هو نصيبها من الدنيا، ومن الكفر أن تتمرد عليه بلا طائل، لأن هذه هي إرادة الله التي لا راد لها.
هل فاتنا أن نثبت في الصورة شرفاء أفراداً هنا وهناك، وحراكاً اجتماعياً يحدوه أمل وإصرار على التغيير الشامل الكامل لكل ما سبق وأثبتنا؟
نفتقد ولا شك الأرقام والإحصائيات التي تجعل صورتنا أكثر دقة، وربما ادعى البعض أن الواقع ليس بمثل هذه القتامة، فليكن، فما يعنينا هنا أنها مجرد صورة ثابتة، لقطة آنية، يلزم لقراءتها الصحيحة أن نقدر نوعية وحجم تغيرها مع الزمن، فالخبر الذي نعرفه من صورة إنسان ملقى على الأرض لا بد لكي يكون دقيقاً أن نرفق بها صوراً أخرى للحظات تالية، فقد تأتي الصور التالية بذات الشخص محمولاً ليدفن، وقد تأتي به يستفيق ويتعافى.
لنحاول أن نستشرف مصير هذا التحالف غير المقدس بين الفاشيين باختلاف أنواعهم، ولنضع ما يمكن أن نطلق عليهم الفاشيون العلمانيون في جانب، وهم الماركسيون والناصريون والقوميون، وفي الجانب الآخر الفاشيون الأصوليون.
هناك مثل شعبي يقول: ما الذي جمع الشامي على المغربي؟
الذي جمع الشامي على المغربي هو الانتهازية، ولنتأمل موقف كل طرف:
•الفاشيون العلمانيون: كانوا أمل الجماهير - فيما بعد الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص – في حياة أفضل، وفي التحرر الوطني، وإحياء الثقة والاعتزاز بالذات، والقدرة على الوقوف نداً لند أمام الآخر القوي والمتحضر، وراجت أحلام الاشتراكية الوردية، سواء العلمية منها أم غير العلمية، فحلمت الجماهير في مصر مثلاً بتماثيل رخام على الترعة وأوبرا في كل قرية عربية، صدقت القائد الملهم وزبانيته وأذياله من مرتزقة المطربين والشعراء والملحنين، وحلمت واستغرقت في الحلم، لتستيقظ على ما سمي نكسة لم تستوعب أبعادها للوهلة الأولى، واستمرت كوكب الشرق تقول: ابق فأنت حبيب الشعب، حتى رحل حبيب الشعب بأزمة قلبية، ولم يرحل خزياً من عار هزيمته، فقد أتاحت له سذاجة شعبه وكفاءة مرتزقته، أن يخلع برقع الحياء كما يقولون.
لكن بمضي الأيام فقد الشعب ثقته في نفسه، وثقته في أي خير يمكن أن يرجى من حملة شعارات العروبة والوحدة والاشتراكية وما شابه، ليس في مصر وحدها ولكن في كل أنحاء شرقنا العامر بالأشاوس، لكن وهذا هو المهم بقيت أحلام العدالة والرخاء والعزة صفحات عزيزة مطوية بعناية داخل النفوس، في انتظار أن يستجيب القدر.
•الفاشيون الأصوليون: الشرقيون عميقو الإيمان، فهنا نشأت جميع الأديان، سواء الإبراهيمية التي غزت جميع أنحاء العالم، أو الديانات التي بقيت محلية يتبعها الملايين أو المليارات من البشر، لكن النزعة الإيمانية العميقة لم تصرف الشرقيين عن الاهتمام بدنياهم، ولم تمنعهم من تأسيس حضارات على مر التاريخ، وبعد أن انزاح كابوس الإمبراطورية العثمانية عن كاهل الشرق، تطلعت الجماهير كما قلنا لغد أفضل على يد الدعوات العلمانية، فيما بقي الإيمان العميق في النفوس يصل الفرد بربه، وكانت نظرة عامة الناس إلى من يغالي أو يتطرف في التدين بأنه " درويش "، وهي النظرة التي نستطيع نحن أن نصفها بأن مثل هذا الإنسان قد اختلطت في عقله الأمور، ولم يعد قادراً على التفريق بين أمور الدنيا والدين، وهي التفرقة التي نتصور أنها كانت شديدة الوضوح في ذهن الجماهير البسيطة في القرى والنجوع في أنحاء البلاد (على الأقل مصر).
وحين فقد الناس الثقة في أشاوس المشروع العلماني، ظهر مجاهدو التفسيرات المتطرفة للدين، الدراويش، من كانوا قبلاً محط إشفاق وسخرية الجماهير، ليجدوا الأرض ممهدة: جماهير عميقة الإيمان بالفطرة، وآمال بلا رموز ولا قادة لتحقيقها.
كان من الضروري لالتفاف الجماهير حول القادة الجدد، أن يتم تدعيمهم بمقولات وآمال الحياة الدنيا، والتي احترف تسويقها السادة الفاشيون العلمانيون – القابعون الآن انتظاراً للفرج – لتكون بجانب مقولات السلفيين عن الحياة الآخرة، والجهاد ضد الآخر، الذي سيأخذ فيما لو تم التحالف بين الأشاوس القدامى والجدد لقب: استعماري-كافر، وهو الأمر الكفيل بتقوية العداء والمواجهة، وقد استندت على أسس دينية دنيوية، وكانت هذه فرصة ذهبية لأرامل الناصرية ومن على شاكلتهم، إذ سيستعيدون مواقعهم لدى الجماهير التي لفظتهم، وسيشاركون مجاهدي الأصولية في الدولارات النفطية المتدفقة بعد ارتفاع أسعار البترول عام 1973 ، ورغم نظرة الاحتقار التي يكنها الأصوليون لأشاوس العلمانيين، باعتبارهم كفرة أولاً، ولأنهم فاشلون ثانياً، إلا أنه لم يكن لديهم مانع من أن يتركوا لهم دور الكومبارس، أو كذاب الزفة بالتعبير المصري العامي، خاصة وأن لديهم خبرات يعتد بها في خداع الجماهير والتلاعب بمشاعرها، علاوة على سيطرتهم على وسائل الإعلام القائمة، وقدرتهم على إنشاء المستحدث منها، وهنا كان التحالف غير المقدس!!
والآن هنالك عدة تساؤلات:
•هل يمتلك هذا التحالف مقومات الانتصار النهائي وتحقيق أهدافه، على الأقل في جانبها السلبي، وهو تدمير الحضارة الغربية، بغض النظر عن الجانب الإيجابي، وهو تحقيق مشروعه الخاص غير محدد المعالم حتى الآن في جانبه الدنيوي على الأقل؟
•هل سيستمر التأييد الجماهيري الواسع الحاصل الآن للتحالف الفاشي، أم هو مرشح للانحسار، وربما الانقلاب إلى الضد؟
•هل سيستمر هذا التحالف الانتهازي بين شقي الفاشية الجديدة على تماسكه في مواجهة الزمن، وما يواجهه من قوى الحضارة العاتية؟

