&
نبيل شـرف الدين
هل يليق أن نتحدث عن حرق مكتبة الأسكندرية في اليوم الذي يعاد افتتاحها فيه؟
بتقديري هذا لا يليق فحسب، بل ينبغي، ذلك لأن أمة لا تتعلم من دروس التاريخ، ولا تتعظ من مآسيها هي أمة لن تتقدم، ولا تستحق، وهنا بالطبع في هذا السياق لا أتحدث عن أمة عربية، بل عن أمة مصرية، مع خالص احترامي وتقديري للثقافة والحضارة العربية، لكن ـ وحتى لا تستغرقنا التفاصيل ـ هناك سمات حضارية وتاريخية وفكرية للمصريين تميزهم عن العرب، فالمصريون كانوا دائماً أمة ودولة قبل ارتباطهم بالعروبة بنحو أربعين قرناً، وهذا التمايز لا ينسحب بالضرورة إلى المقارنات التي قد تخطر ببال البعض، لكنها مجرد حقيقة تاريخية، وحضارية& لا نأتي عند إقرارها بجديد، إذ حين نتحدث عن أمة مصرية تتمايز عن محيطها العربي فهذا لا يلغي ولا يهون من شأن حقيقة معاصرة إن المصريين يتحدثون العربية، وتأثروا لحد بعيد بالثقافة العربية، لكن هذا مبحث قد يقودنا إلى تفاصيل تخرج بنا عن صلب الموضوع الذي نعتزم مناقشته، وهو من أحرق مكتبة الاسكندرية القديمة؟.
مكتبة الاسكندرية: ضمت في أوج مجدها أكثر من 900 الف مخطوطة
ولعلي بهذه المقدمة أمهد القارئ للتعامل مع الروايات التي نقلها لنا المؤرخون، وذهب بعضهم لاتهام يوليوس قيصر بجريمة حرق أضخم وأعرق مكتبة عرفتها البشرية وهي مكتبة الاسكندرية القديمة، في ما قال مؤرخون عرب وقبط إن عمرو بن العاص هو الذي أحرق محتويات المكتبة، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب، وهنا قبل الخوض في تفاصيل هذه الرواية أو تلك لعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن مكتبة الاسكندرية لم تكن مكتبة بالمعنى المتداول للمكتبة الآن، بوصفها مجرد مخزن للكتب، أو رفوف ترقد عليها المخطوطات والوثائق، لكن ما نقل إلينا متواتراً هو إن مكتبة الاسكندرية القديمة كانت جامعة كاملة، ومركز دراسات وبحوث، أو بالأحرى مراكز متعددة متخصصة تحت مظلة واحدة.
والثابت أيضاً بشكل يقيني إن بطليموس الأول هو الذي وضع أساس هذه المكتبة، سنة 288 قبل الميلاد، وإنها ضمت في أوج مجدها أكثر من 900 الف مخطوطة، ومن تلاميذها الذين تربوا فيها كان أول من قال بدوران الشمس حول الارض، وفيها تمت ترجمة العهد القديم من العبرية الى اليونانية، إذ كان الهدف منها ان تكون بمصطلحات العصر (اكاديمية علمية)، تجتذب كبار العلماء والمفكرين في العالم، ثم اتبعت بها مكتبة، اتسعت ونمت لتشمل المعارف في كل العالم القديم، ومن اساطينها في ذلك الزمن: ارستا رقوص (أول من قال بدوران الارض حول الشمس · و هيباركوس ( أول من احتسب طول السنة الشمسية بدقة)، و ايراتر ستنسيس ( أول من قاس محيط الكرة الارضية)، و اقليدس (الذي وضع أسس علم الهندسة)، و ارشميدس ( الذي اخترع الطنبور) ، و كاليماكوس (الاديب والشاعر وأول من وضع سجلا للكتب، مصنفاً بالموضوع والمؤلف، وهو يعتبر ابو علم المكتبات) وغيرهم كثيرون، كما تجدر الإشارة إلى أن الرعيل الأول لخريجي هذه المنارة الحضارية تلقوا علومهم على يد كهنة المعابد المصرية القديمة، لتكون الحقبة البطلمية بحق حلقة وصل حضارية بين حضارة مصر القديمة، وحضارة أثينا، في دورة الحضارة الإنسانية، التي كانت مكتبة الاسكندرية القديمة إحدى محطاتها البارزة ذات زمن ولى.
