أخذ صديقي نصف العاقل يطرح أسئلته وهو في إنفعاله المعهود... قال: الإعلامُ في منطقتنا قاد الرأي العام العربي للإقتناعِ بأنه ليس في تصرفاتِ أمريكا أي شيءٍ جيدٍ وإنما كلها أخطاء وجرائم في حقِ العربِ. نفسُ الإعلام لم يكتب كلمةً واحدةً عن فسادِ القيادةِ الفلسطينية... نفسُ الإعلامِ لم ير في أنور السادات إلا خائناً... نفسُ الإعلام لم يقل ولا مرة واحدة أن العربَ (منذ قرابة أربعين سنة) في موقفٍ بالغِ الحرجِ مع إسرائيل بسبب تصرفاتِ جمال عبد الناصر في شهري مايو ويونية 1967... نفسُ الإعلام لم يقل كلمةً واحدةً عن وجهةِ نظرِ بعض الفلسطينيين المثقفين بأن العمليات الإنتحارية قد أضرت الجانبَ الفلسطيني ضرراً كبيراً للغاية... نفسُ الإعلامِ لا يربط بين الإستعمالِ المفرطِ للقوةِ من جانبِ إسرائيل والعمليات الإنتحارية... نفسُ الإعلام لم يكتب في بلدِه كلمةَ نقدٍ واحدة للسلطةِ أو لفسادِ كثيرٍ من أعضائها… فكيف يمكن لعاقلٍ في العالمِ المتقدمِ ألا يرتاب في توجهاتِ الرأي العام الذي شكَّله إعلامٌ بهذه النوعية في بلدانٍ تصل نسبةُ الأميةِ فيها إلى قرابةِ نصفِ المجتمع؟

قبل أن يلتقط صديقي نصف العاقل أنفاسَه إنطلق في حماسه المعهود: هل توافق أن زعمَ بعضِ العربِ أنهم ساميون وبالتالي لا يمكن أن يكونوا مناهضين أو معادين للسامية هو واحد من أشد العبارات مغالطةً في الدنيا؟… فإن أي إنسانٍ ذي نصيب ولو متواضع من المعرفة يدرك أن تعبير معاداة السامية هو مرادف حرفي لمعاداةِ اليهود (لكونهم يهوداً) منذ حادثة دريفوس الفظيعة في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر. ولكن البعض يقول ويكتب ما يثبت عدائه لليهود (لكونهم يهوداً) وليس لكونهم إسرائيليين يتبعون سياسة لا يقبلها، ثم يقول أنه لا يمكن أن يكون معادياً للسامية لأنه هو نفسه من الساميين، لأنه عربي والعرب ساميون… إنني أتحيّر أحياناً كيف يقوم رسام كاريكاتير برسم عربي يخاطب أدولف هتلر متسائلاً: لماذا لم تكمل المهمة!!. ثم يقول أنه غير معادي للسامية؟؟.. وكيف يمكن لرجل دين أن يقف على منبر للدعوة على اليهود ويقول أن الغدرَ والحنثَ بالعهودِ هو من طبيعةِ اليهودِ ثم يقال أنه عربي وبالتالي من الساميين وبالتالي لا يمكن أن يكون مناهضاً للسامية؟... والأدهى أنه خلال نصف القرن الأخير لم يمسك كاتبٌ عربي قلمَه ليقولها صراحة: أن من بيننا من هم أكبر مثال على معاداة السامية… بل أن شيوخاً عديدين يرتقون المنابر يوم الجمعة ويصبون الدعاء بالسوءِ على اليهودِ بوجهٍ عامٍ وكان بوسعهم أن يتحدثوا عمن يقتلون المدنيين الأبرياء من أية طائفةٍ وأية ملةٍ.

وبنفس الحماسةِ إسترسل قائلاً: تعرف أن العربَ لا يتوقفون عن إتهامِ العالمِ الغربي بوجهٍ عام والولايات المتحدة بوجهٍ خاص بإزدواجيةِ المعايير وبعدمِ إحترامِ الشرعيةِ الدوليةِ، وخلال الأسابيع القليلة الماضية وقف العالمُ ينظر لهؤلاء العربِ بتعجبٍ وذهولٍ: فعندما إتجهت الشرعيةُ الدولية بخصوص السودان لعكس الهوى العربي، لم يتردد العربُ في إدانةِ الشرعيةِ الدوليةِ... وعندما إتجهت الشرعية الدولية لإدانةِ التدخل السوري في لبنان صرخ العربُ جميعاً ومعهم أمين عام جامعة الدول العربية يهاجمون الشرعية الدولية ويلحقون بها أسوأ النعوت. وقد فعل العربُ ذلك في موقف أفدح خلال سنة 1947 عندما رفضوا قرار الشرعية الدولية بتقسيم فلسطين إلى دولتين، (دولة للعرب ودولة لليهود). واليوم فإن العربَ قد يفقدون عقولهم فرحاً وبهجة إذا ما تمكنت جهةٌ من إعطائهم ما كان معروضاً عليهم في سنة 1947 من الأمم المتحدة ورفضوه يومذاك وأخذوا مبادرة الحرب العربية الإسرائيلية الأولى التي خرجت منها إسرائيل (سنة 1949) بمساحةِ أرضٍ أكبر مما كان لها في قرارِ الأمم المتحدة (سنة 1947)... وحسب ما جاء في كتاب كلينتون الذي صدر في شهر يونيو الماضي فإن العربَ سوف يفقدون عقولهم يوماً من فرطِ الفرح والبهجةِ لو أن الأمم المتحدة عرضت عليهم بعد سنواتٍ قليلةٍ من الآن ما رفضه ياسرُ عرفات في كامب ديفيد منذ أربع سنواتٍ – وهذا دليل آخر على بعد النظر وثاقب الرؤية لدى بعض القيادات العربية المعاصرة. وأنصحك أن تشتري كتاب دينيس روس الذي سيصدر خلال أسابيع وبه عشرات الأدلة على أن ياسر عرفات قد أضاع على شعبه فرصةً ربما لا تتكرر.

على خلاف عادته لم يسترسل صديقي نصف العاقل في ملاحظاته وإنما ألقي علي سؤَالاً جاداً: هل ترى أيةَ بارقة أَملٍ في هذا الواقع الرمادي الذي لا تنشغل فيه معظمُ نظم الحكم إلا بإستمرارِها؟… قلت: نعم!… أنا متفائلٌ أن عهدَ النظمِ الشمولية يلفظ أنفاسه الأخيرة… وأن الحريات العامة قادمةٌ لا ريب… وأن الإصلاحات السياسية والإقتصادية والتعليمية والإعلامية سوف تحدث (شاء من شاء وأبى من أبى – بلغة ياسر عرفات!!)… وأن الإسلامَ الوسطي المعتدل الذي يؤمن بالتعايش مع الآخرين ولا يزعم تميُّز أية طائفة عن الأخرى والذي يؤمن بأن الجهاد معناه (الدفاع الشرعي عن الذات) وليس نشر العقيدة بالقوةِ… والذي يساير مسيرة التمدن الإنساني في الديموقراطية والحريات العامة والعلوم الإجتماعية – يقيني أن هذا الإسلام هو الذي سيسود وأن إسلام المغارات والكهوف وقتل المدنيين وحزام المفرقعات والسيارات المفخخة سوف يدخل "متحف تاريخ الشر" قريباً… وعلى مستوى الأحداث الأصغر فأنا أيضاً أجدُ ما يسر الخاطر، فرغم أن لبنان بدلاً من أن يعلم جيرانه الديموقراطية وإحترام الدستور تعلم منهم (منذ أيام) نقيض ذلك وإقترب منهم عوضاً عن أن يقتربوا هم منه… رغم ذلك فإن في الصورة اللبنانية بعض النور… فما أشد إعجابي بالوزراء اللبنانيين الأربعة الذين إستقالوا من الحكومة إعتراضاً على ما حدث من تعديل للدستور في خدمةِ الحاكمِ لا في خدمةِ الشعب. إن موقف هؤلاء موقفٌ نبيلٌ ورغم أن ثلاثة منهم ينتمون لمجموعة يقودها رجل أحترمه وفي نفس الوقت أرفض معظم أفكاره (وليد جنبلاط) إلا أنه ورجاله الثلاثة يستحقون من كل إنسان في العالم التقدير والتبجيل. ولا أخفي عنك أن ردود الفعل العربية على هذا الحادث الكبير أوجعت قلبي وأثبتت لي مرة أخرى أن الديموقراطية ليست على قائمة أولويات معظم السياسيين العرب... إن العرب الذين يبكيهم الوجود الأمريكي في العراق لم يبكيهم يوماً وجود مجرم من أعتى مجرمي التاريخ الحديث على رأس السلطة الفعلية في العراق من سنة 1968 حتى وجوده (كالفأر في حفرة تحت الأرض) سنة 2003... والعرب الذين لم تبكيهم جرائم القبائل السودانية العربية في حق أبناء القبائل السودانية ذات الأصل الإفريقي (وكل منهما من المسلمين) وصغَّروا من حجم الجرائم التي إرتُكِبَت في حق الآلاف من السودانيين من أصل إفريقي أبكاهم (وأبكى أمين عام جامعة الدول العربية) تدخل الأمم المتحدة في شئون السودان... وكأن سيادة السودان أهم من أرواح السودانيين الذين قتلوا بالآلاف والذين شرِّدوا بمئات الآلاف!.. أي ظلام عقل وضمير هذا!!؟