القاهرة - إيلاف: العبث هو سيد الموقف في المشهد السوداني الراهن، فليس هناك مخلوق يمكنه التنبؤ، أو حتى مجرد تفسير ما يحدث، فهؤلاء الذين تبادلوا الأحضان والقبلات قبل أيام، عادوا لإعلان الحرب على بعضهم البعض مجدداً، وتذكر "ناس الحكومة" الله فجأة، في ما أصر عسكر قرنق على استغلال "هرولة العسكر والترابية"، لتسيطر على مناطق استراتيجية، تعزز موقفها في التفاوض، خاصة بعد أن وضع هؤلاء كل بيضهم في سلة ماشاكوس.
يأتي هذا في الوقت الذي أصيب فيه الشارع السوداني بصدمة بعد الاحداث الدرامية المتسارعة من الانتقال من حلم السلام الى خندق الحرب، بعد احتلال مدينة (توريت) الاستراتيجية. فقد عاد عسكر الخرطوم وتلاميذ الترابي إلى إعادة انتاج الخطاب الجهادي وترويج أدبيات الحقبة الترابية، وداخل مقر الدفاع الشعبي، وفي حضور النائب الاول للبشير& على عثمان محمد طه، انطلقت هتافات من نوع : "ليعد للدين مجده او ترق كل الدماء".
ووصف طه ـ وهو تلميذ نجيب للترابي انقلب عليه ـ وصف جون قرنق بأنه خائن، قائلاً : "خائن يا قرنق" مؤكداً التزام الدولة بالجهاد كطريق وتمسكها بشعار "الله اكبر حربا وسلماً".ومضى النائب يقول : "لأن الله اكبر لن تطفئها بحار الارض لو جمعت، وان (توريت) سترجع غدا لان الوجوه هي الوجوه والقلوب هي القلوب والشهداء ماضون والرسول امام والاسلام غاية والعهد باق والعدل سبيل والجهاد طريق والعزة هدف واللقيا عند الله".
ولا يمكن للمراقب أن يحتفظ بعقله سليماً حيال هذا السلوك السياسي الذي يعود لاستخدام لغة التحريض الديني ضد طائفة من أبناء الشعب الواحد، في الوقت الذي كان يجلس فيه قبل أيام معدودات مع من يصفه الآن بالخائن، ومن يعلن الجهاد عليهم !وفي سياق هذه التعبئة اعلنت الحكومة السودانية عن حملة دبلوماسية وسياسية وتعبوية واسعة للتنوير بموقفها من اعتداء الحركة الشعبية على توريت وقالت انها تنتظر ردا من سكرتارية هيئة التنمية لدول شرق افريقيا (إيجاد) حول مذكرتها بشأن الانسحاب من المفاوضات وانتقدت موقف الشركاء والوسطاء من تباين طرفي النزاع الواضح في مسألة وقف اطلاق النار.
خطط البشير
ونبدأ بالقصر، حيث أقر القطاع السياسي في اجتماع استثنائي برئاسة الرئيس السوداني خطة للتحرك السياسي والاستراتيجي شعبيا ورسميا خلال المرحلة المقبلة تركز على احداث توريت والحالات المستقبلية للتفاوض مع الحركة مع دعم القطاع للقوات المسلحة بما يمكنها من اداء واجبها.
وفي الوقت الذي قررت فيه الحكومة السودانية وبصورة قاطعة عدم العودة الى طاولة المفاوضات الا بعد الحصول على ردود مقنعة ومطمئنة من قبل سكرتارية (ايجاد) راعية مفاوضات السلام في ميشاكوس رهن القطاع السياسي عودة وفد الحكومة للمفاوضات حسبما ذكر المستشار السياسي لرئيس الجمهورية قطبى المهدي - برد مقنع من السكرتارية على مذكرة الحكومة والتي تتعلق بمواقف الاطراف المختلفة والمعنية بتحقيق السلام في السودان.
وقد انفتح الباب على مصراعيه باحتلال توريت وتعليق المفاوضات في ميشاكوس لكي تعلو اصوات الصقور على جانبى عملية السلام وهناك عدد كبير في الجانبين لم يرضهم ماحدث من التوصل لاتفاق في القضايا الاساسية.