والثابت علميا أيضاً إن البطالمة تمصروا، كما حدث مع المماليك بعد ذلك بقرون، فلا يمكن لمنصف أن يعتبر المماليك مجرد أجانب استناداً لأصولهم العرقية فحسب، كأن هذا هو المعيار الحاسم وحده،
تخطيط هندسي للمكتبة
والحاصل ـ بتقديري ـ إن العامل الاثني (العرقي) ليس كل شئ في مسألة الهوية الحضارية، وربما أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كما يقول كثيرون بأن المعيار العرقي لا وزن له بالمرة، والدليل على ذلك الحالة الحضارية الراهنة التي يمثلها (الحلم الأميركي)، فالمعروف إن أميركا ليست (مزرعة بشرية) يحتكرها جنس بعينه، وهي بذلك لا تقدم نموذجاً لم يعرفه التاريخ الإنساني من قبل، فقد كانت مصر على نحو ما عبر تاريخها ملاذاً لكل الأجناس والأعراق، حيث تفاعلت فيها حضارات ومشارب ومعتقدات جعلت في المحصلة النهائية لهذا البلد خصوصيته وتمايزه على سواه من جيرانه، مع احترامنا المفرط للجميع ومنتوجاتهم الحضارية المختلفة.
نعود إلى البطالمة، وهنا نسوق دليلاً حياً من الحجر والأزميل، هو معبد ادفو الذي بناه البطالمة لا يعد معبداً اغريقياً بالمرة، بل هو معبد مصري قديم (فرعوني) خالص الملامح والقسمات، من هنا كانت فكرة مكتبة الاسكندرية في قرونها الاولى مزيجا من كل الحضارات واللغات وان غلبت عليها لاحقاً اللغة الاغريقية كلغة العلم مثل الانكليزية في يومنا هذا، وطبعاً كان لدور الفكر والفلسفة الاغريقية مكانة خاصة في تكوين حضارة الفترة الهيلنية والتي تعتبر مكتبة الاسكندرية منارتها الفكرية، وفي هذا السياق التاريخي والحضاري حطت سفينة التحضر والمدنية على شاطئ مدينة الاسكندر، التي أصبحت حاضرة ذلك الزمن، وهذا ما يفسر انفتاح مكتبة الاسكندرية القديمة على كل الحضارات، وقد يذهب البعض إلى القول بأن المكتبة كانت مشروعاً اغريقياً دخيلاً ليس لمصر دور فيه سوى الأرض التي أقيمت عليها المكتبة، وهذا مردود عليه، ففضلاً عن إن مصر القديمة بآمونها وآتونها عرفت المكتبة العامة قبل الاسكندرية، بل لا يتردد مؤسسو مكتبة الاسكندرية في الاعتراف خلال آثارهم بأنهم تربوا في معابد (آمون رع)، وتتلمذوا على يد كهنته، هذا فضلاً عن إن الغزاة عادة لا يؤسسون مكتبات ولا أكاديميات، بل يؤسسون معسكرات ويدشنون أساطيل، ويشيدون قلاعاً وحصوناً وسجوناً، وغاية ما يمكنهم بناؤه هو القصور.
&
باميان مصرية
بعد هذه الإطلالة التاريخية على سيرة حاضرة البطالمة، نأتي على قصة حرقها التي ظلت موضع خلاف بين الباحثين والمؤرخين، وأحاطتها هالة من الخلافات التي يسوق فيها كل طرف جبلاً من الأدلة والبراهين التي تبرئ ساحته من هذه الجريمة الحضارية، التي لم نشهد لها مثيلاً في عصرنا هذا إلا بتدمير تمثالي بوذا على يد حركة "طالبان" المخلوعة عن حكم أفغانستان، والقياس مع الفارق بالطبع، وفي البداية ليس هناك ثمة خلاف علي أن المكتبة قد دمرت، لكن الخلاف يدور حول كيفية هذا الدمار ومتي حدث ؟، ولذلك يدخل الأمر في باب الاجتهادات لا الأحكام.
