ظلت كل الخيوط داخل جماعة الجهاد منذ أسسها الدكتور أيمن الظواهري تنتهي عنده هو من دون أي أحد آخر. فكل خيط تنظيمي انيط نسجه لأحد قادة الجماعة كان يختفي دائماً عند نقطة معينة حتي بالنسبة الي من نسجه، فهو لن يعرف أبداً سوي أن نهاية الخيط ستكون في حوزة الدكتور عبدالمعز، وهو الاسم الذي كان قادة التنظيم ينادون به الظواهري. وتكونت جماعة الجهاد من لجان عدة تضم في عضويتها القادة البارزين للجماعة ويتولي المسؤولية عن كل لجنة واحد من أقرب المقربين للظواهري، ويدل اسم كل لجنة علي طبيعة عملها، فـ اللجنة المالية هي التي تتولي تدبير موارد التنظيم وفتح قنوات جديدة لتدفق الأموال لتصب في النهاية لصالح خدمة أهداف الجماعة، كما تتولي أيضاً مسألة الإنفاق وتحديد السبل التي تتجه إليها الأموال. و لجنة التنظيم المدني تتولي العمل التنظيمي داخل الجماعة بدءاً من تجنيد الأعضاء ورعايتهم وتصنيفهم وانتهاء بتحديد طرق الاتصال بهم.
أما لجنة العمل العسكري فمهمتها تجنيد عناصر من الجيش وربطهم بقادة التنظيم، و اللجنة الشرعية تتولي إعداد الأبحاث والدراسات وإصدار الفتاوي والأحكام الشرعية. وينشط عمل تلك اللجنة عادة كلما زاد النشاط العسكري للتنظيم، إذ يتعين عليها في ظل تلك الظروف إعلان الأسس الشرعية التي استندت إليها كل عملية والرد علي انتقادات وسائل الإعلام والقوي السياسية المناهضة.
وبالطبع فإن الإمعان في السرية داخل تنظيم مثل جماعة الجهاد يكون أمراً مفهوماً نظراً الي طبيعة عمل التنظيمات الإسلامية التي تسعي إلي تحقيق أهداف تصطدم بسطوة الأنظمة والحكومات، كما أن احتمال وقوع واحد أو أكثر من أعضاء وقادة التنظيم في قبضة السلطات يظل أمراً وارداً، وبالتالي فإن تعرضه للتعذيب لانتزاع ما لديه من معلومات سواء تلك التي تتعلق بنشاط التنظيم أو خططه أو هيكله القيادي يظل وارداً أيضاً، وبالتالي فإن كل عضو يجب ألا يعلم عن نشاط الجماعة إلا ما يتعلق بموقعه التنظيمي. وحين يؤدي العضو الجديد قَسم الولاء والطاعة لأمير الجماعة فإنه يعي جيداً تلك الأمور، ونادراً ما يسأل العضو أو حتي القيادي عن شيء لا علاقة له به. أما بعض الفضوليين الذين يغلب طابعهم عليهم فإنهم يظلون دائماً تحت المجهر من جانب قادة الجماعة خشية أن تصل إليهم معلومات تضر بالجماعة، وكثيراً ما استبعد عن عضوية الجماعة أشخاص من ذوي الكفاءات العالية والمهارات الخاصة لأن نهمهم إلي معرفة بواطن الأمور والشكوك التي تثار حولهم تحول دون قبولهم كأعضاء في الجماعة، وبالتالي تطاح آمالهم في الانضمام إلي التنظيم.
