ما حدث بعد 9 نيسان 2003 أن طبق أهل الحل والعقد في العراق المثل المصري ( وكالة من غير بواب) ، وأصبح الدخول والخروج من وإلى العراق ( بلا حدود ) ، وفق المثل العراقي ( خِري مِري ) – أي روح وتعال براحتك - ، ولا يحتاج الأمر سوى إلى وسيلة نقل توصل أي من الناس لأقرب نقطة حدود عراقية ، والباقي لا يحتاج لجهد يذكر.
وكنت إلى حين وصولي للحدود العراقية في ( مجمع الوليد الحدودي ) ، بعد اجتياز الحدود السورية ، أثق بكل ما يقوله المسئولين عن ضبط الحدود العراقية ، وبضمنهم ( الراعي الأمريكي )، والسيطرة التامة عليها ، لكنني فزعت حبا بالوطن وأنا أرى ( وكالة من غير بواب ) .
وبين زعيق المغنين وصواتهم الذي يشبه النواح مابين أغنية البرتقالة والرمانه ، شل بصري وأنا ألاحق صورة صبي لا يتجاوز الثامنة عشر من عمره ، وهو يجلس على كرسي خلف طاولة وضعت له أمام بناية الجوازات مهيئا ختم الدخول لمن رغب ، بدون سؤال أو تمحيص أو استفسار . ووسط الساحة يقف شبان مسلحون بأقلام جافة للتوقيع على أوراق أية سيارة واقفة بعد أن يضعوا المقسوم في جيوبهم ، لتمر السيارة أية سيارة بدون رقابة أو تفتيش . ولو جرى مثل هذا في أي بلد من بلدان العالم المستقر أمنيا لما استلفت ذلك المنظر فضولي مثلي ، ولكن يجري عند حدود بلد يتسابق القتلة والمجرمون على تقتيل أبنائه وتخريبه بأقصى طاقاتهم ، وكل جهدهم الإجرامي ، وكان هو العامل الرئيسي لرفع ضغط الدم عندي رغم انه لم يسبق أن ارتفع نهائيا ، وتلك أول سابقة له بفعل حالة الذهول التي أصبت بها من اثر المنظر المتسيب المحزن لحدود بلد يتربص به القرضاوي والزرقاوي الدوائر .
وحتى أكذب عيني وأصدق تصريحات المسئولين عن الأمن ، فتشت بعيني عن أي جهاز لفحص الجوازات المزورة التي يبدع القتلة في ترتيبها لمن يبعثونهم لتخريب وطننا ، وتقتيل أبناءنا ، أو أي دفتر يحوي ولو كم اسم من أسماء المشتبه بهم ، أو الذين دخلوا سجن أبو غريب وأخلى الراعي الأمريكي ل ( الحرية ) سبيلهم ، وعادوا باسم المقاومة سيرتهم الأولى ، أو حتى ولو قصاصة ورق . لكن كل ذلك لم أره، وكل ما رأيت بشرا من مختلف الأعراق والأجناس يدخلون بلدا بدون حساب أو كتاب .
وزاد عجبي أن لا وجود لأي رجل أمن عراقي ولا رائحة له ، لذلك يدخل عبد الجبار الكبيسي ومن لف لفه للوطن بدون حسيب أو رقيب ، ويدخل من يدخل الأموال والسلاح كي يستقبلهم عبد الله الجنابي ، على بعد كيلومترات قليلة من تلك الحدود ( الحرة ) من البحث والتدقيق .
ولأنني مواطن مغلوب على أمره ولا قبل لي على سلطة الحكومة الانتقالية و ( يدها الضاربة ) ، التي لا وجود لها في الحدود العراقية ، إن كانوا من الشرطة أو الحرس الوطني أو شرطة الحدود ، فقد فوضت أمري إلى الله ، وجلست متكورا على نفسي بحزن قرب السائق منتظرا فراغه من تقديم المقسوم لموظفي التفتيش والكمارك ( الوطنيين ) الذين دعاهم ( حب الوطن ) – وجلهم كما رأيت من لهجتهم من ذلك الجزء الذي نطلق عليه ب( المثلث السني ) ، وحب الوطن كما رأينا جميعا عند الكثير منهم بعد سقوط النظام العفلقي من ( الإيمان ) . والدليل على ذلك ما رأيته من ( جهاد ) حقيقي للموظفين ( الساهرين ) على الحدود . وهي شهادة أسجلها في ( حق ) ( رجال مخلصين للوطن ) ، ( كرسوا ) كل وقتهم ل ( حماية الوطن والمواطنين ) .
وعندما أدار السائق كاسيت المسجل معيدا عليَ على طريقة حفظ نصوص الأغاني أغنية البرتقالة ، كنت في غاية الضجر والنرفزة بعد أن صعد ضغط دمي درجات وأحسست بأنني أكاد أختنق وسط تفاهة مخرج الأغنية ، وهو يحرك أرداف ومؤخرات فتيات ينشرن شعورهن بطريقة النخاسة الحديثة ليؤكد مع مقولات البعث و ( سيدهم ) الساقط صدام عن رخص اللحم البشري العراقي وإصرارهم على انتهاك حرمة العراقيات وانتظرت بعد أن كرر علي السائق الأغنية أن يعيد علي أغنية الرمانه ، والتي تحمل سمات نفس أغنية البرتقالة . وعندها تيقنت أن ( بين البرتقالة والرمانه ضاعت لحانه ) وليس كما قيل ( بين حانه ومانه ضاعت لحانه ) .

فيينا - النمسا