-1-

نَعمْ، وألف نعم، فقد كان العراقُ جهنماً والتحالفُ فتحَ أبوابها ليُخرجَ منها الشياطين الحُمرَ والخُضر والزُرق والسود والبيض! لقد فرح إعلام العُربان كثيراً بعبارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك التي قالها في قمة ثلاثية في مدريد مع رئيس الحكومة الاسبانية خوسيه لويس رودريغيس ثاباتيرو والمستشار الالماني غيرهارد شرودر بأن "فتح بغداد" وإزالة أصنامها التي جاءت بها الجاهلية العربية العربية الجديدة، كان عبارة عن "فتح أبواب جهنم". وقد أصاب الرئيس شيراك في ذلك، علماً بأن ترجمة عبارة الرئيس الفرنسي قد لعب بها أو تلاعب بها المترجمون العرب الذين يعملون في وكالة الأنباء الفرنسية كما بين عبد القادر الجنابي في مقاله (إيلاف، 14/9/2004) حيث يبدو أن المترجمن من الأعاريب في وكالة الأنباء الفرنسية ليسوا فقط جهلاء باللغة الفرنسية، وإنما أيضا بمعاني الكلمات الدخيلة والشائعة الاستعمال في الفرنسية. ذلك أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك لم يصرح: بأننا "فتحنا ابواب جهنم" في العراق، كما جاء في خبر الوكالة الفرنسية المترجم إلى العربية، وإنما قال: "فتحنا صندوق باندورا Boîte de Pandore وهي كلمة تُطلق على كل شيء حسن المظهر، قد يكون مصدراً لمصاعب عظيمة.وكل تلميذ في الابتدائية الفرنسية يعرف بأن كلمة Boîte تعني صندوقاً.
وقام الشاعر والكاتب العراقي عبد القادر الجنابي بمعرفته لللغة الفرنسية وكأبرز شاعر سوريالي في الشعر العربي المعاصر بشرح الخلفية الأسطورية الأغريقية لهذه العبارة، وقال: إن "باندورا" تعني "هدية الجميع" وهي اسم أول امرأة صنعتها الآلهة وأهدتها للبشر، وذلك بأمر من زيوس. وقد أعطاها زيوس صندوقاً مقفلاً ومربوطاً بشريط جميل وأمرها ألاّ تفتحه، غير أن الفضول استبد بها لتعرف ما في ذلك الصندوق الثقيل ففتحته، فإذا بجميع الشرور تنتفض هاربة من الصندوق، وتنتشر في جميع الأرض، فأسرعت بإقفال الصندوق الذي بقي فيه شيء واحد وهو الأمل.
ومن هنا كان قصد شيراك القول بأننا كلنا مسؤولون عن فتح هذا الصندوق الذي خرجت منه كل الشرور، وما علينا إلآ أن نغلقه جميعاً، فيبقى لنا أمل السلام والقضاء على كل جذور الإرهاب. على عكس ما تعنيه عبارة "أننا فتحنا أبواب جهنم" التي لا يُفهم منها سوى العداء لأمريكا والحنين إلى نظام صدام، الذي يبدو أن هؤلاء المترجمين العُربان في وكالة الأنباء الفرنسية، يحنون إليه، وربما تعمدوا ترجمة خاطئة عل هذا النحو، أملا باسقاط ذهنيتهم الدموية على ما يجري في العراق.

-2-
لقد ارتضيت أنا وأحببت عبارة شيراك التي ترجمت خطأً من قبل أعاريب وكالة الأنباء الفرنسية، وهي أن التحالف (فتح أبواب جهنم في العراق) حقيقة. ولعل مبعث رضاي وسعادتي لعبارة شيراك المترجمة خطأ من قبل العُربان المدسوسين في وكالة الأنباء الفرنسية، يعود إلى الأسباب التالية:
1-
أن العراق منذ العام 1958 كان حقاً جهنماً امتلأت بالشياطين الحُمر والخُضر والزُرق والسود والبيض، وزاد عدد هذه الشياطين في عهد صدام حسين زيادة كبيرة. في حين لا يُعفى النظام الملكي السابق (1920-1958) من وجود شياطين فيه. وكان فيه جهنم أخرى يقف على بوابتها واقِدَاها: نوري السعيد والأمير عبد الآله. ولعل هذا الملايين التي هاجرت من العراق الجنة في كافة العهود أي منذ 1920 إلى الآن، لم تهجر الجنة إلا عندما تحولت إلى جهنم وجحيم لا يُطاق.