وعلي ذلك يمكن تفسير استمرار عمل الجماعة وربما اتساع رقعة نشاطها علي رغم تعرضها لضربات أمنية موجعة خلال السنوات الماضية، بدءاً بسقوط العشرات من الأعضاء في قضايا طلائع الفتح، مروراً بالقبض علي خلية البانيا وانتهاء بسقوط أحمد سلامة مبروك والقبض عليه في أذربيجان وترحيله إلي مصر. فالجماعة قادرة دائماً علي أن تفرز قيادات بديلة، أما المعلومات التي أدلي بها من تم تسليمهم فإنها لا تؤثر كثيراً بالسلب علي نشاط الجماعة أو علي أمن عناصرها. فالظواهري ومساعدوه كانوا يسارعون بمجرد سقوط أحد العناصر الي تعديل الخطط وتغيير الأساليب قبل أن تتمكن أجهزة الأمن من القبض علي آخرين.
والحقيقة أن الظواهري، مثل غيره من البشر، كان يقع في أخطاء ربما كان السبب الرئيسي وراءها الظروف غير الطبيعية التي كان يعيش فيها منذ خروجه من مصر. فالمطاردات والملاحقات الأمنية والانتقال من مكان إلي آخر ومحاولة اختراق الحدود والحواجز والدخول في صدامات مع آخرين والعيش في بيئة غير طبيعية، كلها أمور تجعل وقوعه في خطأ وراء آخر أمراً طبيعياً، غير أن اعتداد الظواهري بنفسه رغم تواضعه وتمسكه برأيه ورغم ثقة إخوانه به وجنوحه الي الصدام مع من لا يتفقون معه في الرأي رغم تسامحه، كلها أيضاً عوامل أفضت إلي وقوع تجاوزات خطيرة داخل التنظيم.
ولأن الظواهري نكأ في كتابه فرسان تحت راية النبي كثيراً من الجراح وفتح ملفات ظلت مغلقة وتطرق إلي قضايا ظلت عالقة وغاص في ملفات شائكة من دون أن يتناول جراحاً وملفات وقضايا أخري، فإن كتابه لم يُظهر الصورة كاملة بل بدت مشوهة غير واضحة المعالم. وقد اعتدنا في الحركة الإسلامية دائماً الفصل بين خلافاتنا الشخصية أو التنظيمية وبين الكشف عن وقائع أو معلومات قد تضرّ بآخرين أو توقعهم في الحرج أو تسبب ضرراًَ لصورة الإسلاميين أو تضعف موقفهم أمام أي قوي أخري، فأبناء الحركة الإسلامية كانوا دائماً حريصين علي مستقبل الحركة التي تتعرض دائماً لمخاطر جمة، ولكن ما دام الظواهري آثر أن يفتح الملف فإنني سأكتفي هنا بالحديث عن ثلاث وقائع ظلت المعلومات عنها غير واضحة، وتتعلق اثنتان منها بعمل اللجنة الأمنية لـ جماعة الجهاد، أما الثالثة فإنها تتعلق بالظواهري نفسه.
إعدام صبي
ظل الإسلاميون وأنا معهم، يشكون إلي الله أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم المدنية والعسكرية ضد إخواننا، وكنا ولا نزال نحرض المنظمات الحقوقية علي الضغط علي الحكومة المصرية لوقف نزيف دماء الإسلاميين. وكم تداول القضاء من دعاوي اقمناها لمحاولة ضمان محاكمة عادلة لأبناء الحركات الإسلامية. وكثيراً ما هاجم الظواهري، سواء في مقالاته أو من خلال كتبه أو في بيانات الجماعة ونشراتها، المحاكم العسكرية والمدنية التي قضت بإعدام عناصره. ومع ذلك فإن الظواهري أقدم تحت وطأة القسوة التي غلفت تصرفاته وسياساته، علي قتل صبي هو ابن أحد المقربين إليه من قادة الجماعة أمام عيني والده لأن الصبي دانته محكمة شرعية شكلها الظواهري بالإضرار بالجماعة والتجسس عليها ونقل أخبارها إلي السلطات المصرية. وأذكر أنني حين علمت بما جري لم أصدق واتهمت من أبلغني بالأمر أولاً بأنه يضمر حقداً للظواهري ويسعي إلي تشويه صورته والإساءة إلي تاريخه والاقلال من مكانته، لكن للأسف تبين لي أن القصة حقيقية وأن الصبي قتل بالفعل أو أعدم أمام حشد من قادة الجماعة وعناصرها ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه تكرار ما ارتكبه من جريمة رأي الظواهري أنها لا تغتفر.
