&
&
بيروت - خليل حرب : قلّما كشفت الولايات المتحدة عن خفايا موقفها من حركة طالبان خلال مرحلة صعودها للاستيلاء على كابول في 27 أيلول 1996.
لكنها حين كانت تجاهر بموقف ما، كان انحيازها لطالبان يبدو جليا، وهو ما يتناقض مع أجواء العداء الشائعة بينهما الآن، ويجعلها ملتبسة.
ربما انقلبت طالبان على واشنطن بعد زمن من الود والتواطؤ عملا بالمثل البشتوني القائل إن <<بإمكانك استئجار أفغاني ولكن لا يمكنك شراؤه أبدا>>.
ومهما يكن، فإن الكثير من الغموض ظل يكتنف الموقف الأميركي الحقيقي من طلاب الفقه منذ ترعرعهم بإشراف الاستخبارات الباكستانية. وربما لن تكشف السياسة وخبثها، المستور من العلاقة بينهما.
غير أن محاولة رصد الموقف الأميركي من طالبان، تظل ممكنة، ما بين فترة ما قبل 27 أيلول 1995 وصولا الى آب 1999 عندما خطت واشنطن الخطوة الأولى لمعاقبة طالبان بتجميد أموال شركة طيران <<أريانا ايرلاينز>> الأفغانية بسبب إيواء الحركة لأسامة بن لادن.
ففي الوقت الذي كان صوت إيران وروسيا يعلو احتجاجا وقلقا على الصعود المدوي لطالبان، قبل نحو عامين من الدخول <<المظفر>> الى كابول وأنقاضها، كانت واشنطن تلزم صمتا مريبا.
إلا أنه في آذار العام 1995، وجّهت واشنطن نقدا صريحا للفصائل الأفغانية وضعها كلها في سلة، ووضع طالبان في سلة مقابلة، وهي التي كانت في بداية صعودها العسكري تعيق، كخصومها إن لم يكن أكثر منهم، خطة سلام الأمم المتحدة التي يقودها محمد المستيري.
فقد قالت مساعدة وزير الخارجية الأميركية روبين رافييل إنه <<على الرغم من ان نيات طالبان غير واضحة، كونها حركة جديدة وقوية، فإنها لا تعارض مبدئيا العملية السلمية في بلادها>> التي كانت تنص على تشكيل مجلس انتقالي (حكومة مؤقتة) تتولى السلطة من برهان الدين رباني. وبعد أن سلّمت بأن طالبان تتبنى نهج السلام، ذكرت أن الفصائل الأخرى تتخذ مواقف متشددة بسبب الدعم الخارجي الذي تتلقاه من دول إقليمية.
إلا أن ما هو مثير، أن اتصالات واشنطن بطالبان ربما بدأت منذ العام 1994، وفق ما أشارت إليه صحيفة <<هيرالد تريبيون>> (1/10/1996) نقلا عن مسؤولين أميركيين كانوا يتحدثون عن رغبة إدارة الرئيس بيل كلينتون بإجراء مفاوضات مبكرة مع الملا محمد عمر، وجرى بعضها في قندهار وباكستان حيث شاركت فيها روبين رافييل.
ولخص مسؤول أميركي موقف واشنطن حينذاك بالقول <<إن هناك اتفاقا عاما على أن طالبان جماعة أصولية، صارمة وعنيفة بشكل ما، لكنها مختلفة عن بعض إسلاميي الشرق الأوسط بأنها لا تسعى من أجل تصدير الإسلام، ولا تؤيد ثورة إسلامية>>، مضيفا انها تتوجه نحو <<تحرير أفغانستان>> و<<العودة الى الشريعة>>.
وهو يطابق ما عبرت عنه روبين رافييل أيضا حين أشارت إلى انه <<ليس عندنا مشكلة مع طالبان وشرعيتها السياسية، فطالبان لم تُظهر حتى الآن أي نزعة توسعية أممية إسلامية، وكل ما قالوه حتى الآن يدور حول أفغانستان وإقامة حكومة إسلامية وتجريد المقاتلين من سلاحهم>>.
أما <<الفاينانشال تايمز>> فقد كتبت بعد سقوط كابول تقول: <<واشنطن مهذبة حتى الآن إزاء طالبان. وفي أحاديث خاصة عبّر مسؤولون أميركيون عن ابتهاجهم بإعدام نجيب الله (الرئيس الأفغاني الشيوعي المخلوع) الذي كان يُفترض ان يكون بحماية الأمم المتحدة>>.