2-
في عهد صدام أصبح لا مكان في العراق للمؤمنين المطهرين من الدينيين والقوميين والماركسيين والليبراليين وغيرهم، حيث سادت شياطين جهنم على الحياة العراقية بكل مناحيها، ولم يعد للمؤمنين المُطهرين غير السجون والمقابر الجماعية والطرد خارج العراق. وأصبح العراق بحق جهنم العرب الذين لم يعرفوها، ولم يعوها، ولم يسمعوا صوت المعذبين فيها إلا بعد فجر التاسع من نيسان 2003، عندما انهارت أصنام الجاهلية العربية الجديدة في العراق وانكشف الغطاء والمسكوت عنه.

3-
والدليل فعلاً على أن العراق أصبح "جهنم العرب" وجحيمهم هو هذه الشياطين الحمراء والخضراء والزرقاء والسوداء والبيضاء التي تملأ الفضاء العراقي، وتلوث مياه دجلة والفرات بالدم البشري، والتي تدفقت من كل أنحاء العالم العربي دفاعاً عن الجحيم الذي كان قائماً قبل التاسع من نيسان 2003 ، وأطفأت شمس العراق بسيول من الدماء البريئة، وأحالت أيام العراق إلى مذابح ومجازر للمدنيين ورجال الشرطة والأمن والخبراء الذين جاءوا من كل أصقاع الأرض لبناء العراق الجديد.

4-
إن أبواب "جحيم العراق" التي أغلقت على شياطينها في العهد الملكي والعهد الجمهوري القاسمي والتكريتي، وفتحتها قوات التحالف فجر التاسع من نيسان 2004 لطرد الشياطين منها، جعلت كافة شياطين العالم العربي من حُمر وخُضر وزُرق وسود وبيض تتدفق على العراق لإغلاق الجحيم مرة أخرى على شياطينه. فكان القضاء على شياطين "جحيم العراق" بمثابة القضاء على معظم شياطين "جحيم العرب" ككل.
ألم يُعلن شياطين العرب بأن أرض العراق الآن هي أرض المعركة الكبرى مع قوى التحالف، ومن يقف إلى جانبها؟

5-
يختلف الجحيم عن جهنم. فالجحيم هو شدة النيران في جهنم لقول القرآن (وإذا الجحيم سُعِرَت) (سورة التكوير، آية 12) ولم يُذكر الجحيـم في القرآن غير ثلاث مـرات في ( سورة التكوير، والطور، والقارعة). والجحيم سُعِرَت في العراق الآن فعلاً؛ أي اشتدت، واشتدادها دليل قرب خمودها، بعد أن تكون قد أحرقت كافة الشياطين.
وأما جهنم فهي مكان النار الدينية الإسلامية المتقدة والمسعورة (الجحيم) . وجهنم كلمة فارسية غيرعربية. وسُميت "جهنم" كذلك لبُعد قعرها، وهي مكان النار الدينية عند الله في الآخرة، حيث لا جهنم على الأرض غير جهنم العالم العربي الآن!
ورغم أنه لا يوجد جمع لكلمة "جحيم" أو "جهنم" في لغات العالم وفي اللغة العربية كذلك، لعدم وجود أكثر من جحيم واحد في الكون، ولعدم وجود أكثر من جهنم واحدة في السماء أيضاً، إلا أن العرب في العصر الحديث أصبح لديهم أكثر من جحيم وأكثر من جهنم. فأصبح لديهم عدة "جحوم" (جمع جحيم، وهو اجتهاد منا)، وأصبح لديهم عدة أماكن لجهنم الحمراء بفضل عدة عوامل.

فأينما وجدت الديكتاتورية الطاغية كانت هناك جهنم.
وأينما وجدت سيطرة رجال الدين على القرار السياسي والتربوي والتعليمي وحقوق المرأة وإقامة المجتمع المدني كانت هناك جهنم التي وقودها المعارضة والأفكار الليبرالية.
وأينما وجد الحكم الوراثي من الآباء للابناء وتعديل الدساتير من أجل فرد واحد وُجدت جهنم، وأينما اعتقل وعُذب وطُورد دعاة الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي وُجدت جهنم.وهكذا أقام بعض الحكام العرب "جهنم الآرض" لمواطنيهم، قبل أن يعرف هؤلاء "جهنم السماء". وهل ما كان في العراق قبل فجر التاسع من نيسان 2003 إلا جهنم المستعرة؟ وهل ما يجري في أنحاء مختلفة من العالم العربي وفي الأنظمة التوتاليتارية إلا جهنم الشبيهة بجهنم صدام الأرضية. وأن العالم العربي بعبارة أخرى عبارة عن جهنم واسعة بانتظار من يفتح أبوابها، ويُخرج منها شياطينها، ويقاتلهم، ويقتلهم على غرار ما يحصل في العراق الآن.