هذه الأسئلة لا شك موضع دراسات علمية مستفيضة، ليس بالطبع في شرقنا الذي لا يعرف الدراسات، لكننا في حدود مقال نغامر بتبشير السادة الأشاوس بأنهم:
•لا يمتلكون مقومات الانتصار لأنه حكر على العلم والمتعلمين، وهم يمثلون الجهل والجاهلية في أبشع صورها، فالخنجر والحزام الناسف والسيارة المفخخة لن تهزم أو تكسر الإرادة العسكرية لأمريكا وحلفائها، ناهيك عن القوة الاقتصادية التي يمسك بمفاتيحها العالم الغربي.
•ستنفض عنهم الجماهير بعد ما جلبوا وسيجلبون عليها من ويلات، بل ستنقض عليهم لتذروهم، لتعود إلى إيمانها الفطري المسالم، المحب لله وللحياة وللبشر، وستتجه لتعمير الحياة، وزرع الفسائل حتى قيام الساعة، بدلاً من التدافع للموت تصديقاً لأمرائه المتحصنين في مخابئهم مع دولاراتهم.
•ستنفك عرى التحالف الفاشي القائم على الانتهازية، ويمكننا أن نرى صورة متوقعة، فيها ينقض الطرف الأقوى وهو الفاشية الأصولية على الطرف الأضعف والأقل جماهيرية وهو الطرف العلماني، ليجعل منهم كبش الفداء الذي يقدمه الأصوليون للجماهير في بدايات فترة الاندحار، ولا بأس أن يرفع ديماجوجيو الأصوليين شعارات أن ما حل بهم من خراب عقاب من الله على تحالفهم مع الكفرة الشيوعيين والناصريين والقوميين، ليبدؤوا وقد صاروا عاجزين عن ذبح الكفرة الأجانب في ذبح الكفرة المحليين زملاء الأمس.

لا أظن أن ما سلف مجرد أمنيات، بل صورة منطقية بادية في الأفق، تنقصها بعض الرتوش والتشطيبات، وتحديد التواريخ، بل ما أعتقده أن السادة "الفاشيون الجدد" أنفسهم يعرفون أنهم إنما يرقصون رقصة الموت، ولا يستمرون فيها إلا لأنهم أجبن من أن يواجهوا الحياة.

[email protected]