سألني أحدهم مستغرباً، ولم يحدد دين معين، لماذا في الأديان كل هذه الشدائد ضد النساء؟ وهل الله تعالى أنزل الأديان كرامة للرجال دون النساء؟ قلت له: أنا لست أهلاً لإجابتك حول هذا الموضوع، لكني أحيلك إلى قراءة فقيه سوداني، جمع بين التدين والحياة جمعاً موفقاً، فهو صوفي الروح ثاقب الخيال، ومبدع المسرات لا يخرج عن ما يحب به الله، لا يتقيد بنص يعالج حالة وانتهى. النصوص الخالدة عنده مالا تؤذي أحد، وتنشر للمحبة آفاق بلاد قيود، فالثابت عنده "لا إكراه في الدين" والمتغير عنده كل ما يتعلق بالقسوة. أذهب وقرأ "الرسالة الثانية في الإسلام" للمقتول محمد محمود طه. فهو يعتبر الحجاب ليس أصلاً في الدين، والزواج من غير واحدة ليس أصلاً في الدين، بل والقوامة ليس أصلاً في الدين، والفصل بين الرجال والنساء ليس أصلاً في الدين. فلا رحم الله مَنْ سعى في قتل هذا العالم الجليل، وعثره في مهاوي السياسة، التي جلب بها إلى السودان الدكتاتورية بدلاً من الديمقراطية، وتراه بين حين وآخر تكتشف له مؤامرة، فكيف لا وهو مبدع بيوت الأشباح بالسودان.
تذكرت بقوة سؤال السائل وأنا أرى منقبة دخلت خلف رجل ملتح إلى مطعم، متجهم الوجه وكأنه قادم من مقبرة، ملتزماً حرفية الآية "أن الله لا يحب الفرحين"! تسير خلفه بلا ملامح، أخذني الفضول إلى معرفة كيف ستتناول طعامها وهي محجوبة الوجه والفم واليدين، وكيف ستختار طعامها؟ لم يستشرها الملتحي ذو الجلباب الأفغاني فقد طلب الطعام والشراب. وضعت الصحن تحت برقعها وأخذت تتناول منه بوجل، تمد يدها إلى بقية الطعام مع الحذر من حدوث خلل في حجابها، تأكل وهي مطأطأة الرأس وكأنها تسرق شيئاً ما، مختفية تماماً وراء حجابها. فهي وإن كانت بلندن وفي السنة الثالثة من الألفية الثالثة إلا أنها لا تزيد معرفة ودراية بما حولها عن المرأة التي أخبر عنها القاضي أبو علي التنوخي، تجاوزت الأربعين ولم تعرف شكل الجمل، لقد حجبت في الدار ولم تخرج إلا وقت السفر من الأنبار إلى بغداد، فرأت "جملاً يدير دولاباً، فقالت ما هذا؟ فقيل لها: دولاب الجمل! فحلفت أنها ما رأت جملاً قط".
وأين مبرقعة اليوم من عائشة بنت الصحابي المبشر بالجنة طلحة بن عبيد الله، ومن ثقتها بنفسها، يروي أبو فرج الأصفاني "كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد، فعاتبها مصعب (ابن الزبير زوجها) فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفون فضلي عليهم، فما كنت أستره، والله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحدُ". لا يجرأ على نقل مثل هذه الصورة الحدث إلا أديب تحرر من قيود المجتمع بعض الشيء، ولم يعد سفور الوجه مثلبة على السافرة، فقد غض صاحب الطبقات الكبرى ابن سعد وغيره من المؤرخين النظر عن مثل هذه الرواية، التي تؤشر إلى تقدم الماضي على الحاضر. وتفصح عائشة عن ثقتها بنفسها حين ردت على نظر شخص يدعى ابن أبي الذئب وهي تطوف حول الكعبة بالقول:
مِنَ اللاء لم يحججنَّ يبغينَ حسبةً
ولكن ليقتلنَّ البريء المغفلا
فرد عليها المغفل ابن أبي الذئب بالقول: "صان الله ذلك الوجه من النار". لقد وصل أمر الحجاب اليوم إلى إلغاء متعتي الطعام والشراب، فهل تكون سعيدة مَنْ تأكل وتشرب من وراء حجاب؟ كان هذا المشهد ومقارنته بفسح العصور الخوالي حافزاً لمتابعة معارك السفور والحجاب التي بدأت في مطلع القرن العشرين ولم تنته. يكذبُ مَنْ يرى أن الله لا يسمح للمرأة بالطعام إلا من وراء حجاب، ويكذبُ مَنْ لا يرى في حبس الجسد في كفن أسود أو أبيض حبساً للعقل.
