&
مختصر القول ان ريمون إده ينتمي الى عالم القيم في السياسة، وهو ربما بين القلة النادرة التي أضفت على الحياة السياسية في لبنان ما يجعلها قابلة لأن تنتمي الى المثال الديموقراطي. هذا المقال يلقي الضوء على كتاب "ريمون إده جمهورية الضمير" للزميل نقولا ناصيف، والصادر لدى "دار النهار للنشر"، حيث نعثر على المعنى الفعلي للسياسة ورجالها.
في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان "ريمون إده جمهورية الضمير" والصادر لدى "دار النهار للنشر" يبيّن الكاتب والزميل نقولا ناصيف ان العميد إده تحدث في السنوات الاخيرة من حياته، من باب مقارنة حقبة ورجال بحقبة ورجال، عن الفوارق بين جيله السياسي والجيل السياسي اللبناني الاخير: "في تلك الايام كنت تتفق مع زعماء وتتخاصم مع زعماء، وكان هناك رجال اصحاب مواقف، القصة اليوم مختلفة تماماً. انهم يقفون في الصف كتلامذة المدارس، ولا احد يرفع اصبعه حتى يطرح سؤالاًَ. كانت هناك حكومات ومعارضات واحزاب ومجلس نواب". يعكس هذا الكلام الواقع السائد بحذافيره ومدلولاته، فالحركة السياسية التي ولدت في فترة الاستقلال وما بعده انتجت الكثير من الشخصيات والزعماء والرموز الذين كان لهم تأثيرهم العميق، وقد استطاعت الى حد ما ان تؤسس لواقع سياسي حضاري في الكيان اللبناني، قائم على خلق المعاني، واستطاعت ان تنتج ما يسمّيه إده "الحقبة الذهبية" من الديموقراطية. لكن الحرب اللبنانية ما كان لها سوى ان تنتج امراء الحرب ولورداتها، الحرصاء على اشعال فتيل لم يساهموا في اخمإده الا بعدما حطموا جوانب مهمة من رأس المعنى اللبناني، حين صار في مقدورهم وضع اليد على الجسم وتفكيك اوصال الدولة، على النحو الذي يكفل تكريس نفوذهم. فاذا كان ريمون إده غادر لبنان قسراً الى منفاه الفرنسي عام ،1976 فصديقه الزعيم الدرزي والوطني كمال جنبلاط اغتيل في 16 آذار 1977 باطلاق النار على سيارته، وهو في طريقه الى بيروت. لكن من يحاسب! في حين انتقل كل من رشيد كرامي وصائب سلام الى موقع التعاون مع الدور السوري في لبنان، قبل ان يجد الزعيم البيروتي نفسه امام خيار منفى مشابه لما قرره ريمون إده. حدث هذا بعد اطلاق قذيفة صاروخية على دارته في المصيطبة في 13 آذار ،1985 وسبقتها قذيفة اخترقت جدار البيت، نجا منها ابنه تمام بأعجوبة، وكانتا ايذانا له بحتمية الرحيل، فلم يعد الى لبنان الا عجوزاً في منتصف التسعينات، مبتعداً عن السياسة التي خانته في السنوات الاخيرة. اما رشيد كرامي، وهو صديق العميد أيضاً، فقد لقي مصيراً قاتلاً في الاول من حزيران ،1987 بتفجير عبوة ناسفة تحت مقعده في طوافة عسكرية فوق البحر. هذا الغيض من فيض اغتيالات الشخصيات البارزة في السياسة اللبنانية كان ايذانا بتفكيك اواصر هذه الدولة والسعي الدائم لتدجين الممانعة اللبنانية بكل السبل والوسائل السلمية والاحترابية، وتسليم قوى جديدة احترابية غارقة في بوتقة الاستتباع والخطابة الخشبية والفساد والهشاشة. ولم يكن لهذه& القوى ان تدير زمام بقايا الدولة اللبنانية لو لم تكن ملحقة بالسياسية الاقليمية التي حوّلت السياسة في لبنان حكماً ذاتياً فحسب.
