-1-
المهمة الصعبة في الزمن الرديء
المهمة التي يتولاها محمود عباس الآن كرئيس للسلطة الفلسطينية من أكثر المهمات صعوبة منذ فجر القضية الفلسطينية إلى الآن. فقد رحل عرفات بعد أن ترك خلفه أكواماً هائلة من الزبالة الفلسطينية ومن المشاكل المعقدة وإرثاً سلبياً يعجز عن حله العشرات من أمثال محمود عباس، خاصة بعد أن أصبحت القضية الفلسطينية منذ عشرات السنين معبداً قدسياً لتنصيب كهنة السياسة الفلسطينية الكبار، دون أي اعتبار أو التفات لصالح القضية الفلسطينية نفسها التي بدأت تذوب كقُمع الآيس كريم (البوظة) بين أيدي السياسيين الفلسطينيين الذين لم يكونوا مخلصين لها اخلاص اليهود لقضيتهم وبناء دولتهم.
لقد ضحى عرفات بالعرض السياسي المغري الذي لن يتكرر في مباحثات كامب ديفيد عام 2000 حرصاً على زعامته الجماهيرية، وحتى لا يكون ضحية للسلام كما كان السادات 1981 وكما كان اسحق رابين 1995. لقد افتدى السادات مصر بحياته، وافتدى رابين اسرائيل بحياته، أم عرفات فلم يجرؤ على هذا الفداء الغالي. وفضّل أن يموت على فراشه كما يموت البعير من أن يُقتل بطلاً للسلام.
وهكذا كان.
كذلك تفعل اليوم الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة.
إنها تريد لفلسطين المستحيل، وبذا فهي لا تريد لفلسطين شيئاً، ولكنها تريد أن تحقق لنفسها مجداً وزعامة سياسية على حساب فلسطين التي تذوب يوماً بعد يوم بين أصابع الانتحاريين كقُمع الأيس كريم كما قلنا.
-2-
محمود عباس بين الشرعية ولائها
لقد رصد الراصدون السياسيون بأن كل بادرة للسلام ولتنفيذ خارطة الطريق المرفوضة و"الملعونة" من قبل الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة، يسبقها تفجير هنا وهناك وعمليات انتحارية هنا وهناك، لاعطاء المبرر لشارون ولحكومته لوقف أي مباحثات أو خطوات ايجابية قادمة في طريق انشاء الدولة الفلسطينية.
ولقد تساءل العفيف الأخضر ذات يوم قائلاً في عنوان مقال له:
متى ينتهي الحلف المقدس بين شارون والفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة؟
ونحن نتساءل هنا:
ألم تقاطع الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة الانتخابات الرئاسية؟
ألم تعلن الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة أن محمود عباس رئيساً غير شرعي وغير مفوّض من الشعب الفلسطيني عبر بيانات سمعها وقرأها القاصي والداني؟
ألم تنسف الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة بعملية معبر "كارني" الانتحارية في قطاع غزة الأمل الأول الذي برق ومحمود عباس يضع راحته على القرآن الكريم ويقسم اليمين الدستورية؟
إن القيادة الفلسطينية وعلى رأسها محمود عباس ما زالت تعيش في وهم كبير، وهو وهم اقامة الدولة الفلسطينية، في وسط يريد أن يبقي فلسطين مليشيات ومغامرات وليس دولة ومؤسسات.
فكيف يمكن للدولة الفلسطينية أن تقوم ورئيس السلطة الفلسطينية رئيس غير شرعي وغير مفوّض برأي الحكام الحقيقيين للشارع الفلسطيني وهي الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة ؟
وكيف يريد عباس غداً السفر إلى غزة للتفاوض مع الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة وهؤلاء لا يعترفوا به؟
-3-
السلام بين الفلسطينيين أولاً
إن على محمود عباس أن يقيم السلام أولا بين السلطة الفلسطينية وبين الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة، قبل أن يفكر في اقامة سلام مع اسرائيل!
إن السلام مع اسرائيل أهون بكثير من السلام بين السلطة الفلسطينية وبين الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة!
لماذا؟
1- لإن السلام مع اسرائيل تحكمه شرائع ومعادلات سياسية دولية. بينما السلام مع الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة لا تحكمه أية شرائع. فكم من وعود أعطتها الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة لعرفات، ولم تف بها؟
2- لإن القرار السياسي في اسرائيل تحكمه مؤسسات دستورية ديمقراطية تتخذ قراراتها بعقلها وبحساباتها الواقعية الدقيقة، في حين أن القرار السياسي للفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة تحكمه الغرائز والعواطف والشهوات السياسية والدهماء في الشارع الفلسطيني المتشنج ذي الجروح النرجسية العميقة.