ونتوقف في البداية مع ثلاثة أحداث رئيسية متهمة بالحريق الذي اصاب المكتبة: حرب الاسكندرية في 48 ق. م، ثم تدمير معبد السرابيون في سنة 391 ميلادية، وأخيراً دخول العرب مصر في العام 642 للميلاد.
ووفقاً للمؤرخين يتقاسم يوليوس قيصر وثيوفيلوس وعمروبن العاص الاتهامات في هذه القضية، فالأول جاء إلي مصر لتعقب عدوه بومبيوس، الذي كان قد فر إلي مصر ولكنه كان قد لقي مصرعه قبيل وصول قيصر إليها، وعندما دخل يوليوس قيصر إلي الاسكندرية كان هناك صراع دموي بين كليوباترا وشقيقها بطليموس الثالث عشر علي السلطة، واتخذ يوليوس قيصر جانب كليوباترا بعد أن حملت منه في ذلك الوقت، وثار المصريون ثورة عارمة ضد قيصر الذي دخل في حرب مع بطليموس الثالث عشر لصالح كليوباترا ولكن قيصر وجد نفسه محاصرا في البر والبحر حيث تفوق عليه عدوه في عداد السفن، وفي البر قطعت إمدادات المياه عن قواته وكادت تهلك عطشا ولكي يخرج من هذا المأزق العسكري عمد إلي إحراق كل السفن في الميناء بما في ذلك السفن المدنية التي كانت في الترسانة البحرية.
ويذكر المؤرخون إن حريق السفن في الميناء كان هائلا وقد امتدت ألسنة اللهب من الميناء إلي ما يحيط به من مبان في حي البروكيوم الذي كان يتحلق الميناء وأتت عليها بما في ذلك المكتبة. وفي هذا الحريق فقدت الاسكندرية إلي الأبد الأهمية التي كانت تتمتع بها قبل الحريق، وقد ذكر إميانوس فيلنيوس الذي عاش في القرن الرابع الميلادي بأنه كانت هناك في الاسكندرية مكتبة ثمينة لاتقدر بثمن أجمع الكتاب علي أنها كانت تقتني مالا يقل عن سبعمائة ألف كتاب بينما يشير الفيلسوف اليوناني القديم سينيكا إلي ان النار التي اضرمها قيصر في الميناء أتت علي أربعين الف لفافة، وان كان الدكتور مصطفي العيادي يرجح أنها أربعمائة الف. ورغم اختلاف المؤرخين في هذا الأمر غير أن هناك اتفاقاً علي أن نصف ذاكرة الإنسانية قد تحولت إلي دخان، وظلت هذه الواقعة نقطة سوداء في حياة يوليوس قيصر. وقد اعتذر مارك أنطونيو لكليوباترا وقدم لها نحو 200 الف كتاب تعويضا عما احترق في المكتبة.
أيقونة من مقتنيات المكتبة
أما الكارثة الثانية التي اصابت المكتبة فقد كانت بسبب الصراعات الدموية العنيفة بين المسيحيين والوثنيين خلال القرون الميلادية. فقد كانت المكتبة رمزا للثقافة الوثنية في نظر الدعاة المتحمسين للمسيحية بحيث ان إلحاق المكتبة بمصير الثقافة الجديدة كان مسألة وقت فقط. وهكذا فإن تدمير المكتبة في عهد ثيودوسيوس سنة 391م كان نتيجة منطقية لهزيمة الثقافة الوثنية امام الثقافة الجديدة (المسيحية)
ومع ذلك فإن المكتبة لم تفقد وجودها كله فيورد بعض المؤرخين أن عمروبن العاص قد أحرق بقايا المكتبة، وهو ما يذكره القفطي في كتابه (أخبار العلماء) من أن يحيي النحوي المعاصر للفتح العربي لمصر، طلب من عمروبن العاص، قائد الجيوش أن يعطيه الكتب الموجودة في الخزانة الملكية، ويقصد بها مكتبة الاسكندرية. فأجابه قائلا: 'لايمكنني أن آمر فيها بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمربن الخطاب، وكتب عمرو ليعرف رأي أمير المؤمنين، فجاءه الرد: "أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله غني عنه، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة بنا إليها، فتقوم بإعدامها"، فشرع عمروبن العاص في توزيعها علي حمامات الاسكندرية واحراقها في مواقدها، واستنفدت ستة أشهر حتي تم حرقها.