من أين يأتي المعنى السياسي اللبناني الذي صنعه رجال الامس؟ يشكل ريمون إده رمزاً من رموز الحالة "اللبنانوية". ابن اميل إده، ابن ابرهيم إده الذي فرّ الى مصر لخلافه مع والي بيروت ولم يلبث ابنه اميل ان حذا حذوه فهرب مع معظم قيادات لبنان في ما بعد ومنهم بشارة الخوري وميشال شيحا. في الاسكندرية ولد العميد ريمون، وحين عاد والده الى الربوع اللبنانية، غداة توقف الحرب العالمية الاولى، وخسارة دول المحور، كان لبنان قد وقع تحت سيطرة الانتداب الفرنسي الذي حلّ محل السلطنة العثمانية. ومنذ ذلك الحين لمع اسم اميل إده كمحام ورجل سياسة، اذ اثبت حضوره وكان من أبرز المحامين الذين تصدوا في مناسبات عديدة للفرنسيين في اروقة المحاكم. عند بدء اشتغاله في السياسة، اسس مع بعض الشخصيات السياسية والمثقفة حزب الترقي الذي كان يطالب بابقاء الاستقلال السياسي للبنان الكبير مع الانتداب الفرنسي.
ومع توليه الرئاسة بدا لبنان يشكل وجه سياسته ويؤسس لمعناه، لكن صيف 1944 كان مخيّباً للزعيم الكتلوي، اذ فُصل من مجلس النواب بسبب قبوله التعاون مع سلطات الانتداب الفرنسي، وانتهت تلك الحقبة من حياته الى عزلة خانقة ساهم في تدبيرها الرئيس بشارة الخوري وعدد من السياسيين النافذين. وبعد ثلاث سنوات حاول إده استعادة زعامته لكنه مني بهزيمة قاسية حملته على الانضمام الى قوى المعارضة، ولم يفقده خروجه من السلطة بريق نفوده في الحكم وهذا من علامات سياسيي الامس. والحق انه مع انتقال إده الاب الى المعارضة، بدا انتصار الدستوريين في اوساط المسيحيين هشاً لاعتمإده في الدرجة الاولى على دعم رياض الصلح، ومن يمثل. هكذا لم يستطع بشارة الخوري الاستمرار في الحكم طويلاً بعد اغتيال رياض الصلح وبعد معركة التجديد... فاستقال.
&
جرح الأب
لكن اميل إده كان قد توفي قبل ذلك بوقت قصير، وكان نجله ريمون لا يزال طري العود ويعتمد على ارث والده وزعامته، وقد استمد منه مقدمات الزعامة الشعبية في حزب غلب عليه طابع استقطاب النخبة والمثقفين من حملة الشهادات. على ان العميد حرص دائماً على التحدث بمفاخرة واعجاب كبيرين عن ابيه، ومثل هذين المفاخرة والاعجاب لم يجعلاه يتردد في اضفاء اوصاف كثيرة على والده، هي في صلب نضاله. فقد ثابر على التأكيد امام المحازبين ان دفاعه عن حدود لبنان وكيانه ومياهه وسيادته وديموقراطيته واستقلاله هي "استكمال لرسالة اميل إده". وكان الاب (اميل) بالنسبة الى الابن (ريمون) احد صانعي حدود "لبنان الكبير" واول من دق ناقوس الخطر من الصهيونية عندما رفض التخلي عن القرى السبع لدى رسم الحدود اللبنانية - الفلسطينية. وهو بالنسبة اليه اول من ارسى قاعدة المشاركة في الحكم عندما رشح الشيخ محمد الجسر لانتخابات رئاسة الجمهورية عام ،1932 وعندما عيّن اول مسلم سني في رئاسة الحكومة عام ،1937 وعندما ضمّن المعاهدة اللبنانية - الفرنسية عام 1937 الملحقين 6 و6 مكرر تجسيداً لتلك المشاركة. هذا الجانب البارز في تماهيه بصورة الاب، قاد ريمون إده الى ما يتجاوز المفاخرة والاعجاب به الى حد التشدد حيال منتقديه. اعاد الابن الى الاب للمرة الاولى على مستوى التجربة الشخصية بناء علاقة العائلة "الاريستوقراطية" بالمنطقة الفقيرة عبر اتصال مباشر بالاهالي والعائلات.
