بغداد: تود ريتشيسين: في البناية المتهرئة التي تضم مكاتب اتحاد الكتاب العراقيين يجتمع المبدعون لقراءة أعمالهم ويتبادلون النسخ المصورة للمخطوطات التي كان لها أن تؤدي في ظل نظام صدام الى قطع اللسان. كان صدام بارعا لمعرفة قوة اللغة عندما تتشرب بالأفكار والمشاعر، فأسكت الكتاب المشتبه في استخدامهم الكلمات أسلحة لمقاومة نظامه.
كان صوت الشعر واثقاً وقوياً، ومبرره للكتابة يفسر ببساطة واستقامة.
قال علي الغزالي، الشاعر الذي يشعر، وهو في السبعين، بالحرية في الكلام الصريح الذي ظل مكبوتا لسنوات طويلة في ظل نظام الدكتاتور المخلوع صدام حسين: «ان الشعر نابع من الروح، ولكنني اختلف مع ذلك في حالتي. فكلي، أي كل جزء مني يوضع في كتابتي. انها بندقيتي ومدفعي وزهرتي».
وخلال عقود في عهد صدام كان الشعراء والكتاب المبدعون الآخرون يمارسون عملهم سرا أو لا يمارسونه على الاطلاق. وعلى الرغم من كل وحشيته كان صدام بارعا بما فيه الكفاية لمعرفة قوة اللغة عندما تتشرب بالأفكار والمشاعر، فأسكت الكتاب المشتبه في استخدامهم الكلمات أسلحة لمقاومة نظامه.
وما يزال القمع قائما في العراق، ذلك ان التفجيرات جعلت الكثير من الناس خائفين من مغادرة بيوتهم، ويظل الأصوليون، الذين يعارضون صدق الأدب المعبر عن صدق البشر، يشكلون تهديدا.
ولكن في البناية المتهرئة التي تضم مكاتب اتحاد الكتاب العراقيين في منطقة الكرادة المزدحمة ببغداد يجتمع الشعراء والروائيون والنقاد وكتاب القصة القصيرة يوميا في الوقت الحالي لقراءة أعمالهم بصوت عال، يتبادلون النسخ المصورة للمخطوطات التي كان لها أن تؤدي في ظل نظام صدام الى قطع اللسان، أو اليد أو قضاء سنوات في السجن، وربما الموت.
وخارج المبنى المكون من غرفتين هناك لوحة على الخشب باقية منذ أيام صدام تقول «ان أمة بدون شعراء عظام لا يمكن أن يكون فيها سياسيون عظام».
غير ان كثيراً من الكلام والكتابة والأفكار والمشاعر في ذلك المبنى الضيق يدور حول الصدق الذي تعرض الى القمع في عهد صدام، وحول الحرب التي ما تزال اصداؤها تتردد.
وقال الغزالي الذي سجن لمدة أربع سنوات بسبب عمله «لسنا احرارا حتى الآن ولكننا أكثر حرية». وبعد اطلاق سراحه كان يكتب سرا وكانت كتاباته المخطوطة باليد تضم صفحات من القصائد والقصص القصيرة موضوعة خلف لوحة فنية معلقة على جدران بيته. وقال «كنت خبيرا في اخفائها. لقد احتفظت بأفكاري مخفية عند الجدار».
وعندما سقطت بغداد بأيدي القوات الأميركية في ابريل 2003 لم يعد صوته مقموعا.
وعبر تاريخ البشرية كلها كان الشعراء تلهمهم الحرب والشجاعة والجبن الذي تخلقه، وهمسات الآباء الذين يفقدون أطفالهم فجأة، والانتصار في ميادين المعارك، والسقوط النهائي للانسان. وربما بسبب الكثير من الحروب في تاريخه جرى الاعتراف منذ زمن بعيد بالعراق باعتباره موطنا للكثير من افضل الشعراء الذين يكتبون بالعربية.
وحتى في عهد صدام كان الشعراء يعاملون باحترام. ففي طريق جسر الشهداء في الرصافة ينتصب تمثال الشاعر العراقي معروف الرصافي، الذي انتقد الزعماء العرب في شعره بسبب تقصيرهم تجاه شعوبهم، ولكنه كتب في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. وأولئك الذين كان بوسعهم أن يجعلوا من شعرهم مسموعا في عهد صدام أرغموا على ان يخفوا صدقهم عميقا داخل طبقات من النثر أو في حالة آخرين يخضعون للدكتاتور معبرين عن الدعاية بزي الفن.
