محمد حسن الزاملي الموسوي
&

في الوقت الذي كانت فيه المظاهرات الصاخبة تجوب شوارع مدينة "ايفان" الفرنسية الجميلة منددة بالعو لمة وبالسياسات الاقتصادية لمجموعة الثماني التي استضافت فرنسا اجتماعاتها في مطلع الشهر الجاري، كنا نحن الإعلاميين العراقيين ومجموعة من زملائنا الإعلاميين _العرب والأجانب_ نعقد في "أثينا" عاصمة اليونان مؤتمرا حول صناعة إعلام حر ومستقل في العراق. لقد مثلّ المؤتمر وبحق ثمرة من ثمار العولمة وذلك سواء من جهة الإعداد له حيث شارك العديد من المنظمات والهيئات العالمية غير الحكومية في إعداده،أو من جهة المشاركين فيه الذين كانوا من جنسيات متعددة واختصاصات متنوعة. لقد اظهر هذا الملتقى الإعلامي الدولي إذا جاز لي وصفه كذلك بأن الهمّ الإنساني همّ واحد، وان مصير العالم كذلك واحد، وان مصالح الأمم والأقوام متداخلة فيما بينها ولا تحدها حدود ولا تمنعها موانع قومية أو عرقية أو دينية، فالإنسان هو الإنسان حيثما وجد وأينما يكون.

العرب في المؤتمر
غصّت قاعة المؤتمر بخبراء القانون والإعلام وبالصحفيين الذين تقاطروا من كل حدب وصوب ومن أصقاع شتى، جاءوا ليضعوا خبراتهم المتراكمة في خدمة التجربة الإعلامية العراقية الواعدة. كان مشهد زملائنا الإعلاميين الأجانب وهم يدلون بأفكارهم وبنصائحهم غاية في الروعة ومرّد ذلك الى حرصهم الكبير والواضح على بلورة إعلام حر ومستقل ومتطور في العراق يتجاوز أخطاء التجارب الإعلامية الأخرى التي حصلت في دول مرت بظروف مشابهة لظروف العراق حاليا كالبوسنة وكوسوفو وروسيا ورومانيا وتيمور الشرقية وبولندا وأخيرا أفغانستان التي تحررت مؤخرا من قبضة جلاديها الذين كانوا يعيشون في القرون الوسطى وهم في القرن الواحد والعشرين.
وفي الوقت الذي حرص فيه& الإعلاميون الأجانب على تقديم الأفكار العملية والناجعة في سبيل إقامة إعلام حر ومستقل بمعنى الكلمة والتخلص من تبعات المركزية والتوجيه الحكومي للإعلام والذي هو من مميزات الأنظمة التولوتارية كالنظام البعثي البائد، اكتفى إخواننا الإعلاميون العرب _ باستثناء حالات قليلة_ بالتركيز على قضية احتلال العراق ومحاولة ربطها بإمكانية ولادة إعلام حر ومستقل في العراق مشككين بذلك الأمر الذي أثار حفيظة اكثر العراقيين ومنهم كاتب السطور حيث انعكس ذلك على أجواء المؤتمر وتجلى بشكل واضح في ثنايا الحوارات والنقاشات التي دارت داخل أروقة المؤتمر وخارجها.لقد تمحورت تلك النقاشات في اغلبها على جدوى التعاطي سياسيا واقتصاديا وإعلاميا مع الدول العربية، حيث الاعتقاد السائد لدى العراقيين الذين تحرروا _ بالطبع بفضل الاحتلال_ من نير أعتى ديكتاتورية عرفتها البشرية بأن الدول العربية تحكمها أنظمة ديكتاتورية توتاليتارية ورجعية بشكل عام وأنها تفتقر لكل مقومات الديمقراطية والحرية، إضافة الى أن اغلبها فقيرة اقتصاديا باستثناء دول الخليج_ وأن بقاء العراق يدور في فلك تلك الأنظمة سوف يستنزف ثرواته وطاقاته_ والتي هو بأمس الحاجة إليها_ تحت يافطة الوحدة العربية والأمة العربية الواحدة.

العراق أولاً
لقد بدا واضحا لدى اكثر العراقيين& الاتجاه نحو القطرية انطلاقا من مبدأ العراق أولاً، الأمر الذي فسره البعض على انه نزعة انعزالية كما جاء في مقال الزميل صلاح النصراوي والمنشور في صحيفة الحياة بتاريخ الأربعاء 11 حزيران 2003العدد 14688 ولا أبوح سراً حينما أقول أنني كنت أحد الذين أشار إليهم المقال المذكور بل ومن أكثرهم اندفاعاً في المناداة بمبدأ العراق أولاً. وفي الواقع إن هنالك الكثير من الأسباب المنطقية التي تكمن وراء هذا التوجه والشعور الآخذ في الاتساع في الشارع السياسي العراقي. ومن بين هذه الأسباب:
أولاً_ يرى العراقيون أن العرب يفتقرون الى الحرية والديمقراطية وكذلك الحال بالنسبة لوسائل الإعلام العربية التي تفتقر الى الاستقلالية والحيادية وتكاد تكون صدىً للخطاب السياسي للنظام العربي الرسمي الذي لا يزال يردد مفردات الحرب الباردة ويسبح في فضاء خمسينيات القرن المنصرم، أسيرا للماضي الذي لم يعد يتماشى والوضع الراهن حيث التغيرات والتحولات الكبيرة التي شهدها العالم على المستويين السياسي والاقتصادي. إن فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف إذن وحال العرب ودولهم كذلك يرجى منهم منح العراق والعراقيين الحرية والديمقراطية ؟
ثانياً_ إن المحيط العربي محكوم بشكل عام بنظام ديكتاتوري توتاليتاري لا يولد ولا ينتج إلا القمع والإرهاب والتخلف حيث تؤكد إحصائيات منظمة اليونسكو ومنظمات حقوق الإنسان أن الدول العربية من اكثر الدول في العالم تخلفا في مجال التعليم والتكنولوجيا وفي مجال الحريات وحقوق الإنسان حيث بلغ عدد سجناء الرأي في العالم العربي رقماً خيالياً لا يضاهيه إلا عدد سجناء الرأي أيام حكم الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وما كان يعرف بالكتلة الشرقية. إن النظام العربي لا يمكنه التواصل مع نظام ديمقراطي عصري متحضر وهو ما يؤمل قيامه في العراق قريباً. فما الذي يدفع العراقيين الى الانتماء لمثل هذا المحيط أو البقاءفيه بدعوى "العلاقة العضوية بين العراق والعرب"؟
ثالثاً_ الكثير من العراقيين، عرب وغير عرب، يرون أن العراق لا يمكن اعتباره بلداً عربياً بالرغم من أن الأكثرية فيه عربية، إذ هو حصيلة لإلتقاء عدة أمم وأقوام عاشت وما تزال بتآخ منقطع النظير منذ الأزل، وقد انصهرت في بوتقته مكونة أمة واحدةً هي الأمة العراقية والتي تختلف بخصائصها ومكوناتها اختلافاً واضحاً عن الأمة العربية التي يراد للعراق الانتساب إليها والتمسك بأهدابها ولا يوجد ما يبرر هذا الانتساب والارتباط بالعرب خصوصا إذا ما عرفنا أن ثلث العراقيين ليسوا عرباً بل هم كرد وتركمان وسريان وكذلك فان الأكثرية العربية في العراق شيعية المذهب بينما الأكثرية المذهبية في الدول العربية سنية، ولا نريد الحديث هنا عما عاناه الشيعة العرب من تمييز طائفي على مر السنين على أيدي إخوانهم العرب،الى حد اتهامهم بالعجمة،& متناسين أن الشيعة لم يخرجوا عن نطاق شبه الجزيرة العربية والعراق في الألف سنة الأولى من التاريخ الاسلامي، ثم انطلقوا خارج المنطقة العربية في الأربع مائة سنة الأخيرة.
رابعاً_ إن الدعوة الى الأخذ والعمل بمبدأ العراق أولاً ليست دعوة انكفائية أو انعزالية عن المحيط العربي والإسلامي، بل هي عودة الى الذات العراقية التي استبيحت وأهينت مرات عديدة، مرة باسم الأممية الماركسية وأخرى باسم العروبة وثالثة باسم الدين حيث غيبت الذات العراقية بسم الإيديولوجيات تغييباً متعمداً، فأصبحت بغداد وهي منارة العلم وقبة الحكمة أسيرة لموسكو في الفكر الشيوعي، وأسيرةً للقاهرة في الفكر القومي العربي، وأخيراً أسيرة لطهران في الفكر الاسلامي.
إن العراق أولاً هو فهم جديد في التعاطي مع الواقع السياسي، وهي براغماتية وليست ردة فعل اعتباطية أو انفعال عاطفي كما يحلو للبعض تسميته تهربا من الواقع معللاً ذلك بالمواقف السلبية للعرب أنظمة وشعوباً تجاه العراقيين في محنتهم الطويلة والتي لم يقدم العرب خلالها ما يساعد العراقيين على تجاوزها، بل هو وعي حقيقي وواقعي للذات العراقية وعودة إليها، وهو صيرورة في الفكر السياسي العراقي الذي ظلّّ أسير الديموغوجية وأسير لتقليد الآخرين.
إن فلسفة العراق أولاً وكما نفهمها تعني جدولة الأولويات العراقية وإعادة ترتيب البيت العراقي وفقاً لتلك الأولويات بحيث تصبح مصلحة العراق والعراقيين الأساس في التعامل مع الآخرين، وتصبح مصلحة العراق فوق كل مصلحة وفوق كل اعتبار سواء كان هذا الاعتبار دينياً أو قومياً أو أيديولوجيا. وهذا الأساس في التعامل مع الآخرين ينطبق على العرب كما ينطبق على غيرهم، ولاتوجدخصوصية للعرب تستدعي تقديمهم على الآخرين مادام الاعتبار كما ذكرنا في التعامل هو مصلحة العراق خصوصاً وان الدول العربية نراها اليوم تقدم مصالحها الوطنية على الرغم من رفعها لشعارات المصلحة القومية العربية وهي شعارات تستخدم للاستهلاك المحلي والداخلي لا أكثر. جدير بالذكر إن رفع هذا المبدأ من قبل العراقيين ليس بدعة ابتدعوها فقد سبقتهم عدة دول عربية الى رفعه والعمل به، علماً إن تلك الدول كانت تحمل راية القومية والوحدة العربية وتنادي بها، فلماذا يستكثر على العراقيين العمل بمبدأ قد سبقهم دعاة القومية العربية؟
خامساً_ إذا كان للعرب مصالحهم التي تملي عليهم التمسك بالعراق وضمه الى جامعتهم لكونه وكما هو معروف بلداً غنياً ومعطاءً وسخياً الى حد الإفراط مع " أشقائه العرب" فان للعراقيين أيضا ما يملي عليهم مراعاة مصلحتهم الوطنية العليا وعدم اللهاث والانجرار خلف الشعارات الديماغوجية الحالمة التي لا يزال الإعلام العرب ومن ورائه الخطاب السياسي الرسمي يجترها ويتغنى بأمجاد العرب والأمة العربية ووحدة المصير العربي ! حيث يراد استهلاك العراق واستنزافه لصالح بلدان عربية معينة وجدت في إطروحة الأمة العربية والوحدة القومية بقرةً حلوبا تستهلك بها الدول العربية الغنية لصالحها والذي كان شعار "نفط العرب للعرب" يمثل سياستها الانتهازية بأبشع صورها.
سادساً _ إننا نفهم القومية انتماء اجتماعي بريء ويحق لكل بني البشر الاعتزاز بانتماءاتهم القومية وهو أمر طبيعي ولا ضير فيه، ولكن ما لا نفهمه هو& الإصرار على تحويل القومية من انتماء اجتماعي الى انتماء سياسي وتحويلها الى أيديولوجيا يتم باسمها مصادرة الآخرين كما حصل في العراق في عهد البعثيين الذين مسخوا العروبة وأساءوا إليها وفضلوا العرب على العراقيين حتى من العرب، بسبب إفلاسهم السياسي وفشلهم الذريع في تطبيق الشعارات البراقة التي رفعوها عند استيلائهم على السلطة. إن الكثير من العراقيين يرون إن الدعوة الى إبقاء العراق ضمن المحيط العربي على الطريقة القديمة& دعوة& غير بريئة، لأنها تعني ببساطة سرقة العراق باسم فكرة العروبة الديماغوجية.