غالباً ما احرجته الاحاديث عن مرحلة علاقة والده بالفرنسيين في 11 تشرين الثاني .1943 وغالباً ما تنبه اصدقاؤه القريبون فتجنبوا مفاتحته في مسألة تركت جرحاً عميقاً لديه بسبب موقف والده، وحفرت في داخله رغبة دينامية في الانتقام من بشارة الخوري الذي سعى الى التشهير بسمعته واهانته كرئيس سابق للجمهورية. لكن مع مرور الزمن، وفي سعيه الى تجاوز ما حدث في 11 تشرين الثاني، كان يجد المبررات التي يؤمن بدوافعها الوطنية لخوفه من فقدان الاستقلال الذي وعد به اللبنانيون. لذا قال مرة عن خطأ ابيه انه "فعل ذلك من اجل انقاذ لبنان، ومن اجل بقاء الحكم الوطني في أيدي اللبنانيين". شكل هذا المبرر دفاعاً تسلح به الكتلويون المؤسسون وجعله ريمون إده، بعد تسلمه عمادة الحزب، حافزاً لتزعم حملة الثأر من بشارة الخوري وعهده.
لكن الواقع الآخر الملازم لهذا التبرير، ان الحملة على اميل إده ومن بعده على ابنيه ريمون وبيار عبر الاجيال الدستورية والشهابية المتعاقبة في النصف الثاني من الاربعينات وعلى امتداد عقد الستينات، باتت ازمة شخصية وجدانية لدى الابن البكر. وغداة اندلاع الحرب اللبنانية المتعاقبة، وجد ريمون إده نفسه في وضع مماثل للتخوين الذي قوبل به والده. والسبب خروجه على الواقع السياسي المرير الذي فرضته قوى الامر الواقع على المسيحيين.
&
رفض تسييس العسكر
الثأر "الرمزي" الذي خاضه ريمون إده ضد بشارة الخوري كان يصب في دائرة العمل الديموقراطي. هذا النمط من المعارك الديموقراطية لم يعد حاضراً في الزمن الراهن، بل بات نوستالجيا لأهل السياسة، ونشيدهم غير المرغوب فيه. فـ"الثورة البيضاء" التي شارك فيها ريمون إده الى جانب كمال جنبلاط وكميل شمعون وآخرين" ارغمت "رأس الاستقلال" بشارة الخوري على ترك السلطة والخروج من قصر القنطاري، فطويت معه حقبة الكتلة الدستورية في الحكم، لكنها لم تطو الزعامة السياسية، فرجال هذه الكتلة التقطوا، بعد ولاية رئاسية كاملة في عهد كميل شمعون، فرصة العودة الى صدارة الحياة السياسية عبر ظاهرة الشهابية، وهي الوارث الشرعي للمدرسة الدستورية المتهاوية امام هجوم "الثورة البيضاء"، ولم يتردد ريمون إده في بناء خصومة سياسية وشخصية مع الشهابية، لن تقلل من وقع استمرار عدائه الشخصي والسياسي للكتلة الدستورية. فهو كان السباق الى معارضة الشهابية داخل مجلس النواب وخارجه، والى محاولة اضفاء وجه بشع عليها من خلال انتقاداته الشهيرة لضباط "المكتب الثاني" (او الاجهزة بحسب التسمية الدارجة)، وتجاوزاتهم في السلطة، فاطلق حملاته عليها في اوساط الرأي العام والاعلام، وساهمت صدقيته في فتح سجال سياسي طويل انقسم اللبنانيون من حوله. وهو غالباً ما كان شديد الحرص على التمييز بين فؤاد شهاب والشهابية، بين الرئيس الذي لا يكتم تقديره له، وضباط "المكتب الثاني" الذين يصفهم بـ"المجرمين"، فالشهابية لريمون إده ليست سوى "السيطرة العسكرية على المدنيين وشرشحة النظام البرلماني". وفي كل مرة هاجم إده فؤاد شهاب كان "المكتب الثاني" يشن حملة ضده ويدس اخباراً بعضها صحيح انما محوّر، والبعض الآخر كاذب وملفق، ويراقب في الوقت نفسه خطوط هاتفه، مضيّقاً عليه في المجالات الحياتية والسياسية.
موقفه المعارض لتدخل الجيش في الحياة السياسية كان يوازيه موقف مبدئي مماثل، هو رفضه حل المشكلات السياسية او ازمة الحكم بعمل عسكري ينفذه ضباط، ويقودهم الى السلطة. وهو السبب الذي جعله يرفض عام 1958 وصول فؤاد شهاب الى السلطة. والسبب نفسه أيضاً جعله ينتقد عام 1998 وصول اميل لحود، قائد الجيش، بالطريقة نفسها. وهذا ما حدا بالكثير من السياسيين الى التحذير من النتائج التي تسببها تدخلات الاجهزة في العمل السياسي. هم حذوا حذو ريمون إده الذي درج على خط مستقيم في موقفه من الجيش يتمثل في مطالبته بتحديد دور المؤسسة العسكرية في النظام السياسي، ذهاباً الى التأكيد ان الجيش يأتمر بأوامر السلطة السياسة، وفي الوقت نفسه يتعين عليها عدم الاستعانة به لأغراض بعيدة عن مهمته، فعلى الجيش ان يحمي النظام والشعب معاً، لا احدهما. وعندما يقرر المفاضلة يقتضي اختيار الشعب.
وبقدر ما رفض ريمون إده تدخل الجيش في السياسة، اقترن اسمه بالدعوة الى الصرامة في تطبيق القوانين، وحمل راية الديموقراطية وخاض "الحروب البيضاء"، التي لم تسقط فيها قطرة دم. شارك في حملة اسقاط بشارة الخوري عام 1952 بـ"ثورة بيضاء"، والتزم سلاح الموقف في مواجهة عهد كميل شمعون الذي انتهى عام 1958 بحواث اهلية تخللتها اغتيالات ومناوشات. كان أيضاً مقاوماً عنيداً للحرب عام ،1975 ممتنعاً عن الانخراط في الاقتتال، ولكن من غير ان يكون محايداً فيها بلا موقع ولا خصوم ولا اعداء ولا حلفاء. لم يتورط مع اي فريق في الحرب، لكنه مع ذلك ربح دائماً حروباً ديموقراطية ونجح في الثبات على مواقفه في خوض معاركه السياسية.
لكن الديموقراطية كان لها شكل آخر في تعاطيه في حزب الكتلة، فهذا الحزب بدا في ظل رئيسه المؤسس اميل إده ثم مع الابن اشبه بجهاز اداري للخط السياسي، تجسد قوته شعبية استقطبها اميل إده من الوسط النخبوي والشعبي. وهذا حمل وارثه وابنه البكر، بعد سنوات طويلة، على التمسك باعتقاد ذكره تكراراً، واسرّ به للمرة الاخيرة قبل وفاته بأشهر قليلة: "عندما ينظم الحزب تنظيماً صارماً يصبح اذ ذاك فاشياً". وحض على الدوام على تنوع الافكار والآراء ومن ذلك قوله ان حزب الكتلة الوطنية هو حزب النخبة وحزب الموقف السياسي، لا حزب التيار الشعبي الجارف، ولا حتماً الحزب المشدود الى بنية تنظيمية متشددة. في ابسط الاحوال انضم المؤيدون الى حزب الكتلة الوطنية لسبب بديهي، هو تعلقهم اما باميل إده واما بريمون إده. وهذا ما يبيّن ان الكثير من السياسات اللبنانية قائمة على الشخصنة وما تستمده الشخصية السياسية من "كاريزما" وما تقوله من مواقف تخص اللبنانيين والمؤيدين.
تمسك ريمون إده بالقانون واعتبره شرطاً ضرورياً للسلطة في حزب الكتلة الوطنية. وقد سرّه نجاحه في هذا الخيار بمقدار ما اشعره أحياناً بوطأة ثمن التزامه وتطبيقه بتصلب. كان يتشدد وهو يقود الحزب، في كل ما يتصل بتنفيذ قراراته والرضوخ لها وعدم الاخلال بتوجهاته وخياراته، رافضاً اي تساهل او مساومة في احترام قوانينه والانضباط عينه.& وبسبب ذلك اخرج اعضاء تاريخيين منه، طرداً او اعفاء، لتمردهم على هذه القواعد التي هي جزء من فكرة التمرد على صورة "العميد" او الاعتراض على سلطته. لكن هذا الزعيم "الحزبي" كان برلمانياً حتى العظم في مراقبة الحوادث وتتبعها وفي تحليل وقائعها والحكم عليها، وفي تحمّل المسؤوليات الناشئة عنها.
لكن الذي خاض "حروباً بيضاء"، لم تتركه "الحروب السوداء" سالماً، فهو تعرض لمحاولات اغتيال متكررة، وقد عزا هذا المحاولات الى انه وحزبه رفضا الحرب اللبنانية والدخول طرفاً فيها، وقاوما حمل السلاح والاقتتال الداخلي، ونبّها دائماً الى الخطر الذي يتهدد المسيحيين من جراء انسياقهم الى هذه الحرب، من غير ان يغفل دور حزب الكتائب في هذا التهديد. وهو السبب الذي اورده دائماً، واعاد تأكيده اثر محاولة اغتياله في 24 أيار .1976 كان يوازي في الوقت نفسه بين التنديد بدور حزب الكتائب في الحرب اللبنانية ورفضه دور سوريا فيها بسبب احلامها القديمة في السيطرة على الربوع اللبنانية، وخصوصاً بعدما انتهت وساطتها السياسية الى ادخال جيشها الى الاراضي اللبنانية. بذلك ساوى بين هذين الطرفين واتهمهما بمحاولة الغائه شخصياً.
محاولات الاغتيال المتكررة، حملته على مغادرة البلاد والاقامة في باريس، منفى اختيارياً كما يحلو له ان يقول. لم يذهب لاجئاً سياسياً اذ كان لديه هدف واحد هو تحرير لبنان، بعدما سكنه الاعتقاد بأن رجوعاً محتملاً الى بيروت في ظل فقدان سيادة الدولة اللبنانية، سيحرمه التحرك والمبادرة. فقد اشعره تكراراً اسره في مساحة 40 متراً داخل جناحه في الفندق، بالحاجة الى تذكره باستمرار الفسحة المطلقة عندما لا يكون مكبلاً بامتار قليلة.
من الفندق لم ينقطع عن الاتصال بحزب الكتلة الوطنية ولا عن ادارته، ولم يكن من الصعب اكتشاف تأثير غيابه عن قيادة الحزب وقاعدته، على وفرة تبادله واياهما المكالمات اليومية. بقي الرجل يحكم بديموقراطية ديكتاتورية يميّزها تناقض حاد بين قطبيها المتجاذبين: سيطرته على الحزب باستئثار لا ينكره رفاقه، وفي الوقت نفسه ادارته بديموقراطية بعد ان يصغي الى آراء الحزبيين ويستمع الى كل وجهات النظر ويترك لمن اراد مناقشة ما اثير والتعقيب عليه، ثم يكون قراره هو وحده. ومع ان تجربته الحزبية سابقة لتجربته النيابية، الا انه منح التجربة الحزبية جزئياً غنى المراس الديموقراطي الذي اختبره في عمله النيابي، فطبع الحزب بسمته هو: ان يكون حزباً ديموقراطياً بقدر مراسه.
&
صوت صارخ في البرية
بنية حزب الكتلة الوطنية مطابقة لبنية الدولة اللبنانية بمؤسساتها الدستورية. منذ عام ،1949 وريمون إده عميد له ولاية بعد ولاية. ظل معه، كما كان مع ابيه، اقرب الى تجمع زعامات وعائلات بارزة التفت حول اميل إده. ولذا قيل عن حزب الكتلة الوطنية انه حزب انتخابات نيابية له دستوره ونظامه وبناه التنظيمية، اكثر منه حزباً عقائدياً. كان يهجس بتطبيق القوانين، وهذا المسوّغ مستمد من صميم العميد الذي كان يراقب القوانين بأدق التفاصيل، وكان يقول ان الثقافة الحقوقية هي من مقوّمات الثقافة السياسية للذين يحترفون السياسة. واشتهر إده في كونه وضع قانون الاثراء غير المشروع، والسرية المصرفية، وطالب في شكل دائم بتطبيق قانون الاعدام، لكن الموقف الاكثر شهرة الذي سُجل له، هو معارضته اتفاق القاهرة، والذي يشكل بالنسبة اليه "اكبر فضيحة في نظام برلماني". وبموجب هذا الاتفاق انطلق الكفاح المسلح من لبنان بلا ضوابط مع نمو التنظيمات الفلسطينية على اراضيه، وهذا النمو دفعها غالباً الى الخروج منها بأسلحتها والتجول في المدن والبلدات فتحولت المخيمات ترسانة اسلحة كانت ايذاناً بتفكيك اوصال الدولة اللبنانية. وعلى هذا كان على ريمون إده ان يكون الرمز شبه الوحيد الذي رفض اتفاق القاهرة، في حين سلّمت به الغالبية النيابية ودافعت عنه من غير ان تطّلع على مضمونه. لم يكن اتفاق القاهرة سوى توطئة لدخول لبنان منازعات احترابية طويلة الامد، قامت بها منظمات فلسطينية ولبنانية فاختلط الخارج بالداخل، مما ارغم ريمون إده على مغادرة البلاد الى منفاه الباريسي، يسكنه هاجس قديم هو البحث عن الضمانات الدولية الكفيلة حماية كيان لبنان وسيادته من الدولة المجاورة التي تهدد استقراره وسيادته في شكل دائم. فاضافة الى ان الحرب فككت الاجتماع والدولة والبنيان اللبناني، كانت ذريعة لدخول الجيش السوري وترسيخ سياسته في ادارة العلاقات الوطنية والتعرض للتوازن السياسي المحلي، على نحو ما فعل جمال عبد الناصر في زمن سبق.
في سنوات الحرب اللبنانية المتعاقبة، لم يجد سبباً للاحجام عن مواقفه المتشددة حيال الدور السوري، وفي كل مرة اتخذ موقفاً مناوئاً لهذا الدور في لبنان، كان يستند الى مواقف مسؤولين سوريين لتعزيز حجته بالمخاوف التي مبعثها وجود جيشهم على الاراضي اللبنانية، وكان يميز بين "جيش محتل" هو اسرائيل و"جيش موجود" هو سوريا.