تكفلت اللجنة الأمنية في جماعة الجهاد بالقضية فهي التي تتولي تأمين الجماعة وعناصرها وكشف كل ما يمكن أن يسبب الضرر لهم. وكانت اللجنة لاحظت أثناء إقامة الظواهري مع بن لادن وعشرات وربما مئات من قادة وعناصر التنظيم في السودان ان أخباراً ومعلومات تسربت إلي أجهزة الأمن المصرية عن نشاط التنظيم والأماكن التي يتردد اليها الظواهري ورجاله، ولاحظ أعضاء في اللجنة فجأة أن المنزل الذي كان يقيم فيه الظواهري في العاصمة الخرطوم تم رصده بواسطة رجال أمن مصريين، واجهضت الجماعة محاولة لاغتيال الظواهري بواسطة عبوة ناسفة وضعت في مدخل مستشفي كان يتردد عليه بانتظام بحكم مهنته الأساسية وهي الطب. وبعد تحريات ومراقبات وتحقيقات خلصت اللجنة إلي أن أجهزة الأمن المصرية تمكنت من اختراق الهيكل التنظيمي للجماعة إلي درجة الاطلاع علي ما يدور في اجتماعات المستويات العليا في السلم التنظيمي، وأنها تمكنت من تجنيد نجل القيادي البارز في الجماعة محمد شرف بعدما تمكنت من الضغط عليه بواسطة صور فوتوغرافية التقطت له في أوضاع مخلة بالآداب.
كان ذلك في غضون العام 4991، أي بعدما ترك الظواهري أفغانستان واتجه للإقامة في السودان، ولم يكن الصبي يبلغ من العمر سوي 51 سنة، وتبين أن الاستخبارات السودانية لعبت دوراً في القصة فالخيط الأول للإيقاع بالصبي الصغير جاء من عندها، اذ كانت الحكومة السودانية تعلم في تلك الفترة بنشاط الاستخبارات المصرية علي أراضيها ولم تكن لتكشف ذلك النشاط علي الملأ نظراً الي حساسية العلاقة بين البلدين، وابلغ مسؤول في الحكومة السودانية الظواهري بالأمر فأحال القضية علي اللجنة الأمنية التي أكملت الملف حتي نهايته.
ورغم أن بعض المقربين من الظواهري أكدوا أنه كان متأثراً جداً بالموضوع، وأنه تحدث طويلاً مع والد الصبي ليخفف عنه آلام الصدمة، فإن آخرين أكدوا أيضاً أن الحادثة كانت سبباً في انفصال شرف عن التنظيم وابتعاده نهائياً عن العمل ضمن جماعة الجهاد. وما أقسي ما مر به الرجل، فوضعه التنظيمي كان يستوجب حضوره عملية إعدام ابنه رمياً بالرصاص أمام عينيه، بل إن الظواهري طلب منه ما هو أصعب من ذلك إذ عهد إليه مهمة معالجة تداعيات الأمر مع السلطات السودانية بعدما عبر مسؤولون سودانيون عن غضبهم الشديد من جراء إقدام الظواهري علي تشكيل محكمته الشرعية وتنفيذ قانونه الخاص علي الأراضي السودانية. كما أن السودانيين خشوا أيضاً من إقدام الحكومة المصرية علي تنفيذ عمل انتقامي بعد إعدام عميلها الصغير.
عكست الحادثة إلي أي مدي تمكنت الحياة القاسية التي عاشها الظواهري في شخصيته وإلي أي مدي كان تحول التنظيم لدي الرجل إلي هدف وليس وسيلة لتحقيق الهدف الذي أنشئ من أجله، وأن الرغبة في تحقيق الانضباط التنظيمي لدي الظواهري واعتقاده بأن إعدام الصبي كفيل بعدم تكرار الأمر فاق أي عوامل إنسانية أخري أو حتي حرصه علي بقاء شرف ضمن الهيكل التنظيمي للجماعة.
