عبد الله القصيمي
&
القصيمي في الأزهر !!
في عام 1927 التحق القصيمي بجامعة الأزهر الشريف، وعلى الرغم مما تحتله الجامعة من مكانة علمية متميزة، كونها أعلى مؤسسة دينية في العالم الإسلامي، إلا أنها خيبت آمال القصيمي، إذ كانت على خلاف ما كان يتصوره القصيمي في فكره عن هذه الجامعة قبل التحاقه بها، وكان الأزهر يواجه آنذاك هجوماً من عدد من المفكرين المصريين وعلى رأسهم الشيخ محمد رشيد رضا، الذي كتب عدة مرات في مجلته المنار عن الأزهر وأن علماءه غير قادرين على تعليم الإسلام الحقيقي ولا على تفسير نصوصه أو فهمها، إضافةً إلى ذلك كان الأزهر كما يقول يورغن فازلا كرة تتقاذفها القوى الوطنية الليبرالية والقوى الملكية المحافظة وذلك حول دور الأزهر في النظام التعليمي المصري، وفي ظل هذه الخصومات أكمل القصيمي دراسته في الأزهر، ثم اتخذ موقفاً في الخلاف الذي نشب حول الوهابية، وكان العالم الأزهري الشيخ يوسف الدجوي قد كتب عدة مقالات يدافع فيها عن شعائر تكريم الأولياء ضمنها حججه تجاه الآراء الوهابية، منها مقالته الشهيرة"التوسل وجهالة الوهابيين" المنشورة في مجلة"نور الإسلام" عام1931، لذلك أصدر القصيمي أول كتاب له وهو" البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية" نقض فيه القصيمي حجج الشيخ الدجوي من خلال استعراض مقولات علماء الحنابلة كابن قدامة والشوكاني وغيرهما.

الهجوم على علماء الأزهر
كان لهذا الكتاب ردة فعل عنيفة لدى علماء الأزهر، الذين قرروا فصل القصيمي من الأزهر، وكان ذلك عام 1931 ، لذلك شن القصيمي هجومه على علماء الأزهر من خلال كتبه التالية لكتابه السابق، وهي " شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام" وكتاب " الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم" ووقف الشيخ رشيد رضا إلى جانب القصيمي من خلال مراجعته لكتاب " البروق" في مجلته المنار وقال: إن القصيمي اكتسح العلماء بمعرفته الواسعة وأخجلهم، هذه المعركة التي خاضها القصيمي مع علماء الأزهر أكسبته شعبية واسعة في أوساط حركات التجديد الإسلامية.
&في عام 1936م اعترفت الحكومة المصرية رسمياً بالمملكة العربية السعودية، فأصدر القصيمي كتابه الشهير " الثورة الوهابية" وكان هدفه كما يقول فازلا الدعوة إلى تأييد الدولة السعودية الفتية، وتحسين صورة الحركة الوهابية أمام الرأي العام المصري، وقد ذكر القصيمي في كتابه أن العالم الإسلامي قد وجد في شخص" ابن سعود" رجلاً يمكن أن يساعده على استعادة المكانة التي فقدها خلال القرون الماضية، وعلى العودة إلى الأسس الحقيقة لدينه، وكامتداد آخر للدفاع عن الحركة السلفية في نجد، رد القصيمي على كتاب الكاتب السوري محسن الأمين العاملي المعنون بـ"كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب"، جاء رد القصيمي صاعقاً معززاً مكانته كمجادل ومحاور من الطراز الرفيع، إذ جمع رده في جزأين كبيرين حويا أكثر من 1600 صفحة، وكان عنوان الكتاب" الصراع بين الإسلام والوثنية" يقول عبدالله عبدالجبار في كتابه" التيارات الأدبية" أن أحد علماء نجد قال: أن القصيمي دفع مهر الجنة ولن يضيره ما يعمل بعد ذلك، ولا نجد رأساً يطاول رأسه إلا رأس ابن تيمية!.
