انه القرن الكبير للحداثة الاوروبية. ففيه واصل التنوير صعوده لكي يحقق منجزات جديدة تتمثل في الثورة الصناعية، والمخترعات التكنولوجية، والنهضة الاقتصادية التي لم يسبق لها مثيل من قبل.
ينبغي ان نعلم انه حتى عام 1800، أي عشية القرن التاسع عشر فان جميع مناطق العالم بما فيها اوروبا، والهند، والصين، كانت متساوية من حيث المستوى الحضاري، والمدخول الاقتصادي لافرادها (حوالي المائتي دولار) ولكن في عام 1976، أي بعد قرن ونصف من ذلك التاريخ، كان مدخول الفرد الاوروبي اصبح (2325 دولار)، هذا في حين ان مدخوله في الصين وبقية بلدان العالم الثالث لا يتجاوز (350 دولار)!... ما هو سبب هذا الفرق الشاسع الواسع؟
&
انتهاء الدين وسيطرة العلم
انه الثورة الصناعية وتقدم العلم في اوروبا. فاختراع الالة الكهربائية، والقطارات، وسكك الحديد، والكهرباء، والمصانع الحديثة، كل ذلك يعود الى القرن التاسع عشر. عندئذ اخذت اوروبا تثق بنفسها كل الثقة وتصبح قادرة على ان تهيمن ليس فقط على الطبيعة، وانما على العالم كله (انظر المغامرات الاستعمارية). وعندئذ ألف المفكر الفرنسي ارنست رينان كتابه "مستقبل العالم"، وتنبأ فيه بانتهاء الدين وسيطرة العلم على البشرية كلها. فالعلم قادر، في نظره، على حل جميع المشاكل، وكشف كل المجاهيل والاسرار التي لم تكشف بعد. هذه النظرة المتفائلة جدا والمؤمنة بالعلم الى اقصى الحدود هي التي هيمنت على اوروبا في القرن التاسع عشر. ولذلك وصفه بعضهم بانه عصر علمي، وضعي، متطرف في نزعته العلمية والوضعية. انه عصر الحداثة الظافرة والمستبشرة بحاضرها ومستقبلها، الحداثة التي لم تشهد بعد تلك الهزات او الخيبات الكبرى التي ستحصل في القرن العشرين (حروب عالمية، كوارث، مجازر..).
هيغل وفينومينولوجيا الروح
كان المنظر الاكبر للفلسفة في النصف الاول من هذا القرن هو هيغل بطبيعة الحال. فالكثيرون رأوا فيه ارسطو الازمنة الحديثة. انه شخص قادر على استيعاب كل العلوم المتوافرة في عصره. انه "وحش" فلسفي او بلدوزر حقيقي قادر على اكتساح كل شيء في طريقه. راح هيغل يقول بان الله يتحقق في التاريخ ومن خلال مساره. وهو احيانا يقول الله، واحيانا يقول الروح، واحيانا يقول العقل او التقدم، والمعنى واحد في كل الحالات. كان هيغل هو المنظر الاكبر لفلسفة التاريخ، او لمسار التاريخ الكلي.
وفي كتابه الشهير "فينومينولوجيا الروح" الذي ألفه وعمره خمسة وثلاثون عاما فقط، راح يصف أوديسة الروح: أي صعود العقل في التاريخ درجة درجة، ومرحلة فمرحلة منذ أقدم العصور وحتى اليوم. فالروح تجسدت في التراجيديا اليونانية، ثم في الحضارة الرومانية، ثم في تقشف عصر القرون الوسطى، ثم في عصر النهضة بطبيعة الحال، ثم في التنوير، ثم في الثورة الفرنسية، ثم في الارهاب الذي ميّز المرحلة الثانية من هذه الثورة، ثم الرومانطيقية الالمانية، واخيرا في هيغل نفسه (ولكنه لا يقول ذلك بالطبع، ولكن يُفْهم من كلامه بان فلسفته تمثل نهاية التاريخ لانه توصل الى مرحلة المعرفة المطلقة وقبض على الحركة الكلية للتاريخ..). كما انه توصل الى مرحلة تصالح الروح مع نفسها، او الوعي مع ذاته، بعد ان عاش عذابا، وتمزقا هائلا عبر التقلبات المتلاحقة للتاريخ.
ملحمة تحقق العقل ونضجه مع التاريخ
ففي كل مرة كان يخرج الوعي من ذاته ويشعر بالاستلاب، ثم يعود الى ذاته لكي يخرج منها مرة اخرى، وهكذا دواليك. واخيرا تصالح الوعي مع نفسه بعد ان توصل الى هذه المرحلة الاخيرة، مرحلة النضج الكبير والمعرفة المطلقة.. هذه هي باختصار شديد قصة الملحمة التي يرويها لنا هيغل في كتابه الشهير "فينومينولوجيا الروح".
انها ملحمة البشرية، وملحمة التاريخ او تحقق العقل ونضجه عبر التاريخ. ليس غريبا ان يكون هيغل احس بان الروح -أي الحضارة في الواقع- قد حطّت رحالها في اوروبا، وان التاريخ قد وصل الى مبتغاه او نهايته، لان التقدم العلمي والعقلاني كان قد بلغ ذروته في تلك المنطقة من العالم دون سواها. والتاريخ في نظر هيغل يظل عقلانيا وسائرا نحو التقدم على الرغم من كل الكوارث والفواجع. بل ان الكوارث والحروب والمآسي البشرية ضرورية لكي يتقدم التاريخ. فللتقدم ثمن ينبغي دفعه بشكل او بآخر، ورما لزمنا ان نضحي بعدة اجيال لكي نصل الى بر السلامة والسعادة. ولهذا السبب قال هيغل بان كل ما هو واقعي عقلاني حتى لو كان جنونا، او عبثا، او مجازر يحفل بها التاريخ. والعقل لكي يتحقق في التاريخ ينبغي ان يحتال او يمكر: بمعنى انه يستغل الفواجع لكي يتقدم في العالم. فهو لا يستطيع ان يتجسد في الاشياء بدون وساطة الشخصيات الاستثنائية او الرجال العظام الذين يجسدونه على غير وعي منهم. ومن هؤلاء الابطال نذكر الاسكندر الاكبر، او يوليوس قيصر، او نابليون الذي كان يفتح المانيا في الوقت الذي ينهي فيه هيغل كتابه. ومعلوم انه كان معجبا جدا بالثورة الفرنسية ونابليون الذي يحمل القيم الجديدة الى العالم. ويقال بان هيغل لمحه من بعيد وهو يخترق مدينة "يينا" في المانيا فقال: رأيت الامبراطور، روح العالم، على حصان...
العقل يحكم العالم
هكذا نجد ان روح العالم قد تجسدت، ولو للحظة، في شخص يدعى نابليون. وانه شخص يعمل من اجل ان يتقدم العقل في التاريخ، ولكن دون ان يدرك ذلك او يعيه كل الوعي. ولذلك يتحدث هيغل عن مكر العقل او حيلته: انه يستخدم الناس لتحقيق مآربه في التاريخ على غير وعي منهم. ولكنها حيلة شريفة او خدعة نبيلة، فلولاها لما حصل التقدم في التاريخ، وظلت البشرية تتخبط في عصر الهمجية والبربرية. هكذا نجد ان نظرة هيغل للتاريخ تظل عقلانية على الرغم من كل جنون التاريخ. يقول بما معناه: "ان الفكرة الوحيدة التي تقدمها الفلسفة هي فكرة العقل. اقصد الفكرة التي تقول بان العقل يحكم العالم. ينتج عن ذلك ان التاريخ الكوني يجري، هو الاخر، عقلانيا. ان العقل هو الجوهر، انه القوة اللانهائية، انه المضمون اللانهائي...". هكذا بلور هيغل مفهوم العقل الموسع والعقل الذي يهضم او يستوعب حتى العناصر العقلانية. ثم بلور المنهجية التي توضح لنا كيفية تشكل الصيرورة التاريخية. وهي المنهجية الجدلية التي تشرح بشكل عبقري كيفية تجاوز التنناقضات عبر التريخ.
فمن رحم السلب يصدر الايجاب، والعكس صحيح. في الماضي، أي قبل هيغل، ما كنا نعرف سبب وجود الشر (او العوامل السلبية) في التاريخ، وكنا نستغرب ذلك او نستنكره.. واما الان فاصبحنا نعرف انه ضروري لتقدم حركة التاريخ. وبالتالي فلا ينبغي ان نيأس اوننزعج، اذا ما رأينا التاريخ مليئا بالكوارث، واعمال العنف، والانفجارات. لا ينبغي ان ييأس الشعب الجزائري مثلا مما يحصل له. فوراء الأكمة ما وراءها. وما بعد النفق الطويل - والظلام- الا النور.. وما بعد العنف والخراب الا السلام والعمران (على هذا النحو يمكن ان نترجم فكر هيغل..).
تراجع هيبة اللاهوت وفتاوى البابا
ليس غريبا ان يكون الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي قد قال عام 1948: " ان كل ما يحصل من أشياء عظيمة في مجال الفلسفة منذ قرن يعود الى هيغل". ولكن لا ينبغي ان ننسى ان مؤسس الفلسفة الوضعية، اوغست كونت، كان منافسا طيلة القرن التاسع عشر. ففلسفته ايضا انتشرت انتشارا كبيرا وهيمنت على الدوائر الثقافية الفرنسية، بل الاوروبية. والسبب هو انها فلسفة قائمة على تقديس العلم في عصر لم يعد يؤمن بشيء الا اذا كان قائما على التجريب، والوقائع الملموسة، والبراهين. فبعد الانتصارات التي حققها العلم الفيزيائي والرياضي بل والبيولوجي على يد داروين اصبح العلم سيد الموقف بدون منازع. وتراجعت هيبة اللاهوت الديني، الشيء الذي ازعج كثيرا بابا روما والفاتيكان. فأصدر عدة فتاوى لادانة العلم الحديث والنظرية الداروينية. هكذا نجد ان الصراع الذي اندلع في القرن الثامن عشر بين العقلانيين والمتدينيين ظل مستمرا في القرن التاسع عشر. والواقع انه صراع يخترق كل تاريخ الحداثة الاوروبية.