وفي كتاب جديد صدر في شيكاغو وأسمه (الشروط العمرية ـ بحث في الاحكام والشروط التي فرضها الخليفة عمر بن الخطاب علي اهل الكتاب) للمؤلف جون يونان في الصفحة 91 وتحت عنوان: عمر بن الخطاب يأمر بحرق مكتبة الاسكندرية، جاء ما يلي: مكتبة الاسكندرية من اعرق واضخم المكتبات في تاريخ العالم القديم والتي اسسها بطليموس الاول، وقد أمها جمهور من الطلاب والمفكرين من جميع اصقاع الارض وكانت معظم كتب هذه المكتبة عبارة عن لفائف من البردي، ونسخت عليها اكثر المؤلفات القديمة من علمية وفلسفية ودينية، ويرجع الفضل لهذه المكتبة الي ترجمة التوراة الي اللغة اليونانية وهي المعروفة بالترجمة السبعينية، وهي الترجمة التي استخدمها تلاميذ المسيح في الاستشهاد في كتاباتهم للانجيل. وزخرت المكتبة ايضا بالاف الكتب النادرة حتي وصل عدد مجلداتها الي 4 الاف مجلد عدا تسعين الف مجلد كانت بالسراي الملكية، وهذه المكتبة الكنز والتي لا تقدر بثمن قام باحراقها عمرو بن العاص بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب.
كما يورد الاستاذ عبد الحسين احمد الاميني، في كتابه (الغدير في الكتاب والسنة والادب)، وصفا لحرق المكتبات في البلاد التي فتحها المسلمون مستشهدا بمراجع اسلامية تاريخية يقول: كما ورد في تاريخ مختصر الدول لابن العبري ما نصه: عاش يحيي الغراماطيقي الي فتح عمرو مدينة الاسكندرية ودخل مع عمرو وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه عمرو وسأله: والذي تحتاج اليه. قال يحيي: كتب الحكمة في الخزائن الملوكية، ونحن محتاجون اليها ولا نفع لكم بها، فقال له: من جمع هذه الكتب وما قصتها؟ قال يحيي: ان بطليموس من ملوك الاسكندرية، لما ملك حبب اليه العلم والعلماء وفحص عن كثب العلم وامر بجمعها وافرد لها الخزائن فجمعت واجتمع من ذلك خمسون الف كتاب ومئة وعشرون كتابا ولما علم الملك باجتماعها وتحقق من عدتها قال لحافظ المكتبة: اتري بقي في الارض من كتب العلم ما لم يكن عندنا، فقال له قد بقي في الدنيا شيء من السند والهند وفارس وجرجا والارمان وبابل والموصل وعند الروم، فعجب الملك من ذلك وقال له دم علي التحصيل، فلم يزل علي ذلك الي ان مات وهذه الكتب لم تزل محروسة ومحفوظة براعيها كل من يلي الامر من الملوك واتباعهم الي وقتنا هذا فاستكثر عمرو ما ذكره وعجب منه وقال له: لا يمكنني ان آمر بأمر الا بعد استئذان امير المؤمنين عمر بن الخطاب. وكتب الي عمر وعرفه بقول يحيي الذي ذكر، واستأذنه ما الذي يصنعه فيها؟
فرد عليه كتاب عمر يقول فيه: واما الكتب التي ذكرتها فان كان ما فيها ما يوافق كتاب الله (القرآن) ففي كتاب الله عنه غني، وان كان ما فيها يخالف كتاب الله فلا حاجة اليها. فتقوم باعدامها، فشرع عمرو بن العاص في تفريقها علي حمامات الاسكندرية واحراقها في مواقدها وذكرت عدد الحمامات يومئذ ونسبتها، فذكروا انها استنفدت في مدة ستة اشهر.
بانوراما ليلية
وبالطبع يعرف كل المهتمين بهذه القضية الدفاع المستميت الذي قدمه الباحث الشهير ألفريد بتلر عن عمرو بن العاص، ومقارنته وتدقيقه للروايات المختلفة، وهذا سيكون موضوعنا القادم باذنه تعالى.