&
الرئيس المستحيل
لم يكن متهاوناً حيال الوجود السوري في لبنان، في المقابل كان يطلب الرئاسة بشروطه التي لن توصله الى الرئاسة، اذ يقرن وصوله بشروط قاسية احياناً لئلاً يساوم سلفاً على ما قد يقدم عليه او يرغمه على المساومة، وقال ان ما يعنيه من المنصب "ليس الوصول الى رئاسة الجمهورية، بل الموقع الذي يمكنني من العمل". لذا غالباً ما اظهر ميله الى املاء شروطه هو على اللعبة السياسية من غير الخضوع لشروطها، فاستحال وصول امثاله من ذوي المزاج المتصلب والرومنسي والمثالي في ممارسة السياسة. وفي كل مرة ترشح لرئاسة الجمهورية، كان ثمة وظيفة للمحاولة. في عام 1958 كان يواجه بترشيحه نتائج الاتفاق الاميركي - المصري لإنهاء حوادث ،1958 وتكريس انتخاب فؤاد شهاب رئيساً. في عام 1970 كان يواجه، بترشيح لم يصمد طويلاً، منع الشهابية من الاستمرار في الحكم ولاية ثالثة، وذلك بمقاومة عودة الرئيس السابق او انتقال السلطة الى خلف يختاره هو. في عام 1976 كان يواجه الاسباب التي تثابر على تسعير الحرب اللبنانية بطرحه برنامج حكم ومشروع حل يعيد الاستقرار وسلطة القانون. في عام 1982 لم يمضِ في ترشيحه في ظل الاجتياح الاسرائيلي للاراضي اللبنانية، فسيطر الاسرائيليون على مسار اللعبة الانتخابية برمتها. وفي عام 1988 كانت مرحلة غامضة. كان ريمون إده أيضاً المرشح الدائم للرئاسة، لكنه كان يعرف تماماً ان أكثرية النواب غالباً ما يساقون الى انتخاب الرئيس الجديد بالقوة او باغراء ما، ونادراً ما يذهبون الى هذا الخيار بقرار شخصي. على هذا النحو انتخب بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب والياس سركيس وبشير الجميل وامين الجميل ورينه معوض والياس الهراوي واميل لحود، اي كل الرؤساء اللبنانيين بعد الاستقلال باستثناء سليمان فرنجية، الذي فاز بفارق صـوت واحد. اتفاق الطائف الذي اثمر وقف الحرب اللبنانية، جعل لبنان في بوتقة الرعاية السورية الدائمة، وهذا ما حذّر منه ريمون إده، فهو مذ دُعي الى المشاركة في اعمال النواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية في ايلول ،1989 اتخذ موقفاً متشدداً من التسوية المقترحة ومن مبدأ اجتماع هؤلاء خارج الاراضي اللبنانية وخلص الى اختصار ما حدث في مدينة الطائف بقوله انه "فضيحة تمس كرامة الشعب اللبناني" وعزا موقفه المعارض لاتفاق الطائف في الصحافة الى ارغام النواب اللبنانيين على تبني القسم المتعلق بتنظيم العلاقات اللبنانية - السورية دونما تعديل بناء على اصرار سوريا، التي ابدلت كلمة "انسحاب" بكلمة "تمركز"، واتخذ موقفاً لتبرير رفضه الموافقة على اتفاق الطائف "الذي هو في ذاته امر مرفوض، يجعل لبنان مستعمرة سورية" ولا يزال السجال دائراً حول التمركز والانسحاب، بين اهل التملق والعداء، ولم تجد العلاقة الاخوية المأزومة بين لبنان وسوريا طريقها الى الحل، بل هي لا تزال في دائرة المعمعة. منتـهى القـول ان "جمهورية الضمير" التي كان يتـوخاها العميد لم تنجز لأنها لا تزال في دائـرة الهيـمنـة.
قد يختلف المرء مع مواقفه او يتفق، ليس هذا هو المهم. التاريخي في هذا يتمثل في قدرة ريمون إده الخلاقة على اضفاء المعنى على السياسة وعلى لبنان البلد المنجز. ولا شك في ان ما يقدمه الزميل نقولا ناصيف في كتابه الممتاز هذا يشكل اضاءة ربما للاجيال المقبلة حول المعنى الفعلي للسياسة ولرجالها.
(نقلا عن "ملحق النهار الثقافي")