هذه هي الاغلال
بعد ذلك انتقل القصيمي بفكره من المدافع المنافح عن الوهابية إلى طور التحرر والشك في الموروثات، وهذه المرحلة يصفها الذين تناولوا القصيمي بالدراسة والتحليل بالطور الثاني للقصيمي أو الطريق إلى الانشقاق، إذ بدا مرحلته هذه بكتابه الشهير" هذه هي الأغلال" الذي صدر عام 1946، وأهداه للملك عبدالعزيز، وهو يتحدث فيه عن القيود والعوائق التي تقف ضد تقدم العالم الإسلامي، حسب رأيه، وهذا الكتاب على ما حواه من آراء وأفكار، جعلت القصيمي يُصنف على انه متمرد على السلفية، التي كان مدافعاً عنها محباً لها، وفي الوقت الذي وجد فيه هذا الكتاب رواجاً كبيراً داخل أوساط التنويريين والمثقفين وتناوله العديد مهم بالدراسة والتقريظ، إذ كتب عنه شيخ الأزهر الشيخ حسن القياتي مقالة في المقتطف، قال فيها( شكل ابن خلدون رائد الاشتراكيين طليعة معسكر الإصلاح في الشرق، وشكل الافغاني وتلميذه محمد عبدة والكواكبي جوانبه، أما القصيمي فهو قلبه! ) كما رأى القياتي أن هذا الكتاب يصلح لأن يكون برنامجاً للتعليم الوطني وخطة ناجحة للإصلاح، كما كتب عنه الأستاذ عباس محمود العقاد في الصفحة الأولى من مجلة الرسالة، وغيرهم كثير، إلا أن هذا الكتاب تعرض للنقد الشديد من قبل علماء نجد، إذ أصدر علامة القصيم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي كتاباً اسماه" تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في اغلاله" ثم أصدر عبدالله بن يابس وهو صديق للقصيمي وصحبه في سفره إلى القاهرة، كتاباً سماه " الرد القويم على ملحد القصيم" وتوالت المقالات والكتب التي تناولت الكتاب، والتي أفردت "إيلاف" قائمة بالتعريف بها وبمكان نشرها وتاريخ النشر، ونتيجة للصدمة التي أحدثها الكتاب داخل الجزيرة العربية، يذكر عبدالله عبدالجبار في كتابه" التيارات الأدبية" أن أحد الوجهاء في السعودية قال بغضب: لن يغفر الله للقصيمي، أما تلامذته فقد يتوب عليهم لأنه مغرر بهم!! .

حلوان.. ثم السجن والنفي
في عام1950 انتقل القصيمي من القاهرة إلى مدينة حلوان، جنوب القاهرة، ورداً على سؤال وجهته " إيلاف" للمحامي إبراهيم عبدالرحمن عن سبب انتقاله إلى حلوان، وهل كان انتقاله من القاهرة إلى حلوان خشيةً على نفسه من أية محاولة لقتله! سيما وقد تعرض لمحاولة اغتيال، قال المحامي : هذا غير صحيح، فالقصيمي لا يخاف من أحد، فقد كان انتقاله بحكم أن حلوان ضاحية هادئة وتعتبر من المصحات، وأسعارها معقولة جداً، لا سيما وأن القصيمي سكن في بداية أمره بأحياء الحسين المكتظ بالسكان، لذا فأنا اعتقد والكلام للمحامي أن القصيمي قرر الذهاب إلى حلوان بحثاً عن الهدوء والراحة والتفرغ للكتابة والتأليف، وهذا ماكان بالفعل، ويعزّز المحامي إبراهيم كلامه في أن القصيمي قد تعرض لثلاث محاولات اغتيال، وعلى علمه بهن فلم يتوقف ولم يعتزل الناس، وحينما طلبت منه "إيلاف" هذه المواقف الثلاثة، قال: الأول في القاهرة والثاني في السعودية والأخير في لبنان، عن موقف القاهرة، قال المحامي إبراهيم( .. كان القصيمي يتردد على أحد المقاهي في حي السيدة زينب، ولاحظ أن أحد الشباب يتبعه دائماً ويراقب تحركاته، تعرف القصيمي عليه، ووجده شاباً سعودياً جاء من السعودية خصيصاً لقتله، بحجة أن العلماء أفتوا هناك بجواز قتله لأنه خرج عن الإسلام في كتابه الأغلال، وقال له الشاب: لا أصدق أن أحداً مثلك يقتل، بعد أن سمعت كلامك، ومع أن القصيمي علم بهدف هذا الشاب فلم يتوقف أبداً عن الذهاب إلى المقهى للمناقشة والمحاورة، سأل القصيمي الشاب بعد ذلك عن الذين بعثوه، بماذا وعدوه؟!! قال الشاب للقصيمي: وعدوني بالجنة!! قال القصيمي له: لماذا يؤثرونك على أنفسهم بالجنة، لو كانوا يعلمون أن قتلي طريقاً لهم إلى الجنة بالمفروض أن يسبقوك إلىّ!، بعد ذلك اختفى الشاب نهائياً.. ).