صقور قرنق
ولا ينفرد عسكر الخرطوم وتلاميذ الترابي بهذا العبث وحدهم، بل يمتد الأمر لخصومهم في الجنوب، ففي الحركة الشعبية يقول صقورها ان العقيد جون قرنق قد باع القضية للعرب الشماليين , ويقول صقور الحكومة انها باعت القضية - ايضا - للغرب.
أحد المراقبين عن كثب للشأن السوداني في العاصمة الخرطوم يقول ان صقور الحكومة وجدوا في احتلال توريت مايدعم رأيهم بأن التمرد ومن يقف خلفه يستهدفون المشروع الحضاري لانشاء دولة عنصرية معادية لمكونات الامة الثلاثة الاسلام والعروبة والافريقانية. ويقولون لاسلام مع التمرد مادام يحمل سلاحا وانهم على استعداد للقتال حتى اخر رجل. ويرى صقور الحكومة أيضا ان الحكومة قدمت تنازلات حول الشريعة وقسمة السلطة والثروة.
ويضيف : اما صقور الحركة فيرون ان وضعهم القتالى قد تحسن واستطاعوا ان ينتقلوا بقواتهم من مرحلة العصابات الى مايشبه الجيش النظامى وذلك باقامة قواعد دائمة ونقاط ارتكاز قوية ومحصنة اضافة الى خلق ادارة مدنية لابأس بها تؤدى دورا في دعم المجهود العسكري.وذكر المراقب ان صقور الحركة كانوا يستعدون يوم التوقيع على الاتفاق النهائي في الرابع عشر من الشهر الحالي بميشاكوس لاصدار بيانهم باعلان ميلاد حركة تمرد جديدة منشقة عن حركة جون قرنق.
رسالة لواشنطن
وينظر بعض المراقبين الى ان تعليق المفاوضات وسحب الفريق الحكومى المفاوض يعتبر رسالة قوية للولايات المتحدة الراعية للمباحثات. ولعل الرسالة تقول ان أميركا كانت جادة وصادقة في إنهاء الحرب في السودان وتحقيق السلام.
ويذهب المراقبون الى ان هذه الرسالة من قبل الحكومة السودانية الى أميركا والايجاد والشركاء والوسطاء .. بأنها رسالة بالغة ولها عدة معان وتفسيرات واتجاهات لكنها في خاتمة المطاف تصب في عزة الوطن خاصة اذا تم النظر بامعان في لفظ التعليق وليس الانسحاب الى غير رجعة.
ويقول المحلل السياسي السوداني محمد كرار ان الهرولة والتهافت على حركة قرنق من قبل الحكومة، اغراها باحتلال (توريت) وإنه اذا فكرت الحركة في ان احتلال توريت لن يؤثر على العملية التفاوضية تكون حركة ساذجة واذا فكرت الحكومة بهذا المنطق تكون حكومة غير جديرة بالاحترام بل ومتهافتة.
وأضاف كرار ان احتلال (توريت) يؤكد جملة من الحقائق من أهمها أنه ليس هناك ضامن محايد او ضمانات كافية لاتفاق ميشاكوس الذي يصفه بأنه مجرد شرك وقعت فيه الحكومة لتمكين الحركة من مفاصل الدولة، ونقل القتال من الخارج الى الداخل، وإن الهرولة الى ميشاكوس إلى درجة التهافت اغرى الحركة الشعبية بتسجيل ضربة الى عمق الكرامة الحكومية باحتلال (توريت)، وإن القوات المسلحة ليست مسؤولة عن ذلك، بل المناخ السياسي المترهل الذي صنعه السياسيون بوضعهم كل بيض السودان في سلة قرنق.
ويرى كرار إن الصحافة - بعد اتفاق ميشاكوس - دللت وضخمت قرنق وتم تضليل الرأى العام بالسلام القادم. ويرى انه ان الاوان لاعطاء القوات المسلحة حق تطبيق قوانينها، اذ ان العقيد جون قرنق - تاريخيا - هارب ومطلوب للشرطة العسكرية والمخابرات وهناك تعليمات باعتقاله في أي مكان.
التعليقات