مجدي خليل
&
&
&قبل أن نتحدث عن أوضاع الأقباط في ظل ثورة يوليو هناك عدد من الملاحظات التمهيدية التي تعتبر جزءا مكملا للموضوع:
&1- منذ دخول المسيحية مصر وحتى هذه اللحظة لا يوجد عصر يمكن أن يطلق عليه "العصر الذهبي للأقباط" لأنه ببساطة لم يحكم الأقباط أنفسهم قط وكانوا دائما محكومين من طرف أجنبي. فمنذ دخول المسيحية وحتى الغزو العربي كانوا تحت اضطهاد مستمر دفاعا عن دينهم في البداية وعن مذهبهم الأرثوذكسي بعد ذلك، وبعد الغزو العربي عاشوا قرونا طويلة تحت ما يسمي "نظام الذمية" وهو نظام إذلالي حتى تم إلغاءه عام 1855 على يد سعيد باشا، ومع قيام الدولة الحديثة على يد محمد علي عام 1805 بدأت المواطنة تأخذ طريقها كمناط للحقوق والواجبات. وقبل أن تكتمل أركان المواطنة والمتمثلة في "المساواة" و"المشاركة" جاءت ثورة يوليو لتبدأ مرحلة لتهميش الأقباط والمستمرة بشكل متزايد حتى لحظة كتابة هذه السطور. وقد أصاب الأقباط ما أصابهم نتيجة لظروفهم التاريخية التعسة ورؤيتهم الدينية المشوهة للنضال السياسي وبالطبع تتحمل الكنيسة وقياداتها المتتالية عبر قرون طويلة جزء كبير من المسئولية التاريخية عن هذه الرؤية المشوهة عكس الفكر اللاهوتي الغربي مثل اجتهادات القديس أوغسطينوس وغيره في هذا السياق، وهذا موضوع آخر سنتحدث عنه في وقت لاحق.
&2- يحتمي الأقباط في مصريتهم ويتمسكون بهويتهم المصرية في مقابل أي غزو فكري، فقد رفضوا التيارات التي تريد أن تحكم مصر إسلاميا وتحفظوا إزاء ما يسمى بالقومية العربية ولم يقابلوها بارتياح خوفا من أن تنتهي بهم بالعودة للحكم الإسلامي، ولكنهم رحبوا بكل ما يعلي الانتماء والهوية المصرية الأصيلة. فقد رفضوا مشروع "الجامعة الإسلامية" الذي دعا إليه السلطان التركي عبد الحميد وتبناه مصطفى كامل وتمسكوا بمشروع "الجامعة المصرية" الذي تبناه أحمد لطفي السيد، وفي مقابل المشروع الديني حاول اخنوخ فانوس 1908 تأسيس "حزب مصر"، وبإجماع كامل رفض كل الأقباط مشروع السادات لتحويل مصر إلى دولة دينية. وتكفي نظرة على أسماءهم وأسماء صحفهم ليتبين العمق المصري، فقد أسس ميخائيل عبد السيد جريدة الوطن "1877-1930"، وأسرة المنقبادي جريدة مصر اليومية "1895-1966"، وأنطون سيدهم جريدة وطني "1958- " وكلها كما هو واضح من أسمائها جرائد تعلن بوضوح عن هويتها المصرية الوطنية الأصيلة.
&3 - منذ الغزو العربي حدث اختزال وضع الأقباط في علاقة الحاكم بالبطريرك، وهذا معيار غير كاف. صحيح أن علاقة الحاكم بالبطريرك تعد مؤشرا مهما على أوضاع الأقباط ولكنها ليست كل المؤشرات ولا أهمها، فالأهم هو أوضاع الأقباط ومشاركتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولهذا لن نقف طويلا عند علاقة عبد الناصر بالبابا كيرلس رغم أنها تعد من الأشياء الإيجابية في تلك الفترة ولكن الأهم كما قلت ما حدث بالفعل لأوضاع الأقباط سياسيا واقتصاديا واجتماعيا خلال تلك الفترة.
&4- كذلك لن ننشغل بصفات عبد الناصر فبلاشك كان عبد الناصر نزهيا ومهموما بقضايا وطنه وأمته ولم يكن متعصبا ويتحلى بالكثير من الصفات الإيجابية الأخرى، ولكن المهم بالنسبة لمصر: هل طريقه أدى إلى تقدم مصر أم تأخرها ؟ وبالنسبة للأقباط: هل تحسنت أوضاعهم في عهده أم ساءت ؟ فهذه المراجعات هي التي يجب أن تتم وأعتقد أن عبد الناصر كان من الممكن أن يعيد النظر في حساباته لو طال به العمر.
&5- وإذا توصلنا إلى أن أوضاع الأقباط تدهورت في عهد عبد الناصر فليس معنى ذلك أنها تحسنت بعد رحيله بل العكس فالتدهور الحقيقي حدث بعد رحيل عبد الناصر. وهذا التدهور هو انعكاس لما حدث لمصر نفسها ولأوضاعها السياسية فقد تراجعت مصر من ليبرالية مبتدئة ومضطربة قبل الثورة إلى نظام عسكري له أبعاد دينية في عهد عبد الناصر إلى دولة دينية دشنها السادات عام 81 بتغير الدستور، وأصبح الوضع الحالي يمثل سلطة في يد العسكر وشارع في يد التيارات الدينية، وهو وضع خطير لأن التكثيف الإعلامي للرسالة الدينية واختراق المؤسسات من قبل الإسلام السياسي، أديا إلى سيادة الذهنية الدينية وأسلمة مؤسسات المجتمع وأصبحت اللغة الدينية لغة مشتركة في كل شئ تقريبا حتى ولو كان الحديث عن الموضة وكرة القدم إلا وتسللت إليه مصطلحات الدولة الدينية.
&6- إن التمييز الديني في النهاية هو ميزة تحصل عليها الأغلبية في مقابل حقوق الأقلية، فعند أي تعارض أو تنافس بين القبطي مع شريكه في الوطن يبدأ بإشهار سلاح الدين في مواجهته، ويظهر شعار الأخوة والمواطنة في حالة كونه مستفيدا من القبطي. ولا أحد يتنازل عن ميزة يتمتع بها شكل تطوعي وإنما يتم ذلك بقوة القانون والدستور وهذا هو دور الرئيس أو القائد، فجون كنيدي قال في معسكر انتخابي في لوس أنجلوس عندما كان مرشحا لرئاسة أمريكا "إن الرئيس وهو الممثل لجميع المصالح والقطاعات لهو الشخص الوحيد الذي يستطيع خلق جو من التفاهم والتسامح، الذي هو ضرورة إذا كان علينا أن نعمل على تهيئة فترة انتقال منهجية للوصول إلى مجتمع تسوده الحرية الكاملة، وإذا لم يشن الرئيس بنفسه، الحرب من أجل الحصول على الحقوق المتساوية للجميع، وإذا وقف متفرجا، مقللا من شأنها، معتبرا أنها أقل من أن تشغل حيزا من اهتمامه في هذه الحال ستصبح الحرب معركة خاسرة لا محالة". هذا ما قاله جون كينيدي عن دور الرئيس في دولة مؤسسات كأمريكا وطبقه بعد أن أصبح رئيسا بتمهيده لإصدار قوانين الحقوق المدنية التي صدرت عام 1964 في عهد خلفه الرئيس جونسون والتي أعطت للسود كل حقوقهم بل مزيد من المميزات عن البيض كالأولوية في العمل وفي الالتحاق بالجامعات مجانا، فبالأحرى يكون دور الرئيس أقوى وأكثر تأثيرا في مجتمعات نامية مثل مصر. وتحضرني مقولة للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل من أن ملفي "نهر النيل" و "الوحدة الوطنية" يجب أن يكونا دائما من مسؤولية رئيس الجمهورية.
&7- هناك نظرية تقول أنه عندما يكون هناك عدو خارجي يتحالف الداخل بمسلميه وأقباطه في مواجهة هذا العدو، وقد أظهر الأقباط وطنية شديدة في مواجهة العدو الخارجي، ولكن بعد انتهاء الخطر الداخلي بدلا من مكافئة الأقباط لإعلائهم قيمة الوطن في مواجهة عدو قد يدين بنفس ديانتهم، نجد العكس هو الانقضاض على الأقباط وتنفيس الإحباط والتعصب فيهم. حدث ذلك عقب الحروب الصليبية، وبعد جلاء الإنجليز، وكذلك بعد انتهاء الحرب مع إسرائيل. ولا نجد تفسيرا لذلك إلا أنه نوع من المراوغة والخداع.