في حلوان كان سكن القصيمي بجوار بعثة الطلبة اليمنيين، فتعرف إليهم وكان يلتقي بهم في الحديقة اليابانية، وكان منهم اللواء عبدالله جزيلان، مفجر ثورة اليمن عام 1962م ونائب رئيس الجمهورية اليمنية سابقاً، والذي التقت به "إيلاف" وسجلت منه شهادته عن القصيمي، وكذلك الأستاذ حسن السحولي، سفير اليمن في مصر، والذي التقت به "إيلاف" وسجلت منه شهادته عن القصيمي، وغيرهم كثير من الذين أصبحوا من القيادات البارزة في اليمن، أثناء ذلك تلقى الإمام أحمد رسالةً تفيد بتأثر هؤلاء الطلبة بفكر القصيمي، لذلك ضغط الإمام أحمد، على صلاح سالم في طرد القصيمي من مصر، فاعتقل القصيمي وزج به في السجن، ثم نفي إلى لبنان.
القصيمي في لبنان:
يتحدث المحامي إبراهيم عبدالرحمن لـ"إيلاف" عن أول موقف حدث للقصيمي بعد نزوله مطار بيروت، يقول الأستاذ إبراهيم( ..تعرض الشيخ عبدالله لموقف ظل يرويه لسنوات طوال بكل مرارة وحسرة، وذلك أنه عندما نزل من الطائرة في مطار بيروت، كان لا يعلم في أي مكان هو!! فسأل وأشار عليه أحد العاملين أن يركب مع حافلة الشركة التي تنقل الركاب مجاناً إلى وسط المدينة، ولم يكن في جيبه قرشاً واحداً، فركب مع الحافلة التي دارت بكل الركاب وأنزلتهم، وبقي هو وحيداً، فسأله السائق: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: لا أعلم!! قال له السائق: هل تعرف أحداً؟ قال القصيمي: لا!! فسأله السائق: وما جنسيتك؟ فقال: سعودي، وكان السائق لطيفاً معه إلى أبعد الحدود، فاقترح عليه أن يأخذه إلى السفارة السعودية، فرحب القصيمي بالفكرة، سيما وقد تذكر أن أحد معارفه يعمل بالسفارة، فذهب به السائق، ولكم كانت الصدمة كبيرة عندما وجدا السفارة مغلقة، لأن مجيئه كان في يوم عطلة !! وبعد طرق خرج أحد المستخدمين، فسألوه عن ذلك الشخص، فقال: إنه يقضي عطلته في جبل لبنان! عندئذٍ تطوع السائق بإيصاله إلى محطة الركاب في وسط البلد، ليأخذ تاكسي ينقله إلى هناك، ويدفع صديقه أجرة التاكسي، وفعلاً ذهب معه إلى المحطة وأخذ تاكسي وذهب مع السائق إلى الجبل، ولكم كانت المفاجأة عندما قال موظفو الفندق: أن هذا الرجل خرج قبل قليل!! ولكنه سيعود في المساء، وقد تكفل الفندق بدفع أجرة التاكسي وأخذها من صديق القصيمي بعد عودته إلى الفندق، عاد هذا الرجل ووجد القصيمي ينتظره، فكان اللقاء!!.. ) .