البابا : لن نسمح للعقل بان يغزو المجال المخصص للايمان لكي يزرع فيه الشكوك والقلاقل
انه الصراع الجدلي الخلاق المؤسس للحداثة. وقد استفاد منه الدين والعلم في آن معاً. فالمسيحية الاوروبية اضطرت في نهاية المطاف الى تجديد لاهوتها وعقيدتها لكي تساير الحداثة، لكي تتأقلم مع روح العصور الحديثة. وهذا للأسف ما لم يحصل عندنا حتى الان. ولذلك نشهد صراعا مروعا في جميع المجتمعات الاسلامية بين التيار الاصولي المتزمت وبين التيار التحديثي او العلماني (انظر ما يحصل في ايران، او مصر، او افغانستان، او الجزائر، او المغرب..). ينبغي ان نعلم ان هذه المشكلة عاشتها المجتمعات الاوروبية سابقا وعانت منها الأمرين قبل ان تتوصل الى حل لها. ولكن ينبغي ان نكون منصفين ومتوازنين فيما يخص المسألة الشديدة الحساسية والخطورة. فالواقع ان التيار العلموي (ولا أقول العلمي) المتطرف في إلحاده وغروره أثار حفيظة التيار الديني. وبالتالي فالحق لا يقع على طرف واحد وانما على كلا الطرفين. ولذلك قال البابا عام 1862، أي في عز القرن التاسع عشر: "لن نسمح للعقل بان يغزو المجال المخصص للايمان لكي يزرع فيه الشكوك والقلاقل..". ثم اصدر عام 1864 رسالة بابوية يهاجم فيها بشدة افكار الحداثة: كاللامبالاة بالدين والعقلانية المتطرفة، والليبرالية، وحقوق الانسان التي لا تبالي بحقوق الله، الخ.. وكان ذلك يعتبر بمثابة رد مباشر على التيار العلماني المتمثل بالمثقفين والفلاسفة.
كتاب "حياة يسوع" وصدمة الوعي الكاثوليكي
فمعلوم ان الفيلسوف الالماني ديفيد شتراوس كان قد اصدر كتابا عام 1835 ينكر فيه ألوهية يسوع المسيح ويشكك حتى بمفهوم الوحي نفسه. وأما الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان فقد اصدر كتابا عن "حياة يسوع" عام 1863. وهو يمشي في نفس الاتجاه التاريخي الذي ينزع التقديس عن شخصية المسيح دون ان ينكر عظمته ويقدم صورة تاريخية عنه وعن نشوء المسيحية. وقد صدم هذا الكتاب بشدة الوعي& المسيحي الكاثوليكي ونزلت المظاهرات الى الشارع في الحي اللاتيني. ودعت الى& ايقاف دروس رينان في الكوليج دو فرانس. واستجابت الدولة لضغط الشارع الكاثوليكي وأوقفت بالفعل هذه الدروس. ولكن افكار الحداثة انتصرت في نهاية المطاف دون ان يعني ذلك ان الدين انتهى، وانما تجدد كما قلنا وقبل بالمنهج العلمي والتاريخي في نهاية المطاف.
مهما يكن من أمر فان القرن التاسع عشر كان تتويجا لمسار الحداثة الذي ابتدأ منذ القرن السادس عشر. فعلى مدار ثلاثة قرون استطاعت الحداثة ان ترسخ مواقعها في اوروبا، وان تشكل حضارة قائمة على العلم، والفلسفة، والتكنولوجيا. كما انها حضارة قائمة على الايمان بالانسان ومقدرته على صنع المعجزات. فهذه الحضارة تبدو للقادم من بعيد والذي يراها لاول مرة وكأنه معجزة حقا. فالتكنولوجيا الحديثة غيّرت وجه العالم، والعقلانية العلمية نظمت المجتمعات الاوروبية تنظيما دقيقا تحسدها عليه بقية شعوب الارض.
ولكن في الوقت الذي بلغت فيه الحداثة العلمية ذروتها في اواخر القرن التاسع عشر، وفي الوقت الذي تهيأنا فيه لاستقبال القرن العشرين راحت تحصل اشياء مرعبة لم تكن متوقعة على الاطلاق. وهذا ما سيكون موضوع حديثنا في الحلقة المقبلة والاخيرة: الحداثة في القرن العشرين.