&8- الملاحظة الهامة أن استعراض أوضاع الأقباط في ظل يوليو أو ما قبلها ليس له معنى إن لم يترجم إلى استفادة للحاضر أو المستقبل سواء بالنسبة للأقباط أنفسهم أو بالنسبة للدولة، فالمسألة ليست اجترار الماضي كما تفعل الكثير من الكتابات القبطية ولكنها محاولة لتشكيل وعي ولاستفادة كل فريق من أخطاءه من آجل مستقبل أفضل للجميع.
&بعد استعراض هذه الملاحظات نعود إلى أوضاع الأقباط قبل ثورة يوليو وبالتحديد منذ مجيء محمد على 1805 حتى 1952 وتعتبر هذه المرحلة بداية بناء الدولة الحديثة بما في ذلك بداية تأصيل مفهوم المواطنة لكافة المصريين، بما تعنيه من المساواة أمام القانون، والمشاركة في إدارة شئون البلاد، والحق في اقتسام الموارد، وكذا اكتمال مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية وإصدار الدستور. ولقد أدرك محمد على مبكرا أن أهم مقومات بناء الوطن هو الاستفادة من جهود كافة المصريين. ويرجع لمحمد على فضل اختيار الأقباط لمناصب هامة مثل تعيينه بطرس أغا أرمانيوس حاكما على برديس، وفرج أغا ميخائيل حاكما على ديرمواس، وميخائيل أغا عبده حاكما على الفشن، ومكرم أغا حاكما لشرق أطفيح، وتكلا سيد لبهجورة، وأنطوان أبو طاقية حاكما للشرقية، وتعادل هذه المناصب مناصب المحافظين ورؤساء المدن حاليا التي لا يشغلها أحد من الأقباط الآن. وفيما يتعلق بالعبادة لم يحل محمد على بين الأقباط وبين ممارسة طقوسهم الدينية ولم يرفض للأقباط أي طلب تقدموا به لبناء أو إصلاح كنائسهم. ومع أسرة محمد علي حدث تطور مستمر فيما يتعلق بوضع الأقباط فكان سعيد باشا أول من دعا الأقباط إلى حمل السلاح، ومنع إقامة الأفراح في حالة اعتناق قبطي للديانة الإسلامية، وأمر بإلغاء الجزية المفروضة على الذميين في ديسمبر 1855 وسمح للجنود الأقباط أن يمارسوا ديانتهم علانية، وعين حاكما قبطيا للسودان وهو بمثابة منصب رئيس الاقليم الجنوبي لمصر. وأما اسماعيل فقد أعطى مساحة أوسع من المساواة فقد اشترط حضور قسيس عند اعتناق مسيحي الديانة الإسلامية، ودعم المدارس القبطية ماليا وقرر علانية المساواة بين المسلمين والأقباط وذلك بترشيح الأقباط لانتخاب أعضاء مجلس شوري القوانين، وفي أول برلمان مصري منتخب عام 1866 دخل الأقباط الانتخاب أسوة بإخوانهم المسلمين، وقام بتعيين قضاة أقباط للمحاكم وكذلك أول حاكم قام بمنح الباشوية لرجل قبطي. وفي فترة ازدهار الوفد 1919- 1952 شارك الأقباط بفاعلية في الحياة السياسية وفي المناصب العامة في ظل الوفد. ولا ننسى أنه خلال العصر الليبرالي كان هناك رؤساء وزارات أقباط (بطرس باشا غالي، ويوسف باشا وهبي) ووزراء خارجية (واصف بطرس غالى، وكامل بطرس غالي، وصليب سامي)، ووزراء مواصلات (فوزي المطيعي، وصليب سامي) ووزراء مالية (مكرم عبيد، وكامل صدقي، وصليب سامي) ووزراء حربية (صليب سامي)، ووزراء تجارة وصناعة (سابا حبشي، وراغب حنا)ووزراء الشئون البلدية والقروية (إبراهيم فرج)، ووزير الصحة لعدة مرات (نجيب اسكندر) ووزراء للأشغال (إبراهيم نجيب) ورئيس مجلس النواب (ويصا واصف) الذي وقف في البرلمان قائلا أنه يمثل دائرة لا يوجد بها قبطي واحد إلا نائبها. وسادت الشعارات التقدمية في تلك الفترة مثل "الدين لله والوطن للجميع"، و"عاش الهلال مع الصليب"، وحتى نكون منصفين لم تكن هذه الفترة كلها على ما يرام وإنما كما قلنا كانت بداية طيبة يمكن البناء فوقها، وقد حدثت أشياء عكرت بعض الشيء صفو العلاقات بين أبناء الشعب الواحد مثل.