وهناك مَنْ فضل للمرأة تعلم حرفة الغزل والحياكة على حساب تعلمها القراءة والكتابة، وكل ما يتعلق بالمعرفة، فهي تلزمها الدار أكثر من غيرها من الحرف. قال المحتسب الشافعي ابن الأخوة: "لا يعلم الخط امرأة ولا جارية". مستنداً إلى حديث نبوي، لا نعرف مدى صحته، يقول: "لا تعلموا نساءكم الكتابة ولا تسكنوهم الغرف، ولكن علموهنَّ سورة النور"، ففيها ولأوامر والنواهي والعقوبات الخاصة بالمرأة! لقد شبه ابن الأخوة المرأة المتعلمة "كمثل حية تُسقى سماً". وقد سبق المعري (ت494هـ) ابن الأخوة إلى مثل هذا القول في "اللزوميات":
فحمل مغازل النسوان أولى
بهن من اليراع مقلمات
قال المعري ذلك وهو من محبي الإمام أبي حنيفة النعمان(ت150هـ)، والأخير سمح للمرأة أن تتبوأ منصب القضاء، فكيف تكون قاضية مَنْ لا تقرأ وتكتب؟ ربما لهذه العبارة صلة بما نُقله الشهرستاني لليوناني ديوجانس الكلبي وسماها بالحكمة: "ورأى جارية تتعلم الكتابة فقال: يُسقى هذا السَّهم سُماً ليُرمى به يوماً".
تحدياً للمعري، الملتبس شعره في وجوه عديدة، برز عدد من النساء الخطاطات، ضاهين ابن البواب(ت 423هـ) بجمال خطهن، مثل فاطمة بنت الأقرع(ت480هـ) صاحبة الخط المليح الحسن، التي تولت كتابة كتاب هدنة بين المسلمين والروم، فكتب الناس على خطها(أعلام النساء)، ومزنة كاتبة الناصر لدين الله(622هـ) "كانت حاذقة من أخط النساء"، أسماء عبرت أغا "اشتهرت بخطها الجميل الجيد". وقبل هذا بكثير كان للسومريين والبابليين خطاطاتهم، منهن: أنان-آمامو، وشآت-أيا، وآمات-شمش، وآمات- مامو، التي عاشت عهد حامورابي.
المرأة في شرقنا لا تتدخل حتى فيما يخصها، لكن هناك مَنْ تجاوزت المحظور في زمن تلتحف فيه المرأة بعباءتين ونقاب على شاكلة النقاب الأفغاني، مثل قرة العين القزوينية تذكر الشرق بثورة أسبازيا اليونانية بالغرب، عشيقة حاكم أثينا بركليس (461-429قبل الميلاد). حاولت أسبازيا مزاحمة الرجال فأخرجت النساء من عزلتهنَّ، وفتحت مدرسة لتعليمهنَّ البلاغة والفلسفة. لقد جلس مستمعاً لخطبها سقراط وانكاغوراس وبركليس نفسه، لكن ذلك لم يعجب الفقهاء فالصقوا فيها تهمة الإلحاد وعدم الخضوع لنواهي الدين، فشهد محاكمتها (1500) قاضياً. أما اسبازيا العصر الحديث فكانت أسوأ حظاً فقد قتلت وحرق جثمانها لأنها تجاوزت الشريعة.