3- لإن السلام مع اسرائيل تضمنه دول كبرى وعظمى ويشهد عليه العالم. وهذا ما حصل بين اسرائيل ومصر في معاهدة كامب ديفيد 1978. وهذا ما حصل مع الأردن في معاهدة وادي عربة 1994، أما سلام الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة فلا يحكمه حاكم . فأنت تتفاوض مع أشباح ومليشيات وعصابات وليس مع دول وأنظمة سياسية دستورية.
-4-
من الأقوى عباس أم عرفات؟
لم اعتد أن أكون متشائماً. ولكني في الحالة الفلسطينية القائمة الآن أبدو متشائماً اليوم. فلا أظن أن محمود عباس سيكون أقوى من عرفات في حل عسكرة الانتفاضة، ونزع سلاحها وجرّها إلى مائدة المفاوضات.
لقد عجز ياسر عرفات بكل رصيده الوطني، وبكل خبثه السياسي، وبكل دهائه السلطوي، وبكل خبرته الطويلة في تطويع الأضداد، وبكل ماله السائب، وبكل لغته الملتوية، ومفرداته الشعرية الرومانسية، وبكل ما يملك من أجهزة أمنية (13 جهازاً أمنياً) أن يقنع الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة بالقاء سلاحها والاندماج في السلطة الوطنية الفلسطينية، وبلقاء اسرائيل على مائدة المفاوضات وليس على المعابر الانتحارية، ولكنه فشل في ذلك.
فكيف نطلب من محمود عباس الرئيس العَلماني، المتلبس بالكرزاوية (نسبة لكرزاي الأفغان) الملوثة أصابعه بحبر اتفاقية أوسلو "الغادرة" و "الملعونة" والمرفوضة حتى هذه اللحظة من الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة أن ينجح فيما فشل فيه الرئيس الدرويش، والقائد الأسطوري الخالد، وأبو الثورة الفلسطينية، وقائد النضال والمسيرة، والشهيد العتيد.. الخ؟
إن مهمة محمود عباس مع الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة أصعب بكثير من مهمته مع حكومة شارون!
ولن تتصالح حكومة شارون مع السلطة الفلسطينية ما لم تتصالح السلطة الفلسطينية مع نفسها؛ أي مع الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة أولاً.
-5-
الخوارج الجدد
لن تدع الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة التي أصبحت بمثابة فرقة الخوارج الجديدة في تاريخ العرب الحديث لمحمود عباس أن يتقدم خطوة ايجابية واحدة إلى الأمام بعد أن قاطعت انتخابه ولم تعترف بنجاحه ولا بمشروعيته وأطلقت صواريخ القسّام عليه وهو يحلف اليمين الدستورية!
نعم، أن صواريخ القسّام لم تطلقها الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة على المستعمرتين الاسرائيليتين نتساريم وسديروت، وانما أطلقتها على أرجل محمود عباس لكي تكرسحه، وتحول بينه وبين وصوله إلى مائدة المفاوضات مع اسرائيل. وهذا ما فعلته الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة في الماضي وفي عهد وزارة محمود عباس التي استمرت مائة يوم.
-6-
محمود عباس بين نارين
إن مفاوضات السلام لا يمكن لها أن تُعقد وصوت الرصاص من قبل الجانبين يلعلع في الخارج.
إن لعلعة صوت الرصاص لا يدع لطرف أن يسمع الطرف الآخر، فما بالك أن يفهمه أو أن يستوعب كلامه.
السلطة الفلسطينية لا تستطيع بامكاناتها الأمنية الحالية الضعيفة الآن أن تنـزع سلاح الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة. وما يطلبه شارون من محمود عباس هو المستحيل.
فالفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة تطلب المستحيل حين تقول لإسرائيل عودي إلى حدود 1967.
وشارون يطلب المستحيل من محمود عباس حين يطالبه بنـزع سلاح الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة.
ومحمود عباس بين نارين، ويُشوى ويتقلّب بين مستحيلين.
والسلطة الفلسطينية الحالية لا تستطيع الاصطدام والتصفية الدموية للفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة.
والسلطة الفلسطينية لا تستطيع فتح سجونها لعناصر الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة.
والسلطة الفلسطينية لا تستطيع تحويل الفصائل الفلسطينية الأصولية الدينية والقومية المسلحة إلى أحزاب سياسية ممثلة بالسلطة.
إذن، أين الحل؟
لا أعلم.
ولا أنتم تعلمون.
كل ما أعلمه أن ذهاب محمود عباس غداً إلى غزة هو الدخول في نفق مظلم وطويل ، لا خروج منه إلا بمعجزة.
فهل محمود عباس هو النبي السياسي الفلسطيني من أرض الأنبياء، وصاحب المعجزة في شعب لا يريد غير المعجزات؟
(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و "المدى" العراقية، و "الأحداث المغربية")
[email protected]
التعليقات