استدراج أبو خديجة وقتله
عرضنا سابقاً لواقعة إفشاء الظواهري تحت وطأة التعذيب الذي تعرض له بعد القبض عليه إثر حادثة المنصة عن مكان الشهيد عصام القمري، ما مكن السلطات المصرية من القبض عليه. وأشرنا إلي أن ذلك الأمر ظل يمثل عبئاً ثقيلاً علي نفس الظواهري الذي كانت العلاقة بينه وبين القمري تفوق العلاقة بينه بين أيٍ من رموز الحركة الإسلامية في مصر لسنوات طويلة. ولم نفكر جميعاً، بمن فينا القمري نفسه، يوماً في توجيه لوم إلي الظواهري لأننا كنا نعلم أنه أقرّ بمكان القمري نتيجة التعذيب الرهيب الذي تعرض له بل إننا كنا نتجاهل عمداً أثناء أحاديثنا عن قضية السادات وحادثة المنصة الإشارة إلي الظروف التي أفضت إلي القبض علي القمري مراعاة لمشاعر الظواهري وأحاسيسه. وأشعر بأسف شديد حين أتذكر تصرف الظواهري بصورة مغايرة تماماً تجاه واحد من أبرز ابناء الحركة الجهادية لم يتأكد أنه - تحت وطأة التعذيب أيضاً - أقر بمكان زميل له فمكن أجهزة الأمن المصرية من القبض عليه. كان محمد عبدالعليم رحمه الله، وهو عرف في أوساط الإسلاميين المصريين باسم أبو خديجة، واحداً من أكثر أعضاء جماعة الجهاد وفاءً للتنظيم وأكثرهم خدمة لأهدافه، وظل طوال عقد الثمانينات يحظي بمكانة خاصة بيننا لدماثة خلقه وتفضيله إخوانه دائماً حتي علي نفسه، وارتباطه بالحركة الإسلامية الجهادية في سن مبكرة. وقبل أن يلحق بعضوية جماعة الجهاد ويعمل مع الظواهري في أفغانستان، كان ارتبط في مصر بأبو عبيدة البنشيري (علي الرشيدي)، وزادت الصلة بينهما علماً بأن الرشيدي لم يكن وقتها يفضل أن يعمل ضمن إطار تنظيم بعينه ويسعي إلي خدمة الحركة الإسلامية عموماً، ولذلك انضم مباشرة بعدما سافر إلي أفغانستان إلي اسامة بن لادن وعمل ضمن تنظيم القاعدة، حتي صار القائد العسكري للتنظيم قبل أن يستشهد غرقاً في بحيرة فيكتوريا. كان ارتباط أبو خديجة بالرشيدي شديداً، وهو سافر قبله إلي أفغانستان، بل أن الرشيدي هو الذي دبر له ترتيبات السفر، وفي افغانستان التحق أبو خديجة بـ جماعة الجهاد وعمل مباشرة مع الظواهري. وفي الوقت نفسه التحق بالعمل في دار للايتام في مدينة بيشاور الباكستانية، وعلي رغم أنه لم يكن تجاوز الخامسة والعشرين وقتها إلا أنه كان دائب الحركة كثير النشاط فاضطلع بأدوار لم يكن لغيره أن يؤديها. كان ابو خديجة قد تزوج قبل أن يغادر مصر لكنه ترك زوجته وأولاده في مصر وظل اثناء الفترة التي قضاها في أفغانستان قلقاً تواقاً الي رؤية ابنائه وزوجته وفاتح الظواهري برغبته في السفر إلي مصر لرؤيتهم ومحاولة إخراجهم والعودة معهم مجدداً إلي أفغانستان. من جهته حاول الظواهري إثناءه عن تلك الفكرة وأبدي له خشيته من وقوعه في قبضة السلطات المصرية وأصر أبو خديجة ولم يكن ليؤثر فيه رأي الظواهري. المهم في الأمر أن اللجنة الأمنية لجماعة الجهاد وضعت خطة لإعادة أبو خديجة إلي مصر بجواز سفر مزور مروراً بدول عدة لتضليل أجهزة الأمن المصرية، ولكن المفاجأة حدثت ووجد أبو خديجة رجال الأمن المصريين في انتظاره واقتادوه إلي حيث خضع لتعذيب شديد اضطر