6-
إن العالم العربي جهنم بأنظمته السياسية المهترئة، وبمناهج التعليم الدينية الظلامية، وبانتشار الارهاب فيه، وبنهب المال العام، وبتحكم رجال الدين بالسلطة وبأصحاب السلطة الذين لا شرعية لهم. لذا، فهم يطلبون شرعيتهم من رجال الدين لكي يلفقوا لهم الفتاوى، ويؤلفوا لهم الأحاديث النبوية الكاذبة من أجل دعم سلطانهم، ويرددون على مسامعهم الأحاديث النبوية الموضوعة في العهد الأموي من أجل اطاعة المستبدين والمغتصبين للسلطة من أمثال معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد السفاح والتي استفاد منها سفاحو العصر العباسي من أمثال الخليفة أبي العباس عبد الله السفاح والخليفة أبي جعفر المنصور.
لقد أصبح العالم العربي الآن جهنماً فعلية، والدليل الساطع هو هذه الملايين التي هاجرت من العالم العربي، وهجرت هذه الجهنم إلى الغرب من مثقفين وعلماء ومفكرين وفنانين وأكاديميين وعمال.. الخ. وهذه الطوابير الطويلة التي تصطف كل صباح ومنذ ساعات الفجر الأولى على أبواب القنصليات الأوروبية والأمريكية طالبة الهجرة إلى الغرب. ولو فتحت هذه القنصليات أبواب الهجرة على مصراعيها لهاجر كل الناس إلى الغرب، ولما بقي في العالم العربي غير الحكام وعبيدهم.

-3-
لو كان إعلام العُربان على وعي باللغات وباللغة الديبلوماسية على وجه الخصوص لما فرِح فرَح الرعناء، ولما تحالى هذا الإعلام تحالي القرعاء بشعر جارتها، كما يقول المثل الشعبي.فالرئيس شيراك استعمل للمرة الأولى في خطابه المذكور كلمة نحن؛ اي قال: NOUS (نحن) ولم يقل بالفرنسية الديبلوماسية: ON ( شخص مجهول) والتي يمكن ان توحي الى شخص مجهول، ولكن المتلقي يفهم منها أنه يعني أمريكا أو قوات التحالف عموماً في هذه الحالة، التي فتحت "أبواب جهنم" كما فهم ذلك إعلام العُربان. فالذهنية العربية – كما قال عبد القادر الجنابي - غير قادرة على الاطلاق التخلص من احتواء الآخر، وصبّه من جديد في نارهم المسعورة. كما أن إعلام العُربان، لا يدرك أن الأوروبي حذر وذكي في استخدام اللغة الدبلوماسية ، مما يستحيل ولأسباب أخرى عديدة ان يقول شيراك: " أبواب الجحيم" حتى و لو أراد شتم أمريكا، لأن عبارة من هذا النوع لا توحي إلا بالقطيعة النهائية بين فرنسا وأمريكا، وهي القطيعة التي بدأت تزول من خلال القرار المشترك بخصوص جلاء الاحتلال السوري عن لبنان، ومطالبة الشرعية الدولية بعدم تعديل الدستور اللبناني(مادة 49) من أجل مصلحة فرد واحد، وأدى إلى قرار مجلس الأمن 1559 الفريد من نوعه في تاريخ الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهو نتيجة تكاثف الديبلوماسية الفرنسية مع الأمريكية، حيث لا خصومات دائمة ولا صداقات دائمة في السياسة. وستشهد الأيام القادمة مزيداً من هذا التكاثف خاصة بعد اختطاف الصحفيين الفرنسيين ومطالبة الخاطفين (قطّاع الطريق والقراصنة) بخمسة ملايين دولار، واعتبار فرنسا من قبل شياطين "جهنم العراق" دولة عدوة كما قالوا بالأمس.
نَعمْ، وألف نعم، مسيو شيراك، فقد "كان العراقُ جهنماً والتحالفُ فتحَ أبوابها" ليُخرجَ منها الشياطين الحُمرَ والخُضر والزُرق والسود والبيض!
وشكراً للمترجمن العُربان في وكالة الأنباء الفرنسية على هذا الخطأ الصواب!

فكم من خطأ أكثر صواباً ألف مرة من الصواب ذاته!

(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية و "المدى" العراقية و "الأحداث المغربية")

[email protected]

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف