يبدو ان العاصفة غير المبررة التى قوبل بها فيلم " بحب السيما " حتى من قبل ان يعرض جماهيريا لن تصل الى قناعة بعدم جدواها الا بمزيد من الندوات التى تخضع هذا العمل كمنتج فنى للرؤية التحليلية العلمية، اقول هذا بمناسبة الحكم الذى اصدرته محكمة القضاء الادارى بتأجيل نظر القضية المرفوعه ضد المخرج وكاتب السيناريو والممثلين والشركة المنتجه الى جلسة 11 سبتمبر القادم !!.
قبل هذه الدعوى القضائية حضر ابطال العمل امام نيابة استئناف القاهرة فى بداية شهر يولية الماضى عقب عرضه جماهيريا للتحقيق معهم استجابة لبلاغ مقدم ضدهم بتهمة التعرض لصميم العقيدة المسيحية والاستهزاء برجال الدين المسيحى، وبعد ان فشلت وساطات التنازل عن البلاغ.. كما فشلت الآراء التى طالبت بدعم حرية الابداع ونادت بابعاد الاعمال الفنية عن محاكم التفتيش حيث اصر مقدموا البلاغ على الاستمرار فى ملاحقاتهم ( فريق العمل ) سواء فى النيابة العامه او فى ساحات القضاء او عن طريق التحريض بعدم المشاهدة حتى يرفع الفيلم من دور العرض.
الجماعات المعترضه على الاحداث التى تعرض لها العمل الفنى تطالب القضاء " بالتعمق فى اصول الحق لاستخراج دلالات ومقاصد الفيلم والقائمين عليه والاهداف الخفية لمشاهدة الحقيقية " لكى يصدر حكم باعدامه والتمثيل بجثته حتى يكون عبرة لمن يعتبر..
اعدام الفيلم والتمثيل بجثته يمثل خسارة مادية ومعنوية فادحة لمخرج الشريط والشركة المنتجه، ومصيبة كارثية لحركة الابداع الفنى فى مصر التى تعانى من تراجع واضمحلال غير مسبوق، وسقوط للجماهير الواعية التى تستنشق عبير مثل هذه الاعمال المتميزة على امل ان يبعدها عن السقوط فى بئر الظلمات السحيقة..
ويمثل من ناحية اخرى انتصارا مدويا لوجهة نظر متعصبة ترفض الابداع وتتعمد اخفاء الحقيقة وتخشى على ذواتها من اى لفحة صدق تنشر جناحيها عبر اى شكل من اشكال التعبير الفنى الراقى، ويمثل مزيد من التضخم لتوجهات السعى الدؤوب للتحكم فى حركة الابداع الفنى من جانب اناس يخلطون بين الاشياء بلا قاعدة علمية او منهج مستنير، ويمثل اغلاقا لما بقى من نوافذ قليلة تواصل السير الشاق فى طريق تقديم الاعمال الفنية التى ترتقى بذوق الجماهير..
لو استسلمت الحركة الفنية لكل دعاوى الاعتراض والرفض غير المبررة كأعتراض النقابات المهنية مثلا على تقديم نماذج غير سوية او نماذج انتهازية استغلالية من ابنائها، او كأعتراض المؤسسات التنفيذية على التعمق فى اسباب فسادها او اساليب عرقلتها لكل تغيير او اصلاح، او كأعتراض الهيئات التشريعية على الاشارة الى المرتشين من العاملين فى حقلها، او كأعتراض الاجهزة الامنية على تراخى بعض كوادرها فى القيام بمهام حماية الوطن والمواطن.. الخ.. لما نمت هذه الحركة على امتداد سنوات القرن الماضى ولما تمكنت من النهوض من الكبوات التى تعرضت لها..
الحركة الفنية فى اصلها معارضه وذات رأى مستقل ويفترض فيها عدم التبعية.. الحركة الفنية جماهيرية وليست مؤسساتية.. الحركة الفنية تبنى على الحرية الملتزمة والاحساس الصادق والرؤية المتوازنه والضمير الواعى.. الحركة الفنية تعبير عن حالة خاصة قد يتفق معها المتلقى وقد يعترض عليها.. وهنا تكمن المشكلة لاننا غالبا ما نعترض بوسائل مختلفه تماما مع ادوات الوسيلة التى تم من خلالها عرض وجهة النظر الفنية حيث نلجأ الى الاساءة فى كل الاحوال من خلال تقديم العرائض والبلاغات التى تتضمن اتهامات بلا دليل وتستشهد بقراءات لم تدر بذهن المبدع..
كيف يتسنى لجهة قضائية ان تفتش فى ضمير الفنان للتعرف على خفايا مقاصده غير ما عبر عنه ؟ كيف يمكن لها ان تتحقق فعليا من مقاصد الفيلم بعد ان صورها فريق العمل وعرضها شريطا متتابع اللقطات ؟ كيف تشق عقله وتنظر فى تلافيفه لتضع يدها على ما اخفاه وراء هذه المشاهد مما استعصى على الجماهير العريضة استكشافه ؟ كيف تقرأ ما لم يصرح به على الورق او من خلال المشاهد او من ما جاء على لسانه ردا نقاشات الندوات او استجوابات مكاتب النيابة العامه ؟ كيف تنظر الى العمل الفنى المتخصص عبر ادوات قانونية قضائية بينها وبين ادوات الفن قطيعة تكاد ان تكون ابدية ؟؟..
دعاوى الاعتراض تريد استعادة دور محاكم تفتيش عصور اوربا الوسطى التى كانت تفتش فى النفوس والخبايا بقرار اتهام مسبق يؤدى الى الهلاك.. وتسعى لاستصدار مجموعة من الاحكام المتتالية ضد اشكال الحركة الفنية حتى تقضى عليها قضاءا مبرما , لانها غير مكتفية بحالة التدهور التى المت بها وغير مستبشرة باللمعات الايجابية التى تبدو فى سمائها من حين لآخر تعبيرا عن صمودها وقدرتها على استعادة عافيتها..
دعوى الاعتراض على الاعمال الفنية المتميزة تناقض نفسها وتحمل فى طياتها بذور فشلها لانها تناصر برامج الاصلاح والتطوير بكل شجاعة وتحارب حرية الفكر والابداع بكل ضراوة، وهذا منطق لا يستقيم بل يؤكد انها غير صادقة فى مطالب الاصلاح التى بح صوتها من اجل الدفع للاخذ بها.. دعاوى الاعتراض تريد من الاصلاح ما يدفع باصحابها الى المقدمة فقط ولا تريد ان ينعم الوطن بحركة اصلاحية شامله لصالح كل المواطنين، وهذه عنصرية تؤكد كذب مطالبها.. دعاوى الاعتراض تريد من المجتمع كله ان يرى بعينها ما تريد هى ان يراه وتريد ان تشكل له وجدانه ومزاجه الخاص بمعنى انها تريد ان تقولبه داخل انساق لا تتفق مع الاختلاف الذى هو اساس الحياة نفسها، وهذا امر يتعارض مع ابسط حقوق الانسان..
دعاوى الاعتراض تعمل على جذب كافة مؤسسات الدولة لكى تقف الى جانبها ضد كل ما يخالف رأيها ومنطقها فى تناول الاشياء وتستعدى كل منها لتدمير هذا المخالف وفق مخطط ينم عن حالة تآمرية.. المؤسسة الدينية بحجة ان الفيلم يزدرى الديانة المسيحية وانه يتعرض لصميم عقيدتها ولرجال الدين وانه جاء استجابة لمطالب امريكية.. المؤسسة الامنية لانه يتعرض للوحدة الوطنية ويعمل على تمزيق نسيجها الواحد وربما يتمخض عنه صراع داخلى.. المؤسسة التنفيذية لان القائمون على امر الرقابة لم يستأنسوا برأى
الجهات المختصه التى طالبوا بان يسمح لها بالقول الفصل فى هذا العمل..
الواقفون وراء دعاوى الاعتراض هذه لا يفرقون بين الرأى والقضية الدينية وليس لديهم اى استعداد للتنازل عن فساد ما توصلوا اليه من نتائج غير منطقة ولا تتسم بمصداقية الرؤية، الفيلم يرسم صورة لاسرة ولا يتعرض لحركة مجتمتع.. الفيلم يعبر عن رؤية اجتماعية لحالة تعصب وليس عن تفسير دينى لها.. الفيلم يشير بشكل مكثف الى الحالة التسلطية التى تعانى منها الاسرة المصرية وكيف تنتقل من اطار العلاقات الزوجية الى مسئولية تربية الابناء.. الفيلم يعرى جانب من جوانب السلبيات التى نعانى منها على المستوى السياسى والثقافى والاجتماعى ويضع يده على مدى الاحباط الذى يعيشه البعض لاسباب خارجة عن ارادته..
الفن ليس جريمة او فعل يستوجب التشهير والمحاكمة بل هو حالة ابداعية تستوجب الاحترام والتقدير مهما كانت درجة الاختلاف او الاعتراض.. الفن حالة خاصة لا يمكن الحكم عليها الا بحالة مماثله.. الكلمه او اللحن او اللون وسائل عندما نتحاور معها لا بد ان نستخدم نفس الادوات.. اننى اتسائل مع آخرين سبقونى.. كيف سيكون شكل الاعتراض - الذى وصل الى مستوى النيابة العامه - فيما لو ان كاتب سيناريو هذا الفيلم ومخرجه كانا مسلمين بالرغم من ان هذا الامر لا اعتراض عليه!


الكاتباستشارى اعلامى مقيم فى بريطانيا
[email protected]

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف