&
لندن-ايلاف: واضح تماما انه ليس عمليات عسكرية اسرائيلية مثل "السور الواقي" هي وحدها تبعد الفلسطينيين ممثلين بسلطتهم التي يرئسها ياسر عرفات عن المشاركة في صوغ مصيرهم، بل هنالك من الظروف ما يبعدهم اكثر وهذا ممثل بالمسرحية التي حشر بها أصحاب القضية للشروع في معركة "الاصلاحات" حتى انها أصبحت مثل قصة "إبريق الزيت".
فهذا الزحام من الخطط والمبادرات التي تطرق بوابات واشنطن اسرائيليا وعربيا واوروبيا، وهذه التصريحات التي تنشر وتذاع عن مبادىء للحل واطارات عامة في غياب اهل البيت تجعل المستقبل اكثر غموضا واحد خطورة.
واذ الزحام يعيق الحركة ابتداء من المرور الى "تكاثر التكاثر" في الكلام السياسي، فان حال الاعاقة التي لحقت بالمصير الفلسطيني اعادت مجمل القضية الى المربع الاول، ومن دون مبالغة الى الوضع الذي ساد قبل حرب يونيو (حزيران) 1967 .
تلك الاثناء كانت هنالك قرارات جادة مثل قرار مجلس الامن الرقم 242 وهو الذي بحكمة وحكنة وجاء من بيت خبرة بريطانية في شؤون المنطقة، فعراب القرار كان الراحل اللورد كاردون الخبير في الشأن الفلسطيني الاسرائيلي كونه حكم منطقة نابلس اثناء الانتداب البريطاني على فلسطين.
ومنذ بدء جولات الاتصالات السرية والعلنية لتنفيذ فقرات القرار المذكور وصولا الى مبادرة وزير الخارجية الاميركي وليام روجرز التي قبلها العرب بمن فيهم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ما عدا اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ثم ما تلا ذلك من حرب اكتوبر وصدور القرار 338 فان الفلسطينيين كان يطلب اليهم دائما إصلاح حالهم.
الانتصار الوحيد الذي حققوه وربما هو اليتيم الذي قاد عليهم في وقت لاحق كوارث وهزات وهزائم وهو انتزاع قرار وحدانية التمثيل للشعب الفلسطيني التي منحتهم اياها قمة الرباط في العام 1974 . شكل هذا الانتصار ممثل في توقيع اتفاقيات اوسلو السرية من وراء ظهر العرب المعنيين في الجوار.
هذه الوحدانية في التمثيل، ومن بعد هزيمة ساحقة في الاردن قبل ذلك بأربع من السنين، فان المنظمة لم تفهم درسها جيدا بل عادت ثانية لخلق دولة داخل الدولة اللبنانية متناسية مجزرة الأمس في ايلول عمان الأسود، (الاردنيون التقدميون يعتبرونه ابيض كونه حافظ على منظمة التحرير غير ذلك فانها ستكون مجرد حركة معارضة صغيرة على الساحة الاردنية).
&لبنان سنوات عجاف
سنوات ثمان عجاف في الحالة اللبنانية، حيث بلد عربي دخل حيز تنفيذ التمزق بإسهام كبير من أركان حكومات فصائل المنظمة في بيروت الغربية والجنوب وحتى في طرابلس، قادت الى تنفيذ الطرد الثاني.
وحيث حقق الجنرال اريل شارون هذا الطرد من خلال عملية "سلام الجليل" العام 1982 ، فان الفلسطينيين طلب اليهم ان يصلحوا أنفسهم، حتى جاء الطرد الثالث على ايدي القوات السورية من بعد ذلك بأشهر معدودات، وهنا كان مطلب الاصلاح ملحا.
المجلس الوطني الفلسطيني التقى ولمرة اولى في الجزائر شارعا في ذات عام الطردين من بيروت وطرابلس متحدثا عن الاصلاحات، وساعتها اعيد تشكيل اللجنة التنفيذية وتم تعيين اعضاء جددا مضافين الى قائمة المجلس الوطني لاسترضاء فئات غاضبة.
وظلت مسيرة الاصلاح اشهرا تلو الاخرى تراوح مكانها حتى استقر بالمنظمة المقام في تونس الخضراء، ومن هناك زاولت قيادة الفلسطينيين من دون اصلاحات بـ"الريموت كونترول".
الاصلاحات المطلوب من القيادة الفلسطينية حاليا لجعلها مؤهلة للانخراط في مسيرة تقرير مصيرهم وضعتهم في بقعة ابعد من تونس ومن بيروت ومن عمان على الرغم من انهم على ارضهم، وصارت الاصلاحات والتشاور يتم حولها عبر "الموبايل" هذه المرة، وكذا حال التصريحات الكثيفة والمتناقضة من اركان القيادة عبر الفضائيات التي يتسابقون عليها.
ومنذ تحرر عرفات لأسابيع اربعة من مقره المدمر في رام الله الى حين الدخول الاسرائيلي عليه في غرفة نومه فانه انهمك بالحديث عن الاصلاحات التي وجد قائمتها امامه للاعتراف به مرة ثانية ممثلا للشعب الفلسطيني.
ومثله مثل اركان ادارته فانه نسي زحام المبادرات من حوله وحولهم والتهى والتهوا سواء بسواء بزحام التصريحات، وكان اهما آخر تصريح لعرفات وكان لافتا للانتباه.
لا استشارات للرئيس
فعرفات المحرر الذي لم يستشر بمبادرة الرئيس المصري حسني مبارك الا من خلال ضباط الامن، قال ان على كتفيه تقع مسؤولية حماية المقدسات "ليس الاسلامية فحسب، بل المسيحية ايضا".
وهو حين ابلغ بالموافقة العربية الجماعية على مبادرة ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز عبر الفضائيات العربيات، صرح بحسم موقفه عن "الرغبة الأكيدة بالموت شهيدا في رام الله". دائما هو الرد الفلسطيني يجيء كلاما من دون خطوات ملموسة في قلب المشكلة، وهذا حال قرارات المنافي والمنفيين اذا لم يتأصلوا في نضال حقيقي على الارض.
الانتفاضة الاولى في العام 1987 قررت ان لا دور لقيادة فلسطينية بعيدة مقرها تونس، وحاول الرئيس عرفات اعتبارها انتفاضته هو وليس غيره فتناقض مع نائبه خليل الوزير (ابو جهاد) الذي كان على اتصال يوميا مع المنتفضين، الذي حدث ان اسرائيل ادت خدمة كبرى لعرفات فقتلت خليل الوزير في غارة عسكرية فاقت حدود الوصف نفذت تفاصيلها في مقر منظمة التحرير.
ومن بعد قتل خليل الوزير تحت بصر وسمع القيادة في تونس، ذهب الرجل الثاني في حركة (فتح) ومسؤول امن الثورة صلاح خلف ضحية مؤامرة داخلية فلسطينية لا دور هنا لأجهزة الاستخبارات الاسرائيلية في تنفيذها، والى اللحظة لم يطلب عرفات اجراء تحقيق شامل في اسباب اغتيال صلاح خلف نائبه لشؤون الأمن؟.
&ملف الاغتيالات
والرئيس عرفات كما عرف عنه لم يطلب ابدا والى اللحظة فتح ملف اغتيالات جميع العناصر السياسية المهمة من الفلسطينيين في الخارج ومندوبي النضال الفلسطيني ابتداء من سعيد حمامي (لندن) وعزالدين قلق (باريس) ونعيم خضر (بروكسل) مرورا بغيرهم من الكثير والعديد.
الاصلاحات المطلوبة من قيادة عرفات تحددت في الساعات الثماني والاربعين الماضية (على مزاج الرئيس المحرر) من بعد مشاورات واتصالات استمرت الى اكثر من شهر بتعديل وزاري طفيف، وفيه اعطى ياسر عرفات منصب وزارة الداخلية الى العسكري المخضرم الذي يفوقه في العمر سنوات مهمة وزارة الداخلية وهو عبدالرزاق اليحيى.
وكما عبر مصدر فلسطيني أمام "إيلاف" فان التعديل الوزاري "لايعدو كونه إعادة انتشار سريع لقوة عرفات وأنصاره، فالتغيير شمل أسماء لا اكثر ولا اقل ونقل "هذا مكان ذاك" ، فوزارات الاختصاص المعنية في الاصلاح لم تمس بأذى أي فرجال عرفات استمروا في أداء مهماتهم من دون ردع ومن دون قرار، فهم احتفظوا بحقائب وزارات السيادة والكلام، خصوصا مع رفض جبهات فلسطينية إسلامية كانت أم علمانية المشاركة في مسرحية حكومية هزلية تحت مسميات الاصلاح؟".
اصلاحات الديكتاتور
الاصلاحات التي كانت مطلوبة من رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات الذي احتفظ كأي ديكتاتوري في الشرق الاوسط هي اجراء انقلاب شامل تتجاوز الاشخاص الى تحقيق سيادة القرار، وهو مطلوب منه اكثر نحو الاصلاح الحقيقي.
الاصلاح في السلطة يعني الكيفية والنوعية وليس الكمية، فلا معنى لخفض عدد الوزارات او انهاء مهمات اجهزة امنية هو كان من عينها وأشرف على مهماتها تنفيذا لرغباته الخاصة والمحيطين به اذا لم تكن هذه الوزارات او الاجهزة قادرة على تنفيذ المهمات لتنفيذ خطة الاصلاح المطلوبة.