وصلت القزوينية زرين تاج، المعروفة بقرة العين، العراق ملتحفة الشادور الإيراني، وبعد إقامتها مع زوجها طالب العلم بكربلاء وتبنيها أفكار الشيخية ثم البابية لتكون حرفاً من (حروف حي) الثمانية عشر وهو عدد حواري الباب. استبدلت الشادور بعباءة تسمح بكشف الوجه والكفين وحرية أكثر في حركة الجسد، وخاطبت الرجال وجهاً لوجه، بعد أن كانت تتحدث لهم من خلف ستارة. ضاقت مدينة الكاظمية آنذاك بخطب صاحبة الشعر الأشقر في مجالس الرجال وجهاً لوجه، رغم أن طلاقة لسانها ورزانة فكرها لم تتركا مجالاً للفتنة بجمالها، فانتهت سجينة في دار مفتي بغداد أبي الثناء الآلوسي، الذي ناظرها وقدر علمها، ثم الترحيل إلى إيران، لتقتل هناك وتسحل جثتها بذيل حصان، وتحرق.
بعد قرة العين وسفورها المحدود وصلت بغداد مس بيل البريطانية، كانت سافرة السفور الغربي، لا تحتاج إلى ستارة تتحدث فيها مع الملك والوزراء ورجال الدين، إلا أن سفورها لم يثر مشكلة، أولاً لأنها الحكومة نفسها، وثانياً أن دينها لا يأمر بغير حجاب الراهبات، وثالثاً أنها صاحبة علم وشخصية يمنعان الفضول في طرح سؤال حول سفورها، مع أن معركة دعاة السفور والمحافظين حول الحجاب كانت حاضرة في الأذهان لم يمض عليها عقد من الزمن.
يختم الزهاوي مقاله بالبيت التحريضي التالي:
أخر المسلمين عن أمم الأرض
حجاب تشقى به المسلمات
وصلت مقالة الزهاوي الخطيرة إلى بغداد عبر نعمان الأعظمي (ت1936)، المدرس في مدرسة الإمام الأعظم والواعظ في الجيش العثماني، نشرها في مجلته الدينية. هنا يقبل فعل الأعظمي لإعادة نشر مقالة الزهاوي الأمرين: نصرة للسفور، فعنوان مجلته"تنوير والأفكار"، أو بنية قصد إيذاء صاحب المقال. ما حصل كانت المقالة وابلاً على الزهاوي، فقد أحتشد جمع من البغداديين أمام سراي الحكومة مطالبين بردع كاتبها (الزنديق) حسب عبارتهم. كان في مقدمة الغاضبين السيد الواعظ، الذي ذهب إلى الوالي ناظم باشا واصفاً الشاعر بالمارق، ودعوته دعوة فاسدة مخلة بالشريعة. يومها عُزل الزهاوي من التدريس في مجلة الأحكام العدلية في مدرسة الحقوق، واعتكف بداره خشية من الاعتداء وربما القتل. فذات ليلة طرق باب داره ثلاثة من أشقياء بغداد وطلبوا منه السماح لزوجته في أن تجالسهم في المقهى، وعندما احتج على الطلب احتجاج المرعوب، قالوا له: كيف تطلب من النساء أن يرفعن الحجاب ويختلطن بالرجال؟ وانتهى الأمر بالتهديد بالقتل إن عاد ثانية إلى "مثل تلك الأقوال الفاسدة".
حاول الزهاوي في بيان نشره في جريدة "الرقيب" التنصل عن مقاله المذكور، وشحذ همة الوالي ناظم باشا ضد رجال الدين مذكراً بالدستور العثماني، جاء فيه: "إلى ناظم الحكومة في بغداد، اسمع أن أحد المشايخ المتلبسين بالتقوى في بغداد، البلد الذي يسيطر عليه الدستور وعدلك الوافي، أخذ يدير رحى فتنة جسيمة، فيعرض الجاهلين على الإيقاع بيَّ باسم الدين البريء من الظلم، جزاء مقالة اجتماعية نشرت بإمضائي في المؤيد الأسبوعي، كما في تنوير الأفكار دفاعاً عن المرأة، وهي عدا كونها شبهات ضعيفة استفهامية تزول من نفسها لم يتعين بعد كاتبها أنا أم هي مزورة على لساني من عدو لي في العراق".
لو افترضنا أن الزهاوي تمكن البراءة من كتابة مقال "المرأة والدفاع عنها" فماذا تراه سيفعل مع قصيدته "أسفري"؟ هل يمكنه التنصل عنها أيضاً، وهي تحمل آراءه وطبعه الشعري؟ وكانت واحدة من المقرر المدرسي بالعراق، منها:
أسفري فالحجاب يا ابنة فهر
هو داء في الاجتماع وخيم
كل شيء إلى التجدد ماضٍ
فلماذا يقر هذا القديم؟
أسفري فالسفور فيه صلاح
للفريقين ثم نفع عميم
زعموا أن في السفور انثلاماً
كذبوا، فالسفور طهر سليم
لا يقي عفة الفتاة حجاب
بل يقيها تثقيفها والعلوم
لم يتراجع الزهاوي عن قصيدته مثلما حاول البراءة من مقالته، فالشعر يبدو أقل ضجة من النثر، فالشعراء عند الناس يقولون ما لا يفعلون. لم يفعلها مثلما فعلها حافظ إبراهيم يوم خفف من آرائه أمام المحافظين:
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً
بين الرجال يجلن في الأسواق
في دورهن شئونهن كثيرة
كشئون رب السيف والمزراق
ثم يدس فيها رأيه في الحجاب، موازناً بين الطرفين:
كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا
في الحجب والتضييق والإرهاق
ليست نساؤكم حلى وجواهراً
خوف الضياع تصان في الأحقاق!
كذلك لم يعط الزهاوي نصف رأي في السفور والحجاب مثلما فعل أحمد شوقي:
إن السفور كرامةٌ ويسارةٌ
لولا وحوش في الرجال ضواري
ترد نظيرة زين الدين العام 1928 على أمير الشعراء بالقول:"نعم أيها الأمير، إن السفور كرامة ويسارة، ولكن القناع لم يمنع أن يكون في الرجال وحوش ضوارٍ، بل القناع كان عوناً لذلك الوحش الضاري، أو لذاك الذئب، ولولاه لكان حال النعجة أبعد منه عن الشر، وأقرب لسلامة الشرف من الأذى". لعل نظيرة (1908-1976)، ابنة الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بلبنان وزوجة رئيس محكمة الاستئناف بحلب، كانت أول امرأة تؤلف كتباً في بيان اضطهاد بنات جنسها، فللردود القاسية على كتابها الأول "السفور والحجاب" اضطرت إلى تأليف كتاب "الفتاة والشيوخ" (بيروت 1929)، ناقشت فيه آراء الشيوخ الذين أنكروا عليها موضوع البحث وشككوا في قدرتها كامرأة على التأليف! أشارت نظيرة زين إلى الحجاب عند الأمم الأخرى ومسؤولية قادتها في التحرر منه، وكأنها تشجع زعيم بلادها إلى التراجع عن الإجراءات التي اُتخذت بدمشق "صيف 1927، حيث حرمت النساء من حريتهنَّ ومُنع عليهنَّ الخروج دون نقاب". قالت: "كان الروسيون المسيحيون من أشدّ الناس تمسكاً بالحجاب حتى مزق حجابهم بطرس الأكبر بأمر إمبراطوري 1726، وكان الأتراك المسلمون من أنصار الحجاب فمزّقه المصلح الأعظم مصطفى كمال منذ بضع سنوات. ومنذ قريب وقف في الناس خطيباً فقال: لقد أحرزت نصراً مبيناً على التقاليد والأعداء، يرجع نصف الفضل فيه للجند والنصف الآخر لتمزيق الحجاب".
برز ببغداد القاضي توفيق الفكيكي (1924) بلقب "نصير الحجاب"، رغم أنه متمدن ومتحضر في مختلف جوانب الحياة، فلم يحصل أن فرض الحجاب على بناته وبنات أسرته. ناقش الفكيكي مَنْ ردَّ على مقالاته في نصرة الحجاب (دعاهم بالسفوريين) بعدة مقالات جمعت تحت عنوان "مقالات في الحجاب والسفور"، معتبراً الحجاب ضرورة فرضتها الشرائع الإلهية، وأن مَنْ يدعون ضده هم أولئك الماديون. قال ضد مَنْ نعته بالتخلف بسبب نصرة الحجاب: "إننا من جملة مَنْ ننادي في هذا القطر بلزوم تعليم الفتاة، أما يفهم إننا عشاق التجدد وطلابه، ولكن من طريق العقل والروية لا من وراء الطيش والتهور". غير أن القاضي الفكيكي حصر وظائف بالحمل والرضاع وتربية الأطفال، نجده يسأل: "ماذا يصير بحال المرأة الحامل إذا انضمت إلى صفوف العمال المضربين عن العمل، أما تعرض نفسها للوكز والدفع والمزاحمة إلى أشد الأخطار على حياتها وحياة جنينها، وإلى أين تؤول صحتها وقت ما تنفعل لرأيها وبذلك الانفعال النفسي تفسد لبنها فتسقي ولدها منه سماً عازفاً وهنالك المصيبة العظمى والقضاء المبرم".
ردَّ أحد المستائين من خير الله طلفاح خال صدام حسين، عندما صرح في إحدى لقاءاته التلفزيونية المتكررة كيف تقود المرأة الطائرة ومن طبيعة جسمها الدورة الشهرية؟ رد صاحبنا بالقول: ماذا يكون حال طلفاح، ولنفترض أنه يقود الطائرة، أن أصابه إسهالاً مثلاً؟ وهل الدورة الشهرية تعيق النساء كافة عن ممارسة العمل، أم هو أرث ديني تشددت فيه اليهودية والصابئية المندائية في عزل النساء إثناء دورة الطمث؟ هنا لا نريد أن نساوي بين توفيق الفكيكي القاضي والكاتب والإنسان مع خير الله طلفاح المتخلف الطائش، لكن الشيء بالشيء يذكر كما يقال. استلم الفكيكي رداً شديداً على كتاباته لنصرة الحجاب، وبالتالي عزل المرأة، بتوقيع غادة غسان، جاء فيه: "أوجه كلامي إلى أولئك الصبيان المتمشيخين والشيوخ المتولدين، إلى أولئك الذين قد أكل الدهر وشرب على عقولهم وأفكارهم وأنظمتهم، ودساتيرهم، وقوانينهم، إلى تلك الطائفة المريضة المفلوجة بل المعتوهة والراقدة في أسفل درك من طبقات الحياة، والمضطجعة في مستنقعات الجهل المتعفن والتعصب المنتن (إلى قولها) إذا كنتم يا سادتي تطلبون أن تحجبوا الشمس عنا والهواء مراعاة العوائد والعنعنات الإسلامية فما بالكم تخترقونها بترككم نساء البدو والفلاحين في البر، ونساء الطبقة الفقيرة، ونساء طبقات العمال في المدن سافرات من غير برقع وحجاب.
بعد الزهاوي وما هيأه له تجواله وقراءته الفلسفية من خلفية لقبول الانفتاح على الغرب انطلق مجايله معروف الرصافي (ت1945) داعياً إلى فتح مجالات العمل والدراسة أمام النساء، وملخص رأيه في الحجاب المذكور في الآية "وإذا سألتموهنَّ متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب" أنه "كان خاصاً بنساء النبي دون غيرهن من نساء المسلمين، بدليل أنه خص بالذكر بيوت النبي، وبدليل أن سبب نزول الآية كان خاصاً أيضاً بنساء النبي، وهو جلوس الثقلاء عند زينب في بيتها". وهنا يُعثر في سيرة الخليفة عمر بن الخطاب ما يوافق رأي الرصافي في أن الحجاب زي لتمييز النساء الحرائر عن الإماء، فقد ورد أنه أنزل العقوبة بجارية ارتدت الحجاب، تشبهاً بالحرائر.
نظم الرصافي داعياً إلى السفور، بما هو أقل ضجة من"أسفري" الزهاوي:
وقد زعموا أن لسنَّ يصلحنَّ في الدنا
لغير قرار في البيوت وباء
فما هنَّ إلا متعة من متاعهم
وإن صنَّ عن بيع لهم وشراء
أهانوا بهن الأمهات فأصبحوا
بما فعلوا من الأم اللؤماء
قد يعجب المطلع على شدة تقدير الرصافي لأبي العلاء المعري، فهو يسميه بشاعر البشر، وفيلسوف الشعر، إلا أنه أفترق عنه في شأن المرأة، فقول المعري السابق في "اللزوميات" يحرض على عدم تعليمها القراءة والكتابة فكيف بالعمل والسفور؟
دخل المعركة لصالح الحجابيين الشاعر الشعبي البغدادي عبود الكرخي، فقد نشر عدة قصائد في العام 1924، رداً على فتيات كتبنَّ بأسماء مستعارة دفاعاً عن السفور، كتب تحت عنوان "السافرة":
بنت الحمولة شلهت ذرعانه
وكصت شعره وكَصرت فستانه
تمشي رهيفة ولابسة التنورة
للركبة تشبه ناكَة المبطورة
بالبيت جانت كل وكت مستورة
ما شافه السقه ولا جيرانهه
وسفه على أهل العراق لأصبحت
من غير بركَع سافره نسوانه
إذا أضفنا إلى جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، ومَنْ تستر وراء توقيع مستعار، عالم الاجتماع علي الوردي ترجح كفتهم على الحجابيين وإن وقف معهم كل أعداء النساء فهو أخطر سفوري، لأنه وضع السفور علاجاً لداء ازدواجية الشخصية المتأصلة في المجتمعات الإسلامية، قال: "إزالة حجاب المرأة، ورفع مستواها وإدخالها في عالم الرجل، لكي تتوحد القيم ويتشابه الرجل والمرأة فيما يفهمان وما ينشدان من مُثل وأهداف".
عادت تلك المعركة وكأننا من أصحاب الكهف، أشرقت علينا الشمس ونحن نسمع جدل الزهاوي والواعظ وشقاوات بغداد في حضرة الوالي العثماني، عادت هذه المرة بين النساء والرجال لا بين الرجال والرجال كما كانت في عهد الزهاوي والواعظ، أخذت حركات إسلامية تعلن فرض الحجاب على واجهات الجامعات والدوائر الرسمية، والنساء السوافر يتحدينَّ عبر منظماتهنَّ والندوات التلفزيونية، كل واحدة منهنَّ اسبازيا اليونانية وقرة العين القزوينية. إنها أزمة من الأزمات ستأخذ وقتها وتمر، فكم من بنات آل الزهاوي تحجبن وكم من بنات آل الواعظ وآل النقشبندي وآل الفكيكي أسفرنَّ! ختاماً، يبقى صوت الحوزة العلمية بالنجف أكثر الأصوات معقولية، فبيانها يقول: "مع دعوة المرأة إلى الالتزام بقواعد الإسلام إلا أن القرار الأخير يبقى ملكها وهي التي ستتخذه باختيارها". أما ما نُقلته كتب الحديث عن النبي محمد فلا يتجانس مع ما أراده للمرأة في أكثر من موقف، أوردناه في الفصل الأول من الكتاب. جاء في باب الآداب العامة: لا يمشي رجل بين امرأتين، ولا يماشي امرأة في الطريق، وعليها أن تلصق نفسها بالجدار عملاً بالحديث: "عليكنَّ بحافات الطريق".
[email protected]

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف