إيلاف- محمد السيف: بصدور القرار القاضي بإعفاء عبدالله الطريقي، من منصبه كوزير للبترول والثروة المعدنية، في 15 مارس آذار 1962م، ننتقل إلى المرحلة الثانية من حياته العملية في مجال النفط والغاز، وهي الفترة التي تمتدُ من عام 1962م وحتى نهاية السبعينات تقريباً، وهي فترة تحرّر فيها الطريقي من مهامه الرسمية، وتفرغ فيها للدراسات الاستشارية والكتابة في مجال النفط والغاز، وقد اتخذ من بيروت مقراً له وأصدر منها مجلته "البترول والغاز العربي" في عام 1965م ثم أصدر مجلته الثانية "نفط العرب" من الكويت، وجعل شعارها "نفط العرب للعرب" كما عمل مستشاراً نفطياً في أكثر من دولة عربية، ثم عاد إلى الرياض، ومكث سنوات، غادرها بعد ذلك إلى القاهرة، التي بقيَ فيها حتى لقيَ ربه!
وإذا كان السيد أحمد طاشكندي، يروي لـ"إيلاف" أن الشيخ الطريقي قد أُجبر على المنفى والرحيل إلى خارج البلاد السعودية، فإن عدداً من أولئك الذين كتبوا عنه بعد وفاته، أو أولئك الذين تحدثوا إلى "إيلاف" أشاروا إلى أن الطريقي، قد اختار المنفى بنفسه! طواعيةً وليس قسراً، ورداً على سؤال "إيلاف" للأستاذ عبدالعزيز السنيد (صديق الطريقي قبل الوزارة وبعدها) في هذا الشأن، فإن الطريقي، وفقاً لكلام السنيد، قد قرّر طوعاً وعن رغبة، الرحيل إلى خارج البلاد، ليتفرغ للكتابة والاستشارة النفطية، وقد اختار من بيروت مقراً له.
الشيخ عبدالله الطريقي في آخر سنواته مع أبن زوجته السيد أسامة نجار
&
&
الطريقي: المقاتل حتى النفَس الأخير!&&
يذكر الدكتور يوسف شبل، الأستاذ بالجامعة الأمريكية ببيروت، في مقالةٍ له في "السفير" أن الطريقي خرج من السعودية إلى الخارج طوعاً لا قسراً عندما تباعدت وجهات النظر في ما يجب أن تكون عليه السياسة النفطية، مُضحياً بمنصبٍ وزاري مهم، في أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، وهي شهادة لا ريب فيها في نزاهة وزهد الرجل، وعدم اكتراثه بالمناصب والإغراءات المادية، ويُشير الكاتب فؤاد زيدان، في صحيفة "الخليج" إلى أن الطريقي، حين ترك الوزارة بات أكبر وأقوى فتحول إلى أحد رموز الأمة الصامدين في ميدان حماية مواردها وتاريخها ومستقبلها، وظل في كل المنابر المتاحة، وفي كثير من المواقع فارساً شهماً مقاتلاً حتى النفس الأخير من أجل حق الأمة العربية في الحياة ومن أجل إنسانية أفضل.
ويرى الروائي العربي عبدالرحمن منيف، أنه إذا كان الكثير من الوزراء يستمدون قوتهم من المواقع التي يشغلونها، وتنتهي هذه القوة بخروجهم منها، فإن الطريقي كان قوياً لما كان وزيراً، وظل قوياً بعد أن ترك الوزارة، بل ويمكن القول أنه تحرر وأصبح أكثر جرأة في طرح أفكاره، والدعوة إلى سياسة نفطية جديدة بعد أن تحرر من الوزارة.
ويرى الدكتور وليد خدوري، أن حياة الطريقي في الغربة، قد شكلت امتداداً طبيعياً لعمله البترولي، إذ أسس مكتباً لتقديم الاستشارات والخبرة لوزارات النفط العربية وشركات النفط الوطنية، وعمل بنشاط دؤوب لا يعرف الكلل أو الملل لمدة عقدين من الزمن، تقريباً ينشر ويحاضر حول النفط والغاز، ليس كسلعة اقتصادية فقط، بل كمورد طبيعي يمكن أن يخدم الأقطار العربية في حال توفر الإرادة السياسية وحسن استعمال الإيرادات المالية.
وكشهادة على ما قدمه الطريقي من جهودٍ صادقة إبّان عمله الوزاري، فإن الدكتور عبدالعزيز الدخيّل، يرى من خلال مذكرة أمدّ بها "إيلاف" أن عقارب الساعة، لو توقفت في الشهر الذي أعفي فيه الطريقي، لكفاه ما قدمه لأمته ووطنه، إلا أن تغيّر المواقع والألقاب لم يقعده ولم يثنه عن عزمه، كما يقول الدخيّل، فما كف عن العطاء وما ساوم على المبادئ، وقدم الرأي والمشورة لمن طلبها في الكويت وأبو ظبي والعراق وسوريا وليبيا والجزائر، من زعامات متنوعة وأيديولوجيات مختلفة، أما بالنسبة إليه فجميعهم عرب!
&
الطريقي والكتابة النفطية:
يُعدُ الطريقي واحداً من أبرز الكتاب العرب المتخصصين بالكتابة النفطية، ومما ساعده على إيصال رأيه إلى الجمهور العربي، تلك المجلات التي أسّسها على حسابه الخاص، وكان صاحب أسلوبٍ كتابيٍ مميز، وكثيراً ما يستشهدُ في مقالاته بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، والحكم والأمثال العربية، وكان الهدف من وراء إصدار الطريقي، لمجلتيه هو نشر أفكاره القومية، وتعميم الثقافة البترولية والوصول إلى الرأي العام في العالم العربي، حينما لم يجد الحرية الكافية، لينشر كل ما يريده في الجرائد والصحف الرسمية في البلدان العربية، وقد جاء إصداره لمجلتيه بعدما شعر الطريقي، كما يقول الخبير عاطف سليمان، بضرورة خلق وعي بترولي حقيقي بمختلف جوانب قضية النفط العربية، لدى المسؤولين والرأي العام العربي، بحيث يجعلهم مستعدين للوقوف بصلابةٍ وإيمان وراء المطالب المشروعة، من أجل ذلك عمل مع مجموعة من البتروليين العرب المخلصين، على إقامة مؤتمرات البترول العربية، التي كانت مدرسة لنشر الوعي البترولي لدى الجمهور العربي العريض، وكانت فرصة ذهبية لتقديم الدراسات من الكفاءات العربية المتخصصة حول مختلف الجوانب الفنية والاقتصادية والقانونية والسياسية للبترول العربي، ومن على منبر "مؤتمر البترول العربي" طرح الطريقي في الستينات لأول مرة نداء تأميم النفط العربي، ويرى عاطف سليمان أن الطريقي كان ذا قلمٍ ساخر، وقد ابتكر لمجلة "نفط العرب" شخصية "دحيّم النفطي" التي كان من خلالها يمرر تعليقاته الساخرة وانتقاداته اللاذعة لسلبيات الوضع العربي، وقد دأب خلال الوقت على نشر كاريكاتير في كل عدد من أعداد المجلة، وقد اشتد الهجوم على الطريقي من مشايعي الشركات البترولية الأجنبية نظراً لمواقفه البترولية الرائدة، فنشر كاركاتير، وكتب تحته "الكلاب تنبح والقافلة تسير".
ويُطلق الروائي العربي عبدالرحمن منيف، لقب "بيت الخبرة العربي النفطي" على الشيخ الطريقي، انطلاقاً من إصداره لمجلة متخصصة، تتناول الموضوعات الأكثر أهمية، ثم المساهمة في مؤتمرات النفط التي كانت من أبرز المؤتمرات التي توالى عقدُها في عقدي الستينات والسبعينات، وتقديمه المشورة، ودراسة عدد من المشاريع النفطية في عدة بلدان عربية،& بحيث استغنت دول عديدة عن الخبرة الأجنبية، وهذا ما لم يكن مدوناً وفعالاً قبل الطريقي.