علي اثره الي الإدلاء بمعلومات عن نشاط جماعة الجهاد ودلّ رجال الأمن المصريين عن مكان القيادي البارز عصام عبدالمجيد الذي كان تسلل إلي داخل الأراضي المصرية من دون أن تدري السلطات بأنه قيادي في التنظيم وأنه عاد لتنفيذ خطط بعينها، ومن دون قصده وتحت وطأة التعذيب تسبب أبو خديجة في الإيقاع بعبدالمجيد الذي لا يزال رهن الاعتقال منذ ذلك الوقت حتي الآن. لم تنته القضية بعد، فما وقع بعدها كان الأفدح، اذ كانت طبيعة المرحلة التي تمر بها جماعة الجهاد وهي بصدد استغلال الأراضي الأفغانية لإكمال هياكلها التنظيمية وتعطش الظواهري وأعضاء اللجنة الأمنية لممارسة أساليب التحقيق وسعيهم الي ردع من تسول له نفسه اختراقهم جعلتهم يتصرفون بطريقة قاسية في واحدة من حالات الاشتباه. إذ لم تكشف أي وثيقة ولم تؤكد معلومات موثقة أن أبو خديجة كان السبب في القبض علي عبدالمجيد. وظل احتمال وقوع الأخير في قبضة السلطات المصرية بالصدفة أو نتيجة لتحريات أمنية أمراً وارداً.
وبعد فترة من الاعتقال اطلقت السلطات المصرية محمد عبدالعليم وبعد جهد وإجراءات قضائية طويلة استرد جواز سفره وكان كعادته متسرعاً يرغب في السفر حيث كانت اسرته سبقته إلي السعودية. وكان عبدالعليم انتقل للإقامة بعد خروجه من المعتقل في حي بولاق الدكرور حيث كنت أقطن وقتئذ، والتقيت به كثيراً وقص عليّ القصص بما دار وكيف يجافيه الإخوة منذ خروجه من المعتقل وابدي خشيته من أن يكون ذلك بإيعاز من الظواهري، والحق أنه كان رحمه الله عنيداً وثرثاراً، وأخلصت له النصح بعدم السفر وأن يقوم باستدعاء زوجته واطفاله للعيش في مصر فترة حتي تهدأ النفوس وحتي يتأكد من أن الظواهري لا يحمل له أي ضغينة. ولكنه رحمه الله اصر علي ما نوي عليه، فعاد إلي عائلته في السعودية وهناك قدّر الله له أن يلتقي الظواهري في الحرم الشريف واستسمحه وذكر له أنه كان تحت وطأة التعذيب ولم يقصد الاعتراف علي الأخ عصام عبدالمجيد، لكن الظواهري عامله بجفاء شديد. وأصرّ عبدالعليم علي السفر إلي أفغانستان وذهب إلي هناك ليعمل في دار الأيتام ذاتها، وبعد اسابيع سافر إلي إسلام أباد ونزل في مضافة الأنصار هناك وهو في طريقه للمغادرة عائداً إلي جدة لاصطحاب اسرته، لكنه اختفي في باكستان وروجت جماعة الجهاد معلومات تفيد بأنه توفي متأثراً بجروحه نتيجة حادث سيارة كان يستقلها في تنقله بين إسلام أباد وبيشاور. لكن كثيرين شككوا في هذه الرواية وأكدوا أن هذا الحادث لم يقع أصلاً، وأكد البعض أن مسؤولي اللجنة الأمنية في جماعة الجهاد استدرجوه وأخذوه من المضافة ربما لمقابلة شخص ما حيث اختفي بعد ذلك. ولم يخف بعض الإخوة أسفهم لأن الجماعة اقدمت علي تصفية عبدالعليم وقتله، وبقي الجدل مستمراً في شأن تلك الواقعة حتي الآن. وأذكر أن أخاً قيادياً بارزاً اتصل بي هاتفياً من خارج مصر وسألني سؤالاً مباشراً هل سافر عبدالعليم برعايتك من مصر وبوساطتك؟ فأجبته بالنفي. وشعرت بأن السائل كان يريد التيقن من أنني لم يكن لي دور في تصفية عبدالعليم الذي ترك اختفاؤه علامات استفهام لا تزال ماثلة حتي الآن.