سابعاً_ إن تاريخ العلاقات العراقية_العربية يشجع العراقيين على المضي قدما في تحجيم علاقتهم بالعرب، فتاريخ العلاقات بين العراق والعرب يؤكد الروح التآمرية عند العرب تجاه العراق خصوصاً في العهد الجمهوري، فما يزال العراقيون يتذكرون وبمرارة مواقف "أشقائهم العرب" التآمرية ضدهم، حيث تلقوا الطعنات العربية الواحدة تلو الأخرى ومايزالون، فمن التدخل السافر في الشأن الداخلي العراقي ودعم حركة الشواف الى المشاركة العربية في اغتيال الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، مرورا بدعم ومناصرة نظام صدام الطائفي خلال سني حكمه البغيض لاسيما خلال حربه ضد الجارة إيران حيث شجعت معظم الدول العربية العراق على ذلك العدوان تحت يافطة التصدي للمد الشيعي الاسلامي غير العربي، والواقع يقول إن هذه الدول وجدت في الحرب فرصتها الذهبية لبناء اقتصادياتها المتدهورة أصلا حيث وفرة تلك الحرب اللعينة فرص العمل لملايين العاطلين عن العمل من "الأشقاء العرب" إذ استضاف العراق حوالي خمسة ملايين عربي، كانوا يعملون في مختلف الاختصاصات على الرغم من افتقار الكثير منهم الى الكفاءة العلمية والمهنية والتي لا قيمة لها أمام "إطروحة الأمة لعربية" في عرف البعث.وفي الوقت الذي كان يقاد فيه العراقيون الى محرقة الحرب كان العرب العاملون في العراق يبعثون الى دولهم " الشقيقة" أموالاً طائلة بالعملات الصعبة لبناء دولهم على حساب جوع العراقيين وفقرهم نتيجة احتكار "الأشقاء العرب" لفرص العمل، بل وصل الأمر الى أن اخذوا يلاحقون العراقيين في عقر دارهم، فقد كانت وشاية من "شقيق عربي" كانت كافية لإيقاع حكم الإعدام بالعراقي ابن البلد. إن ذاكرة العراقيين تختزن الكثير من صور الطعنات العربية والتي كان آخرها رفض "البرلمانيين" العرب إدانة المقابر الجماعية التي عثر عليها بعد سقوط النظام الفاشي،& ربما لأنها تعود للشيعة العرب والأكراد والتركمان الذين يشكلون 85% على الأقل من العراق ناهيك عن مواقف العرب المشينة خلال عملية إسقاط نظام صدام الفاشي، ومزايدتهم على وطنية العراقيين الذين أيدوا إسقاط الطاغية بالقوة لما عانوه من ظلم لم يشهد التاريخ له مثيل. فهل يتوقع بعد كل هذه الطعنات_ وهي غيض من فيض_ أن يتجه العراقيون نحو العرب؟ وهل يلام العراقيون بعد كل تلك المآسي والتي كانت تقع على مرأى ومسمع من العرب، على المستوى الرسمي والشعبي، إذا ما قرروا الخروج من جامعة الدول العربية؟
أخيرا يرى العراقيون أن ما يحدد علاقاتهم بالآخرين سواء كانوا عرباً أو عجماً هو مصلحة العراق فقط، ومصير العراق ليس مرتبطا كما يدعي القوميون _ بمصير "أشقائهم العرب"الذين لو أراد العراقيون الحديث عن معاناتهم التي سببها لهم العرب لوضعوا بذلك المجلدات، بل بمصير مصالحه الوطنية العليا والتي قد تكون مع العرب أو مع غيرهم.

كاتب وصحفي عراقي مقيم في لندن