نعلم جميعا بان السلطة البائدة سعت الى إلحاق المثقف بها والعمل على تدجينه في أجهزتها البيروقراطية ومؤسساتها، والإغداق عليه كي لا يظل خارج أسرابها ، وحرصت على ان لا يظل هناك صوتا واحدا لا يمكن تطويعه وجذبه حتى لا يمتلك خصوصيته واستقلاله واجتهاده .
كما ان هذه السلطة التي عسكرت الثقافة العراقية ومقاوليها، وولفت جسمها بالمدائح والكابونات وفنادق الدرجة الأولى والثاليوم وكواتم المسدسات والولائم الباذخة والانتصارات الزائفة، وأخضعتها لتكتيكات الدفاع والهجوم بما يتناسب وخطوات القائد الضرورة، قلصت كل الفرص أمام الصوت الآخر سواء كان حزبيا او دينيا او عقائديا، وأغلقت كل المنافذ أمامه وغيبت صوته لتجره الى مساومات التطويع والشراء، فأصبح المثقف العراقي السياسي والديني على السواء، محجما ومكمما وتابعا، وأصبحت التعددية والجدل وثقافة التعايش والاعتراف المتبادل بالثقافات الأخرى داخل الوطن محاطة بجدار لايمكن اختراقه.
وسارت عملية تجفيف الحقل النقدي لنا ولغيرنا بطرق أحادية، لايمكن الخروج عنها، لان من يجرأ على الخروج تغدق عليه صفات التآمر والشعوبية والعلمانية، فأصبحت العديد من ثقافاتنا العراقية الاثنية والدينية خاضعة لمبدأ الوحدة القومية والحزبية من جانب، والقرآنية المتوارثة، وسلطة الملالي وقيودهم الدينية والتمسك بالفكر القومي العربي من جانب آخر، فجعلوا الحزب والدين الإسلامي في مقام فوق النقد على عكس ما هو سائد في البلدان الديمقراطية التي أقرت بالثنائية التاريخية والثيولوجية، واتاحت ظهور نقد خارجي للدين.
العلوم الإسلامية تسمح بالتعليق على الرسالة الربانية وبتأويلها بطرق ومذاهب واجتهادات متعددة، ولكن الحديث عن طبيعة واتجاهات ثقافات ومذاهب دينية وغير دينية أخرى، هي صياغات ظلت وحتى يومنا الحاضر مستبعدة من قبل الإسلام، وبقينا كأقليات ثقافية دينية بعيدين عن ممارسة النقد والمساهمة بالعطاء الا من خلال الواجهة التي يفرضها الأخ الكبير ومؤسساته المهيمنة.
وهذا الابتعاد الذي دام سنوات طويلة ترك آثاره في ظاهرة الخضوع للمبدأ السلطوي الأبوي، فتم إبعادنا قسرا عن المنهج الثنائي النقدي والعلمي، وأصبحنا غير محتفظين بذاكرتنا القديمة، متحصنون خلف التقاليد الدينية المتسيدة وطقوسها وثقافتها الوحيدة المهيمنة،منذ الدرس الأول في تعلم الألف باء، وحتى ما بعد انجاز دراساتنا العليا، وممارسة العمل الوظيفي، ولم يسمح لنا بتعلم لغاتنا وأساليب طقوسنا التي مرت عليها قسرا صبغة عادات وتقاليد من كنا جيرانهم على ضفاف الأنهار، لتمارس تأثيرها الكبير الذي ننعم به حاليا، فالتعليم الأول ظل بالنسبة لنا حفظ القرآن الكريم وآياته الكريمة عن ظهر قلب، ولم يكن لنا الحق في التعليم الخاص بنا وحفظ آياتنا الدينية التي تحفل بها كتبنا المركون سنوات وسنوات على الرفوف، فأصبحنا بعيدين عن العقل النقدي ، مما أدى الى انكفاء وتراجع وصمت ثقافات يمتد تاريخها الى آلاف السنين.
دعواتنا الحالية بعد سقوط الفكر الفاشي المتعصب ، من اجل مساهمة نواتات ثقافية عراقية تتماشى مع المعطيات الدينية والاثنية التي يتركب منها المجتمع العراقي، يعتبرونها بمثابة تسطيح للثقافة الوطنية بطابعها العربي التقليدي لمصالح ملل وطوائف تتسم بآفاقها الضيقة المقفرة، اذ ان مثل هذه الدعوات بالنسبة لهم مجرد تهميش للثقافة العراقية الحية بهويتها العربية التي هي الخبز الفكري واليومي الوحيد في حياة الشعب العراقي، فمن غير الممكن لمثل هؤلاء ان تصبح العرقيات القومية العراقية الأخرى التي تعيش على ارض الوطن مرادفا للتعددية الفكرية ، لان الفكر العراقي باعتقادهم لا ينتمي الى ملل ونحل مختلفة مع ان عراقنا مؤلف من ملل ونحل.
انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص
ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف
التعليقات