لعبة الاستقالة
أما الواقعة الثالثة فتتعلق باستقالة الدكتور أيمن الظواهري من إمارة الجماعة بعدما أبدي عدد من قادة التنظيم اعتراضات علي التحالف الذي أبرمه في شباط (فبراير) 8991 مع اسامة بن لادن، تحت لافتة الجبهة الإسلامية لجهاد اليهود والصليبيين، ولم تعرف الجماعات الإسلامية بمختلف مسمياتها وطوال تاريخها ذلك النوع من الضغوط التي يمارسها الأمير علي إخوانه ليقبلوا بما قرره هو بغض النظر عن مواقفهم وآرائهم. وحكي لي بعض الإخوة أن الظواهري إنساق وراء بن لادن في أمر تلك الجبهة بغض النظر عن الاعتراضات التي ابداها معاونوه والتي تركزت في أن فتح النار علي اميركا والدخول في مواجهة معها سيضرّان بالتنظيم وسيضربان القواعد التي كانت الجماعة أسستها في أكثر من دولة كما سيتـسببان أساساً في الحد من نشاط الجماعة داخل مصر. وأكد المعترضون أن رغبة اسـامة بن لادن في تصــفية حســاباته مع الاميركيين يجب ألا تنسحب علي باقي الجماعات الإسلامية، وأن واجب النصـرة لا يمكن أن يصل إلي حد إطاحة مستقبل التنظيم وتهديد أفراده. وقالوا لي إن الظواهري كان مصمماً علي المضي في ذلك الطريق وأنه طرح لهم مبررات لم تقنعهم، بينها أن الاميركيين يخشون عادة الدخـول في مواجــهة مع أي جهة يمكن أن تسبب لهم الأذي حتي لو كان بسيطاً وأن الأمة الإسلامية ستدعم الجبهة التي أسست أيضاَ لفضح النظم العربية، وطمأنهم الي أن الهدف الأساسي الذي قامت من أجله الجماعة، وهو إقامة الدولة الإسلامية، سيكون سهل التحقيق من خلال الجبهة لأن الشعوب ستقتنع بأن الأنظمة الحاكمة تخضع لأميركا في حين أن الإسلاميين لا يخشون أميركا ويردون لها الصاع صاعين.
المهم في الأمر أن عدداً من قادة الجماعة جمدوا نشاطهم ولم تكن مسألة الاستقالة من جانب الظواهري سوي لعبة أجاد حبكها وعرف منذ البداية نتيجتها، كما أن الفشل المتتالي للعمليات داخل مصر والقبض علي غالبية عناصر الجماعة تسببا في توقف التمويل الذي كان يأتي من الأعضاء وصارت الجماعة تعتمد فقط - تقريباً - علي ما يقدمه لها بن لادن من أموال، وبالتالي فإن توقف ذلك المدد سيعني فقدان الجماعة المصدر الوحيد الباقي للاستمرار والبقاء. ووجد أعضاء التنظيم أنفسهم أمام خيار واحد وهو إعلانهم رفض استقالة الظواهري بل التمسك به فكان ما كان.
عن "الحياة" اللندنية، و"القبس" الكويتية