&1- اغتيال بطرس باشا غالي على يد الورداني وكان عضو في جماعة أصولية تسمي "جماعة الإخاء المتبادل" ومن المؤسف أن المفتي وقتها رفض التصديق على حكم إعدامه بحجة أن المسدس الذي استخدمه لم يرد ذكره في القانون الإسلامي كأداة للقتل!!
&2- هجوم الشيخ المراغى "شيخ الأزهر" المتحالف مع القصر مرارا وتكرارا في خطبه على الوفد وعلى الأقباط.
&3- ظهور جماعة الأخوان المسلمين عام 1928 وممارستها المتطرفة ضد المجتمع وعمليتها الإرهابية التي طالت الأقباط، وفكرها المتطرف الذي يعاني منه المجتمع المصري حتى الآن.
&4- إصدار وزارة العدل منشورا عام 1931 يقضي بأن تكون الشهادة الطبية المقبولة في القضايا الشرعية من طبيب مسلم ولا تقبل من طبيب مسيحي.
&5- صدور دستور 23 ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، رغم أن ذكر دين للدولة يتنافى مع الديموقراطية فيها.
&6- إصدار العزبي باشا وكيل وزارة الداخلية عام 1934 الشروط العشرة لبناء الكنائس، وهي شروط معوقة ومكبلة بشدة لبناء الكنائس ونعاني من تعسفها حتى هذه اللحظة.
&7- الممارسات الفاشية لجمعية مصر الفتاة وتحولها من جمعية فاشية إلى ما يشبه الحزب الإسلامي.
&8- تحيز القصر والملك في كثير من الأحيان ضد الأقباط نكاية في حزب الوفد.
&
وضع الأقباط بعد الثورة
&كان عبد الناصر يعتقد في أن العدالة والكرامة هي منتهى الحرية ولهذا حاول القيام بدور "المستبد العادل" ولكن مشاركة الأقباط لا تستقيم مع الاستبداد العسكري ولا ينتعش دورهم إلا في الأجواء الليبرالية، فإذا أضفنا إلى ذلك المناخ العسكري انتماء عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة ومن الضباط الأحرار إلى تنظيم الأخوان المسلمين ومن أبرزهم كمال الدين حسين، وحسين الشافعي، وأنور السادات، وحسن التهامي وتأثيرهم على المناخ العام والسياسات في مصر لاتضح على الفور أن هذه الأجواء لا تناسب الأقباط، وأما بالنسبة لعبد الناصر فيقول البروفيسور ادوارد واكين الأستاذ حاليا بجامعة فوردهام بنيويورك في كتابه »أقلية معزولة« والذى صدر عام 1963: "ومن جميع المناسبات التي تعطي انطباعات لاتجاه عبد الناصر ومشاعره تجاه الأقباط يمكن استنتاج قاعدة واحدة وهي أن موقف الأقباط لا يحتل حيزا في محيط اهتماماته. وشعور عبد الناصر نحو الكنيسة عموما ليس شعور كاره لها، ولكنه يعتبر الكنيسة القبطية أمر ثانوي". ومع إلغاء الأحزاب السياسية ورفض القائمين على الثورة ترشيح الأقباط للمجلس التشريعي لم يعد من السهل انتخاب قبطي كما كان يحدث قبل الثورة، ولهذا جاء مبدأ التعيين بدلا من الانتخاب واختيار بعض الوزراء التكنوقراط بدلا من الوزير السياسي في فترة ما قبل الثورة. ومع التهميش الذي حدث للأقباط لجم الخوف الكثيرين من الاعتراض، ففي أواخر عام 1955 كان بعض الكاثوليك المصريين يخططون لتقديم احتجاج فأرسل عبد الناصر رسالة شفوية طبقا لما ذكره ولتون وين مراسل الاستوشيتدبرس يقول فيها: "دعني أؤكد لكم أننا سوف لا نسمح بالتعصب الديني، من أي جهة يصدر، لقد جربه الأخوان المسلمون وانتم على معرفة بما عملناه معهم، ولا يغب عن بالكم أنكم لستم في قوة الأخوان المسلمين". ورغم الحكم العسكري الصارم لعبد الناصر إلا أن أخطر ما تم هو استدعاء الدين ليلعب دور رئيسي وهام، فقد وافق عبد الناصر على وجود وظيفة سياسية للفكر الديني يقوم هو بتوجيهها دعما لسياسته العامة وبما يساعد على تحقيق التعبئة السياسية. إن استدعاء الدين بأدواته المختلفة ليلعب وظيفة كما فعل عبد الناصر أمرا في منتهى الخطورة لأن إرجاع الدين إلى مكانه الصحيح بعد ذلك أمر صعب، وهذا ما حدث بالفعل بعد انكسار مشروع عبد الناصر عام 67. وكما كتب جيي ولز مراسل نيويورك تايمز في ديسمبر 1961 "إن عمامات الأئمة ذات اللونين الأبيض والأحمر الداكن كانت واضحة تماما في قاعة اجتماعات اللجنة، وقد أشار عبد الناصر عدة مرات إلى الاشتراكية على أنها تمارس بواسطة رفاق النبي محمد، ويعتقد بعض المعلقين بأن عبد الناصر يتطلع إلى إتباع ترجمة إسلامية للاشتراكية التي نشأت في أوروبا في أواخر القرن التاسع شعر، والملاحظ خلو مناقشاته من أي إشارة للمسيحيين الأقباط الذين يمثل عددهم وهو أربعة ملايين، سدس سكان مصر". وجاء تبني عبد الناصر للقومية العربية مثيرا لمخاوف الأقباط من أن تنتهي بالحكم الإسلامي، ورغم أن عبد الناصر كان يرى القومية العربية مشروع سياسي يجمع العرب ويوحدهم إلا أن التطبيق الواقعي لم يكن مطابقا للتصور النظري وحول هذا يقول ادوارد واكين: "إن القومية في مصر، كما في أي مكان آخر في الشرق الأوسط كان لها أن تختار أحد أمرين، أما أن تربط نفسها بالإسلام لكي تحصل على المساندة العاطفية والسيكولوجية والإيدولوجية، أو تنصرف إلى إنماءة وطنية تعني بالشئون الدنيوية وتفصل القومية عن الدين، ولقد اختار النظام الناصري الطريق الثاني وذلك من الناحية النظرية وطبقا لما جاء في الدستور، أما من الناحية العملية فإن الزمرة الحاكمة المكونة من مسلمين من الطبقتين الوسطي والدنيا كانت ترى أن الأمة يجب أن تكون داخل أطار إسلامي، وبدلا من مقاومة النظام للتوجه الأسلامي قام بالعمل على توجيه مجراه". يمكن القول بلا شك أن هناك أضرار كثيرة لحقت بالأقباط في عهد عبد الناصر بعضها لم يكن موجه ضدهم بالتحديد وإنما ضد الرأسمالية المصرية بوجه عام وضد الحريات العامة، والبعض الآخر كان ضدهم وقد تم نتيجة تعصب عدد من أعضاء قيادة الثورة وليس عبد الناصر نفسه الذي لم يكن متعصبا وإنما له مشروعه الخاص الذي يراه لصالح كل المصريين، مثل ما قام به كمال الدين حسين من أسلمة مناهج التعليم وما قام به حسين الشافعي وأنور السادات الذي أكمل مشروعه الديني بعد توليه السلطة. على أن ما يؤخذ على عبد الناصر هو اهتمامه بمشاعر مسيحيي سوريا الأقوياء أكثر من اهتمامه بمشاعر الأقباط المسالمين الخانعين. 1- ففي عام 58 ألغي دين الدولة من الدستور الرسمي للجمهورية العربية المتحدة استجابة لرغبة مسيحيي سوريا. 2- قام مسيحيو سوريا بحرق كتاب "محمد الرسول والرسالة" لنظمي لوقا في شوارع دمشق علنا، والذي فرضه على المدارس كمال الدين حسين وتم الاستجابة لغضبهم وتم إلغاء الكتاب من التدريس في سوريا بينما ظل يدرس في مصر وقتها. 3- ألقي عبد الناصر بيانين عن الوحدة الوطنية من دمشق وليس من القاهرة وإرضاء لمشاعر السوريين وليس الأقباط وقال في أحد بياناته: "إني أعتبر نفسي مسئولا عن كل فرد من شعب ج ع م دون تميز فعندما كنا نحارب اليهود في فلسطين، لم تكن طلقات اليهود النارية تفرق بين الجنود المسلمين والمسيحيين، أنني لا أنظر إلى المسيحيين أو المسلمين هنا على أنهم مسيحيون أو مسلمون بل أعتبرهم جميعا مواطنون في الـ ج.ع.م".
&على أن الأقباط يذكرون لعبد الناصر عدد كبير من الإيجابيات منها:
&1- دخول الجامعات عن طريق مكتب التنسيق ورفض عبد الناصر الاختبارات الشفهية لدخول الجامعات حتى لا تحدث تفرقه على أساس الدين.
&2- التعيين عن طريق القوي العاملة.
&3- الترقيات عن طريق الأقدمية.
&4- وجود علاقة ود بينه وبين البابا كيرلس.
&5- لم تغلق كنيسة في الفترة ما بين 52- 70.
&6- قمع بشدة أي تهديد للقيام بأعمال عنف غوغائي ضد الأقباط.
&7- مساهمته في بناء الكاتدرائية المرقسية بالعباسية.
&8- زيارته لمشاهدة ظهور العذراء بالزيتون وبعد التأكد من رؤيتها أصدر الاتحاد الاشتراكي بيانا يؤكد هذا الظهور.
&9- هناك من يرى أن اصطدام عبد الناصر بالإخوان، أجل ظهور الدولة الدينية في مصر عدة عقود وربما نهائيا، ولولا عبد الناصر لكانت مصر إيران أخرى.
&10- لم تبرز أي شكوى طائفية ذات شأن طوال مدة حكمه.
&إن ما أصاب الأقباط بعد رحيل عبد الناصر جعلهم يترحمون على أيامه، وقد دفع الأقباط ثمنا باهظا من أرواحهم وممتلكاتهم من جراء صعود تيار الإسلام السياسي الذي تبناه السادات، ومع توحش هذا التيار وتحوله إلى الإرهاب دفعت مصر كلها ثمنا لهذا الإرهاب الأعمى.
&والآن بعد أن تنفست مصر الصعداء بتراجع الإرهاب الداخلي، تبقى المشكلة الرئيسية للأقباط مع الدولة التي تحرمهم بشكل كبير من المشاركة في إدارة شئون بلدهم، وهم الآن يعانون من أعلى مراحل التهميش منذ ظهور الدولة الحديثة على يد محمد علي، والكرة الآن في ملعب الدولة وأخشى أن أقول أن الخاسر في النهاية من تهميشهم هي الدولة.
&أما الأقباط كما يقول ادوارد واكين: "يتمتعون بقوة احتمال وصلابة الأهرام وإرادتهم وعزيمتهم في أن يحتفظوا بشخصيتهم القبطية تتكرر بشكل لا نهائي خلال تاريخهم القديم والمعاصر وما يحدث لهم فصل في قصة طويلة لشعب، أنهم هناك في مصر، وهناك سيبقون على أنهم "المصريون الأولون" و"المسيحيون الأصليون" أقباط وادي النيل تلك الأقلية المهمومة الصابرة المنعزلة".
التعليقات