د. ليلى شفيق فريد
&
هناك قلة قليلة من الناس تتحقق لديها المصالحة الكاملة بين الافكار والاقوال والافعال... نجيب محفوظ واحد من هؤلاء ... حياته وكتاباته ومبادئه على حد سواء تمثل تعبيرا رائعا عن نفس نقية سمحة تتسع لقبول الاخرين على اختلاف الوانهم ومشاربهم.
من ناحية الدين : نشأ نجيب محفوظ في بيت كانت الثقافة الدينية هي السائدة فيه ومع ذلك لم يعرف التعصب فلم يتحرج والده من استجلاب طبيب قبطي - هو نجيب باشا محفوظ - لمباشرة زوجته عندما تعسرت ولادتها لابنها الذي صار الاديب العظيم وسمي باسم الطبيب النابغة. وتفتحت مدارك الصبي على ام تزور الاديرة وتصادق الراهبات وتصحب ابنها الصغير في جولات قاهرية تغطي الاثار والمتاحف الفرعونية والقبطية والاسلامية. وشب محفوظ في احضان ثورة 1919 التي طبقت عمليا شعار "الدين لله والوطن للجميع"، وتشرب مشاعر الوطنية الخالصة التي تنبذ اية تفرقة طائفية وتعتبرها عارا وسبة.
اعطانا اجمل مثال على استنكاره للتعصب الديني في احدى لوحات كتابه الرائع "المرايا" فحدثنا عن تراجع تقديره لاحد النقاد كرد فعل لموقف معين. وتتلخص القصة في ان هذا الناقد حدث نجيب محفوظ عن احد الكتاب الاقباط الواعدين فلما سأله محفوظ ببراءة متى سيكتب عنه ليعرف القراء به، فوجئ بقول الناقد انه لن يفعل لانه - على حد قوله - لا يرغب في ان يشترك في بناء قلم سيعمل على تجريح التراث الاسلامي.
وتضمنت اعماله الادبية شخصيات مسيحية ادمجها في نسيج العمل بصورة طبيعية غير مصطنعة نابعة عن احساسه العميق بانهم شركاء في الوطن وليسوا اغرابا عنه. ونتذكر على سبيل المثال المثقف رياض قلدس في "السكرية"، وسابا رمزي الكاثوليكي وناجي مرقص انبغ تلاميذ جيله في "المرايا".
وتضم قائمة اساتذة واصدقاء وتلاميذ محفوظ الذين حمل لهم التقدير واخلص لهم الود ومنحهم كل معونة وارشاد الكثير من المسيحيين. وما سلامة موسى ولويس عوض ويوسف جوهر وغالي شكري وعادل كامل ومجدي وهبة وكذا ادوار الخراط ويوسف الشاروني وتوفيق حنا والفريد فرج ونبيل راغب وماهر شفيق الا امثلة ممن اسرهم بمحبته ومودته.
من جهة التوجهات السياسية: رغم كون محفوظ وفديا صميما فانه تعامل بتفهم واحترام مع اتباع الاحزاب الاخرى فلم يمنع انتماء استاذه مصطفى عبد الرازق لحزب الاحرار الدستوريين من توطد تلك الصلة العميقة بين الاثنين. وعندما قامت الثورة - ورغم عدم ارتياحه لتهميشها لزعماء الوفد - فانه قد& رحب بمبادئها واستبشر بقادتها، بقلب مفتوح ونية صافية.
ومن جهة الخلافات بين الامم والشعوب فرغم اغراقه في الوطنية، كان دوما من دعاة& الانفتاح على العالم والحوار بين الثقافات ونبذ العنف والاخذ بخيار السلام.
بخصوص القيم الخلقية : لا يختلف اثنان على ان نجيب محفوظ هو عملة نادرة الوجود - ان لم تكن قد انقرضت تماما - من جهة مثله الاخلاقية السامية. لسان عف.. تسام عن الصغائر.. ترفع عن مظاهر السلطة والغنى والنفوذ... نفس كريمة جوادة ... وها هو عائد وديعة امواله التي حصل عليها لفوزه بجائزة نوبل ورصدها لوجوه الخير، يمثل فيضا من الرحمة يغمر المريض والجائع والمحروم.
ورغم ذلك فانه لا يوجد شخص استطاع ان يجمع حوله زمرة شديدة التباين من الاصدقاء والزملاء مثل محفوظ... كلهم يدينون له بالمحبة والولاء... وحتى المؤذي منهم فانه يمارس اذاه بعيدا عنه. وهو يعترف بأن دائرة اصدقائه المقربين. وخصوصا في صدر الشباب، قد ضمت مجموعة متناقضة من البشر منهم من بلغ ذروة السمو الخلقي والعلمي ومنهم من احترف البلطجة والفتونة.
وامتلك محفوظ قدرة خارقة على ان يكتشف في احقر المخلوقات واشرها ناحية طيبة تخفف من مساوئها ويجد لها من المبررات ما قد يغفر لها تصرفاتها. وانعكست هذه النظرة المتسامحة على شخصيات رواياته: سعيد مهران القاتل المطارد في اللص والكلاب... من منا لم يتعاطف معه ولم يشعر انه ضحية لا جان؟ حتى الساقطات في روايات محفوظ: حميدة في زقاق المدق، نفيسة في بداية ونهاية، نور في اللص والكلاب وريري في السمان والخريف... في تناوله لهن نجح في ان يذكرنا بقول سيد المسيح : "من كان منكم بلا خطية فليرجمها بحجر"
موقفه ممن عادوه : في وسط احتفال العالم كله بفوزه بنوبل تصاعدت نغمة تشذ عن الاجماع وتشكك في احقيته بالجائزة وللأسف الشديد كان مصدرها هو الكاتب الكبير يوسف ادريس. ولكن محفوظ تسامح مع العبقري المشاكس دوما وامتص غضبته الغير عادلة واعتبرها كبوة من جواد اصيل.
وعندما هاجمه اصحاب الايدلوجيات المختلفة كالناصريون واليساريون قابل تحاملهم عليه برحابة صدر وتفهم لا حد لهما. وهذا ايضا ما فعله في مواجهة من كفروه واستباحوا دمه.
حتى عندما تعرض لابشع ما يمكن ان يتعرض له انسان: طعنة قاتلة من يد غادرة جبانة كان رد فعله هو الشعور بالاشفاق - ليس على نفسه - بل على المعتدي لأن شاب غرير ضلل به عن جهل فاحش وتعصب مقيت.
هذه مجرد شذرات من سيرة معطرة باريج الورود وفي مقدرة كل من عاصر نجيب محفوظ او عرفه ان يضيف درة جديدة الى عقد اللألىء الذي يمثل حياته.
استاذنا الجليل دامت لنا انسانيتك وسماحتك وكرمك وكل عام وانت بخير.