بالإضافة إلى نشره لمقالاته ودراساته في مجلتيه، كان الطريقي ينشرُ في مجلات وصحف عربية أخرى، وأجنبية، وأجريت معه حوارات مطولة باللغتين العربية والإنجليزية، وقد حاولنا في "إيلاف" حصر المجلات والصحف العربية، التي كتبَ فيها الطريقي، فكان من أبرزها: مجلة اليمامة السعودية، ومجلة أخبار البترول والمعادن، التي أسّسها إبّان عمله وزيراً، والرائد العربي، والطليعة القاهرية، ودراسات عربية الفلسطينية، ومجلة الطريق، ومجلة البترول والغاز العربي، التي أسّسها في بيروت، ومجلة نفط العرب، التي أسّسها في الكويت، وصحيفة القبس الكويتية، والأنباء الكويتية، والوطن الكويتية، والأهرام المصرية، ومجلة المجاهد الجزائرية، وجريدة الخليج العربي، ومجلة المحرر اللبنانية، وجريدة الحرية، ومجلة الثقافة العربية، وعالم الاقتصاد الصادرة في بغداد، ومجلة الدستور الصادرة في لندن، ومجلة المجتمع الكويتية، وغيرها، وسنقوم في الحلقات القادمات بعرض بعضٍ من آراء وأفكار الطريقي في النفط والسياسة والتنمية والوحدة العربية.
وبمناسبة احتفال صحيفة "الأهرام" بمرور مائة وعشرة أعوام على صدورها، وذلك في عام 1986م فقد أصدرت الصحيفة كتاب توثيقي بعنوان "شهود العصر" تضمن مقالات لعدد (110) من الشخصيات العربية، من السياسيين والمفكرين والعلماء والكتاب، الذين كتبوا على صفحات الأهرام، وقد تم انتقاء مقالاتهم لتمثيل الفكر العربي، وقد جاء الطريقي في المرتبة (61) بعد الإمام محمد عبدة، وخليل مطران وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وفكري أباظة وتوفيق الحكيم وطه حسين وجمال عبدالناصر والبابا شنودة الثالث، وغيرهم وقد جاء بعد الطريقي عدد من الكتاب، منهم: صلاح عبدالصبور و نجيب محفوظ ويوسف السباعي ويوسف إدريس ومحمد عبدالوهاب وياسر عرفات وسهير القلماوي ومحمد عمارة، وغيرهم، وقد جاء اختيار الطريقي على مقالته المنشورة في الأهرام، بتاريخ 5/11/1973م تحت عنوان "لكي يكون البترولُ سلاحاً ماضياً" والتي قال فيها الطريقي أن الحرب بيننا وبين إسرائيل التي تساندها وتوجهها الولايات المتحدة الأمريكية، أثبتت أن العربَ أمةٌ واحدة، وأننا في أوقات المحن، ننسى كل خلافاتنا ونواجه الأخطار متحدين، وهذه نعمة كبيرة، تبشر بالخير وبالمستقبل الأفضل، كما أثبتت أن الإنسان العربي إذا تم إعداده للقتال نفسياً وعسكرياً فهو مقاتل لا يقلُ شجاعةً وإيماناً عن شهداء معارك بدر واليرموك!&&
ومما تجدر الإشارة إليه أن الطريقي، خلال إقامته في المنفى، قد ساهم في عام 1975م بتأسيس "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت، إلى جانب عددٍ من المثقفين والمفكرين العرب، وفي ذلك يقول الأستاذ أديب الجادر، وزير النفط العراقي: حينما اجتمع عدد من المثقفين العرب لتأسيس "مركز دراسات الوحدة العربية" عام 1975م كان الطريقي في مقدمتهم، وحين أسّسنا المنظمة العربية لحقوق الإنسان عام 1983م، كان الطريقي قد اعتكف في داره، وحين أطلعتهُ على بعض نشاطاتها وقلت له " لقد كنت معنا رغم غيابك، في كل اجتماعاتنا" ابتسم ابتسامة حزينة!
&
الطريقي وخيبة الأمل:
&مع مطلع الثمانينات، جفّ حبر الطريقي، وتوقف مداده، وغادر إلى القاهرة، التي مكث فيها بقية عمره، يتأمل ويُراجع عطاءاته التي قدّمها لأمته ووطنه، ويبدو أنه أُصيبَ بخيبة أملٍ كبيرة، خلال العقدين الأخيرين من عمره، وقد لحظَ ذلك معارفه ومحبوه، الذين أشاروا إلى ذلك في مقالاتهم الرثائية، من أولئك الروائي العربي عبدالرحمن منيف، الذي قال إن إحدى مآسي الطريقي أنه طرح أفكاراً وشعارات لم يستطع الوضع العربي أن يستوعبها ويتعامل معها في وقتها، وقد ولد هذا تشاؤماً ثم إحباطاً لدى الطريقي، الذي هجر العمل السياسي وأصبح أقرب إلى التصوف، وهكذا تحامل على نفسه قاصداً القاهرة، ليقضي فيها الأيام ويتأمل ويراجع الفترة المتبقية، ويذكر الدكتور وليد خدوري، أن ثمة عوامل ساهمت في عرقلة الكتابة عند الطريقي منذ أوائل الثمانيات وحتى وفاته فهناك الجلطة الدماغية التي أصابته في تكساس عام 1983م عشية حفل تسلمه شهادة خريج متفوق من جامعته، تقديراً لخدماته وإنجازاته في مجال الصناعة النفطية، ومن اللافت للنظر أن الطريقي قد تم تقديره والاعتراف بدوره التاريخي في تأسيس الأوبك ومنازلة الشركات النفطية الأجنبية خارج بلاده وأمته، ولا نعرف عن جامعة عربية واحدة كرمته بهذه الطريقة!
الطريقي وبلاده السعودية:
حينما كان الطريقي في منفاه الاختياري، كان على صلةٍ ببلاده السعودية، فقد عاد إليها في أوائل السبعينات، خلال عهد الملك فيصل، رحمه الله، ثم غادرها إلى الكويت، وعاد في آخر السبعينات، ثم غادرها إلى القاهرة، لظروفه العائلية، وقبل مغادرته إلى القاهرة، حاول أن يواصل نشاطه بمدينة الرياض، التي عشقها، وذلك من خلال إنشائه لمكتب استشاري، إلا أن نشاطه- كما يذكر خدوري- كان محدوداً وانصرف إلى ممارسة الشعائر الدينية، بشكلٍ ملحوظ، كما أخذ في ممارسة رياضته العربية المفضلة وهي ركوب الخيل، وتربيتها، ويذكر المؤرخ روبرت ليسي، أن الطريقي حينما عاد إلى الرياض، أفتتح مكتباً استشارياً على بُعد خطوات من وزارته التي كان يشغلها، إلا أنه لم يستمر في ذلك! .
وعن موقف الطريقي في المنفى تجاه بلاده السعودية، يذكر الأستاذ يوسف شبل، أنه خلال إقامة الطريقي في لبنان والخارج ظل شريفاً في معارضته بعيداً عن المهاترات الشخصية، وعمل خلال إقامته في منتصف الستينات مستشاراً لحكومتي الجزائر والكويت وغيرهما من البلدان النفطية، وعندما عاد للرياض في مطلع الثمانينات لقضاء ما تبقى من خريف العمر كان موضع حفاوة وتكريم المسؤولين السعوديين، وعلى رأسهم الملك فهد، إذ أن الخلاف في وجهات النظر لايفسد للود قضية، ويقول الدكتور وليد خدوري: عاد الطريقي إلى الرياض في النصف الأول من السبعينات في عهد الملك فيصل، بعد أن تسلم رسالة رسمية من مسؤول سعودي كبير عن طريق صديقٍ حميم له تفيده أن هذا البلد بلده، يحضر متى شاء ويسافر متى يريد، ويضيف خدوري أن الطريقي عاد في النصف الثاني من السبعينات وقابل أمير الرياض الأمير سلمان، الذي أهداه سكناً خاصاً له ولعائلته وأكرمه مادياً، ومن الواضح أن المسؤولين في السعودية ثمنوا موقف الطريقي من حيثُ أنه لم يسء إلى بلده ولم يهاجم نظام الحكم فيها.
ويذكر الأستاذ عبدالرحمن الراشد، رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط، أن الطريقي الذي كسبَ معركته التعريبية ضد شركات النفط، خسر كلّ شيء في آخر مشواره مع رفاقه في الجزائر وليبيا، بعدها قرّر العودة إلى بلاده، ومن خلال رسالة شخصية وجّهها للأمير سلمان، تأثر الملكُ فهد بما حدث له وأبلغه باهتمامه بأزمته، فمنحه سكناً وأعطى أفراد عائلته جوازات سفرٍ سعودية، بما فيهم الذين لم يكونوا سعوديين، وقد تأثر الطريقي بالموقف الأخلاقي الذي أحيط به دون دعاية.
&
&
الحلقة الثانية:
&&
الحلقة الثالثة:
&
الحلقة الرابعة
&
الحلقة الخامسة
&
الحلقة السادسة
&
الحلقة السابعة