على الرغم من هذا الموقف الحزين الذي تعرض له القصيمي في أول يوم من أيامه في بيروت، إلا أن أيامه بعد ذلك كانت رخاءً له من حيث النشر والحضور الفاعل في الأوساط الثقافية في بيروت، إذ عرفه هذا الرجل( علمت إيلاف أن اسمه صالح الحميدي ) على الناشر اللبناني قدري قلعجي، الذي أفرد له الصفحات في مجلته " الحرية" كمت تعرف إلى الأستاذ سهيل إدريس صاحب مجلة " الآداب" والتي اشرعت أبوابها للقصيمي ليكتب، كما تعرف إلى العديد من الشخصيات الأدبية والفكرية والقيادات السياسية في بيروت، ذكر أصدقائه ومعارفه الذين التقت بهم" إيلاف" أن عدد أصدقائه في بيروت لا يحصر، وذكروا منهم: الأستاذ أنسي الحاج و السياسي منح الصلح ، والناشر رياض الريس، والكاتب طلال سلمان ، والكاتب محمد بعلبك والكاتب جورج جرداق والكاتب زهير مارديني والسياسي كمال جنبلاط وغيرهم العشرات.

يذكر المحامي إبراهيم عبدالرحمن أن القصيمي تعرض لمحاولة اغتيال في بيروت، يرويها لـ" إيلاف" قائلاً ( .. فوجئ القصيمي بصديقه الرئيس محسن العيني، رئيس وزراء اليمن السابق، يطرق عليه الباب في المساء، وقال له: لقد جئتُ لك من دمشق خصيصاً، وقد علمنا في دمشق أن هناك محاولة لاغتيالك، من قبل بعض الجماعات المتشددة!! وقد جئتُ أبلغك رسمياً واطلب منك أن تأتي معي إلى دمشق، وسوريا مستعدة لحمايتك وتكريمك!! فرفض القصيمي ذلك، ويصيف المحامي قائلاً
الاستاذ حسن السحولي
( .. فوجئ القصيمي في الصباح وإذا بأحد ضباط الأمن يهاتفه ويطلب منه أن يلتقي به، فرحب به القصيمي، وقال الضابط: أن المخابرات اللبنانية اكتشفت مؤامرة لقتلك، وأنها لاتستطيع حمايتك، كما أن لبنان غير قادرة على أن تتحمل قضية اغتيالك! وعليك أن تغادر لبنان، فذهب القصيمي إلى كمال جنبلاط، وهو صديق له وداعمه، وقال له كمال: لا بد أن تغادر لبنان، إننا لن نستطيع أن نمنع ذلك عنك، فقال القصيمي لكمال جنبلاط مقولته الشهيرة( إنني أجبن عن أن أكون جباناً، أنا لا استطيع أن أهرب، بل سأبقى وأواجه مصيري وعلى مسئوليتي) إلا ان أجهزة الأمن ضممت على مغادرته لبنان، حماية لسمعة لبنان، من أن يغتال فيها!! ) .
&بعد ذلك سمحت الحكومة المصرية بعودته إلى القاهرة، فعاد واستقر فيها، واخذ يتنقل بين القاهرة وبيروت، وبذلك يكون القصيمي قد دخل عهداً جديداً سماه فازلا بـ( العودة إلى الحياة العامة) وتوالت إصدارات القصيمي بعد ذلك، بدءً من كتابه" العالم ليس عقلاً" والتي كان يطبعها في بيروت، وأصبح للقصيمي حضوره الوهاج في الأوساط اللبنانية، بعد توالي إصداراته، وعندما ساءت الأحوال في لبنان، وبعد تعرض قدري قلعجي، كما يقول المحامي إبراهيم عبدالرحمن إلى ضغوط رهيبة وهدد بحرق مكتبته، وجد القصيمي صعوبة في متابعة إصداراته من لبنان، فاتجه إلى باريس، فكان أول كتاب يصدره من باريس هو كتاب" العرب ظاهرة صوتية" وبقي بعد ذلك في منزله في روضة المنيل بشارع عبدالعزيز آل سعود، يستقبل زواره وضيوفه، في ندوته الأسبوعية .
&
غدا الحلقة الثالثة
&
الحلقة الأولى:

&