&حرب الضفة والقطاع
يقول الفلسطينيون في شارعهم السياسي العام وكواليسهم ان حربنا التي واجهنا داخليا بين اجهزة جبريل الرجوب ومحمد دحلان قادتنا الى حرب دفينة التاريخ بين قطاع غزة واهله، وبين الضفة الغربية واهلها.
يذكر ان دحلان ينتمي الى قطاع غزة وكان يتهيأ الى منصب رفيع على انقاض هزيمة جبريل الرجوب المنتمي الى الضفة الغربية وحربهما اندملت في الاسبوع الاخير من خلال التشكيل الوزاري الجديد، لكنها تظل منذرة بما هو اصعب مما يمكن ان تحتويه اية قيادة فلسطينية آتية بين الضفة والقطاع وهما ركني الدولة المنتظرة؟.
&حرب الأمن
والى ذلك، فان حرب قادة الأمن الفلسطينيين الذين سادوا من بعد اتفاق اوسلو حيث بدأت خطوات العودة وانهمك الاسرائيليون والفلسطينيون معا في تحقيق ما يمكن تحقيقه وصولا الى حلول رمت هذه الحرب بثقلها على القرار الفلسطيني من اولئك الراغبين بوراثة "الرئيس الختيار، سواء من غزة او من الضفة".
ومن دون الخوض في كل تفاصيل ما جرى من حرب اهلية فلسطينية داخلية على تبوأ المناصب وحيازة القرار من بعد حصار رام الله وكنيسة المهد، فان نتائج كل هذا تبدو واقعيا كارثية على القرار الفلسطيني المستقل.
ففي شهري سجن عرفات تنمر عل الساحة السياسية المحلية عديد من القادة سواء كانوا في اطار السلطة الرسمية الفلسطينية او من غيرها من الفصائل الفلسطينية في الشتات مع الاخذ بعين الاعتبار دور المتشددين الممثلين بحركة حماس والجهاد الاسلامي صاحبتي بيانات التبني للعمليات الانتحارية.
هذا قاد في اخير التحليل ومعطياته الى شل الحركة السياسية لقيادة عرفات "السجين المحرر" وعدم قدرته على اتخاذ أي قرار، وقراره كان لا اكثر من ردة فعل حول ما يقوله المحيطين به وهو ليسوا جميعا ابرياء، او من الموفدين الاجانب الذين كان يلتقيهم، ولذلك ضاع القرار وانعدمت سبل تصميمه على نحو يمكن ان يوصف بالانهيار.
انهيار نفسي واخلاقي
ومع الانهيار النفسي والسياسي للقيادة الشرعية، فان سيلا من المبادرات والخطط والتصريحات طفت على السطح، ورغم ذلك فان القيادة لم تدرك بعد خطورة ما يجري حولها.
فالتغيير الوزاري وتخفيض عدد الوزارات الفلسطينية لم يتم الاعلان عن أي قرار فلسطيني يثبت اهلية القيادة الراهنة على قدرتها على بحث ما يطرح من مباردات والخروج بموقف ناجز واضح بناء حتى يكون للفلسطينيين دورهم البارز والمعتبر في تقرير مصيرهم.
واضح انه لا شيء جديد يمكن ان يقدمه الرئيس عرفات اكثر من ادراج اسماء جديدة في التشكيل الوزاري، ولكن على ما يبدو انه ايضا لم يعد قادرا على تفسير معنى هذه التعيينات التي تخضع الى الحروب الداخلية في هيكلية القيادة الفلسطينية.
بين السماء والارض
وواضح ايضا ان أي قرار ممكن اتخاذه في مستقبل قريب من جانب واشنطن استنادا الى معطيات واقعية بعيدا عن تدخل من الرئيس عرفات او استشارته او من حكومته سيكون مقبولا ليس من الجوار فحسب بل من الداخل الفلسطيني الذي ظل معلقا في الاسابيع الثلاثة الماضية بين السماء والارض منتظرا قرارا صريحا من عرفات باصلاح جذري شامل وليس قرار "وضع هذا بديلا عن ذاك" في اطار ممارسة سلطة غابت وتغيبت وحربها معلنة في داخلها وليس من خارجها.
وأخيرا، فان القرار يصاغ الآن من خارج اطار ممارسات المفترض فيهم ان يكونوا ممثلين شرعيين لقضية الشعب الفلسطيني فـ"ابرق الزيت يندلق بما فيه على نفسه وقد يحرقهم وحدهم اولا" على حد تعبير المثل الشعبي الفلسطيني.
التعليقات