ولم تكن واشنطن مكتفية بما هو <<مهذب>> في العلاقات السياسية، بل تجاوزته الى حدود الانشغال بتطورات الاشتباكات الميدانية والانحياز إلى طالبان، مثلما حدث عندما دعا القائد العسكري المعارض أحمد شاه مسعود في تشرين الأول 1996 في خضم معركة محاولة استعادة العاصمة من طالبان، إلى إرسال قوات دولية الى كابول لإنهاء القتال والتمهيد لمفاوضات سلام، فما كان من المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيكولاس بيرنز إلا أن رد فورا بالقول إنها <<فكرة سابقة لأوانها>>.
وقد سبق كل ذلك، استقبال وفد من طالبان في البيت الأبيض في أيار 1996 (قبل نحو 3 شهور من دخول كابول)، ومشاركته في مؤتمر برعاية السناتور هانك براون الذي كان يُعتبر من أبرز المدافعين عن طالبان في الكونغرس الأميركي.
ولم يدم الأمر طويلا، وتبعته زيارة ثانية أكثر دلالة في أواخر العام 1997 بتدبير وتمويل من شركة <<أونوكال>> النفطية الأميركية، الشريك في <<سينتغاز>>؛ وهو واحد من تكتلي شركات يتنافسان على بناء خطوط أنابيب للغاز من تركمانستان الى باكستان عبر أفغانستان.
إلا أن الارتقاء العلني بالعلاقات سُجل في نيسان العام 1998 من خلال زيارة المندوب الأميركي لدى الأمم المتحدة بيل ريتشاردسون إلى أفغانستان، التي اعتُبرت الزيارة الأبرز لمسؤول أميركي بهذا المستوى منذ زيارة وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر في العام 1974 الى كابول قبيل سيطرة الشيوعيين على الحكم.
قيل الكثير عن نشأة طالبان في مدارس الفقه على الأراضي الباكستانية. وقيل إن وزير الداخلية الباكستاني نصر الله بابار، <<البشتوني>> على غرار القاعدة الطالبانية هو من أطلق الحركة بموافقة رئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو، بعدما ملّت إسلام آباد صراع <<المجاهدين>> على كابول وفشل قلب الدين حكمتيار في فرض سيطرته على باقي الفصائل.
وقيل أيضا إن حكمتيار اشتبه دوما بأن السفير البريطاني السابق لدى إسلام آباد نيكولاس بارنيكسون هو الذي أطلق فكرة تأسيس طالبان، وان باكستان غضّت النظر عن نشوئها بينما كانت أموال من السعودية والخليج تتدفق عليها. وعشية سقوط كابول بأيدي المقاتلين الجدد، اتهم حكمتيار الولايات المتحدة بدعم طالبان في محاولة لإعادة الملك السابق ظاهر شاه إلى العرش الأفغاني.
وسقطت كابول، ودخلتها طالبان، وأعلنت <<قيام دولة إسلامية تماما>>، فاعترفت بها باكستان سريعا لأن رجال طالبان <<أتقياء يكنّون حبا للإسلام>>. وانتظرت السعودية قليلا حتى أيار 1995، لتعترف بها دبلوماسيا، وتبعتها الإمارات بعد شهر، لتبادر طالبان من جهتها فورا... إلى إغلاق سفارة إيران.
ومن الواضح أن الولايات المتحدة لم تكن بحاجة إلى سفير. فانغماسها في الصراعات الأفغانية تفوح منه رائحة الغاز والنفط القزويني، وهو أمر كان واضحا لكثيرين، ومنهم إيران التي دأبت منذ الصعود الغامض لطالبان، على التنديد بها وبمعيلتها أميركا.
وإجمالا، يمكن وضع تصورات لأسباب الدعم الأميركي لطالبان، ومنها محاولة احتواء النفوذ الإيراني من الشرق ومنطقة بحر قزوين، والسعي لاحتواء الخطر الذي بات يمثله <<الأفغان العرب>> على النفوذ الأميركي في منطقة الخليج خصوصا، من خلال إقامة حكم قوي في كابول قادر على بسط سيطرته على مجمل أفغانستان، ولا يتبنى نظرية <<تصدير الثورة الإسلامية>>.
كما إن هناك رغبة أميركية في القضاء على أحد أبرز مواطن المخدرات وتهريبها في العالم، وهي بالطبع، قضية بالغة الأهمية في الهموم الأميركية الداخلية، هذا الى جانب المصالح المتعلقة بالطاقة ومصادرها. (السفير اللبنانية)
&