وقال كريم الوالي، 54 عاما ، الذي قال ان اصدقاء حذروه عام 1979 من أن قصة قصيرة كتبها ونشرت في لندن ترتاب بنظام صدام جعلت من رجال المخابرات العراقية يطرحون أسئلة حوله، قال «اذا كان لك أن تكتب بحرية في زمن صدام فان الأفكار يجب ان تكون أفكاره لا أفكارك. لقد اختفى الكتاب الحقيقيون اما بأجسادهم أو بكلماتهم. وهيمن الكذابون على الفن».
وقال الوالي انه نادرا ما غادر بيته بعد أن علم أنه طرحت اسئلة بشأنه. والعمل الذي كان من الواضح ان النظام شعر بخشية منه هو «الوجه»، وهي قصة جنديين ايرانيين يواجهان بعضهما وبيديهما بندقيتاهما في حالة مجابهة. وفي النهاية يضعان البندقيتين جانبا ويعترفان بأن احراز نصر في نزاعهما كان يعني فقدان حياتهما، وهي تعليق مكشوف على الحرب العراقية الايرانية التي بدأها العراق عام 1980.
وقال الوالي «بعد ذلك تعين علي الاختفاء. ولمدة 25 عاما كنت مختفيا، ولا بد أن يجعل ذلك الاختفاء المرء شيخا متعبا».
لقد افلح افضل وأشهر شعراء العراق ـ سعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي ـ في الذهاب الى المنفى، وبتلك الوسيلة تجنبوا المساومة على عملهم. والبعض في داخل العراق اختفوا ببساطة وبات يعتقد انهم اعدموا، بينما قضى آخرون سنوات في السجن.
وفي عهد صدام كان اتحاد الكتاب مقرا للشعراء الذين كانت الدولة تدفع لهم الرواتب والذين كان بالامكان الاعتماد عليهم لمدح القائد، ولكنه ايضا كان مكانا لآخرين، هم الكتاب الأقل تبعية حيث يلتقون بعضهم بعضا هناك.
وقال حسن عبد راضي ، 38 عاما، الذي عمل مديرا للاتحاد «انه يشبه يوما جديدا بالنسبة لنا. لدينا الآن أكثر من ألف عضو وهو ما يعني ملايين الأفكار».
وتتراوح أعمار الكتاب بين 19 الى 76 عاما. وعلى الرغم من أنه ما من أحد منهم يتلقى المال من الحكومة ـ كما كان يفعل البعض في ظل نظام صدام ـ فان لديهم أملا في ان الصحافة المنفتحة الجديدة في العراق ستكون كافية لتوفير فرص الكتابة من اجل العيش. وليس كل شعر يغني للحرية. لقد اعتقل سعد صاحب ، 45 عاما، من قبل الجنود الايرانيين عام 1982 بينما كان يقاتل في صفوف الجيش العراقي. وفي السجن حرم من الكتابة ولكن ذلك لم يوقفه. وكان النزلاء في السجن يعطون ابر الحقن والحبوب المضادة لمرض السل. وتستخدم أغلفة الحبوب عند افراغها لغرض الحبر والابر لغرض الكتابة بدل الأقلام. وكان صاحب يفرق التبغ من السجائر ويستخدم ورق السجائر للكتابة.
وقال «رسائل قصيرة وبيت من الشعر، اعتدنا أن نعطيها الى الأصدقاء كهدايا. كنا نكتب عن الحنين والشوق الى العراق. الحرب هي التي خلقت مني شاعرا».
ولم يكن ورق الحبوب والسجائر يوفر مساحة كافية للأفكار. ولكن ضرورة الشعر بالنسبة لصاحب أدت الى ابتكار آخر. كان يصب الشامبو على علبة بلاستيكية. ثم توضع قصاصات الورق ـ علامات من العلب، وبعض اوراق السجائر، وكل ما أمكن الحصول عليه ـ فوق الشامبو على نحو مستو. ثم يستخدم فرشاة أسنان لضغط حروف على الورق. وعندما يقرأ عدد كاف من الناس أشعاره يسحب الورقة الى الأعلى فتختفي الحروف، ويمكنه أن يعيد الكتابة على لوح منظف بالشامبو.
وقد اطلق الايرانيون سراحه يوم 18 مارس 2003 وعاد الى عائلته في مدينة الصدر، وهي أحد أحياء بغداد الفقيرة. وبعد يومين بدأت الولايات المتحدة قصف العراق. وقال «كل ما عرفته هو الحرب. وكل ما أعرفه الآن هو الحرب».
التعليقات