ايلاف: بعد استعراضنا في الحلقة السابقة العناصر الأساسية في شخصية أيمن الظواهري، نواصل قراءة محضر التحقيقات الذي يقودنا إلى جوانب أخرى من شخصيته، حيث روى الظواهري قصة علاقته بعبود الزمر الذي كان من أبرز قادة تنظيم "الجهاد" قائلاً:
"قبل حوالي شهرين تقريبا تعرف أحد أعضاء تنظيمي وهو محمد الدميري إلى أحد أعضاء تنظيم عبود الزمر وهو على الأغلب طارق الزمر واتفقا على التعاون التدريجي بين التنظيمين ،وكان من نتائج هذا التعاون أن عبود الزمر قام بتخزين بندقية آلية وبعض المتفجرات لدى أمين الدميري، وحينما احتاج الزمر إلى شقة مفروشة لكي يختبئ فيها بعد هروبه دبر الدميري الشقة، كما دفع مبلغ 800 جنية من أموال تنظيمنا إلى الزمر لكي يشتري بها مكبرات صوت ، إذ كانت خطة عبود بعد اغتيال السادات تتضمن القيام بتظاهرات بواسطة مكبرات صوت في الميادين المختلفة عقب إذاعة بيان كان من المفروض أن يتلى عبر الإذاعة ".
الظواهري والزمر
وأضاف الظواهري "كان اللقاء الأول بيني وبين عبود الزمر يوم 6 أكتوبر 1981 الساعة 10 مساءً ، أي عقب اغتيال السادات بثماني ساعات تقريبا ، حيث توجهت إلى الشقة التي كان يختبئ فيها بمنطقة الهرم وكان معي أمين الدميري وسيد إمام وتوجهنا إليه في سيارة الأخير حيث مكثنا أنا وسيد إمام في السيارة أمام المنزل وصعد الدميري إلى الشقة وأحضر الزمر ودار بيني وبينه نقاش حول مسألتين :الأولى : هي الاكتفاء بما تم من واقعة الاغتيال وعدم تصعيد الأمور إلى صدام مسلح مع الحكومة .
والثانية: مسألة معرفته بالضابط السابق عصام الدين القمري ، وعما إذا كان بين الأشخاص الذين نفذوا اغتيال السادات شخص يدعى جمال راشد ، فأجاب الزمر أنه لا يعرف القمري أو راشد ، وأكد أن الذين نفذوا الاغتيال أشخاص يتبعونه مباشرة .
وتقابلت مع عبود الزمر بعد ذلك ثلاث مرات ، إحداها كانت بعد اللقاء الأول بيوم أو يومين ، وكان معي أمين الدميري وعصام القمري ، والتقينا في سيارة الدميري خارج الشقة التي كان يختبئ فيها ، وسأله القمري عما إذا كانت لديه خطة لضرب أبرز الشخصيات المقرر أن تحضر جنازة السادات، مضيفاً أنه سمع بذلك الأمر، فقال الزمر أنه يفكر في هذا الموضوع، وسيخبره إذا اكتملت عناصر الخطة بكافة تفصيلاتها .
أما اللقاء الثاني فكان يوم 11 أكتوبر داخل شقته وكان معي أمين الدميري ، ودار الحديث بيننا عن عملية أسيوط وما جرى خلالها . وأذكر أنني قلت له أن عملية الهجوم على مديرية الأمن في أسيوط خسائرها أكبر من فوائدها واتفقنا مع عبود على أن نلتقيه في اليوم التالي ومعنا عصام القمري لأن عبود كان طلب من القمري عشر قنابل يدوية ومسدسين في اللقاء السابق . وفي اليوم التالي أحضر القمري القنابل وذهبنا إلى عبود والتقينا في شقته . وخلال اللقاء سلم كلاً من أمين الدميري وعصام القمري بعض المتفجرات وهي عبارة عن أصابع ديناميت وفتيل تفجير وأكثر من مفجر ، وسلم القمري أيضا علبتين صغيرتين داخلهما طلقات من عيار 6و7و9 ملم وشرح عبود فكرة القنابل اليدوية التي يصنعها وطريقة استخدامها ".
شهادة حبيب
* وعن ملامح هذه الحقبة يتحدث الصحافي والباحث كمال السعيد حبيب الذي سجن عشر سنوات بعد إدانته في القضية ذاتها قائلاً :
"لم عرف أيمن الظواهري إلا في العام 1981 ، كنت أسمع به ، ويسمع بي ، لكن لم أكن قد قابلته شخصياً من قبل .. لأني كنت في مجموعة "سالم الرحال" الذي كان يتجول في مجموعات جهادية مغلقة .. وفي فترة من الفترات تعرفت على عصام القمري الذي كان ضابطاً في الجيش برتبة رائد ، وكان أيمن الظواهري في مجموعته .. التي كانت مغلقة أيضاً ، ولها تراث من السرية والعمل الحركي الصارم ، وكانت تضم إسماعيل طنطاوي ومحمد عبد الرحيم الشرقاوي ونبيل البرعي ، وهذه المجموعة بدأت تتكون منذ أواخر الستينات ، تحديداً عام 1967 ، وليس في السبعينات كما يعتقد الكثيرون" .
ويمضي حبيب في روايته أو بالأحرى شهادته الهامة عن هذه المرحلة فيقول :
"بدأت هذه المجموعة تتلقى الأفكار السلفية في إطار جماعة أنصار السنة التي كان يديرها الشيخ مصطفى الفقي الذي تتلمذوا على يديه .. وبقيت هذه المجموعة مغلقة على نفسها وتبحث في أمور العقيدة باعتبارها محوراً لمنهجها الفكري ، وعندما ظهرت مجموعة الكلية الفنية العسكرية لم تشترك معها مجموعة القمري ، بخلافات وتحفظات حول جماعة الفلسطيني صالح سرية ، ثم اندلعت حرب أكتوبر 1973 وكان لعلوي شقيق استشهد في الحرب وطرح سؤال حول ما إذا كانت هذه الشهادة صحيحة أم لا ، وكانت الجماعة تتبنى فكرة الانقلاب العسكري باعتباره الحل الأكثر شرعية لأنه أقل دموية من الثورات الشعبية ، وأقول الآن للتاريخ معلومة جديدة على الجميع أن الضابط عصام القمري التحق بالكلية الحربية وهو معتنق بالفعل لهذا الفكر الجهادى ".
وحول سلوك الظواهري خلال سنوات السجن التي قضاها معه يقول كمال حبيب :
"في السجن كنت التقي به كثيراً في المحكمة أثناء الجلسات ، وهو شخص هادئ ، لا يتحدث كثيراً& له فكر استراتيجي حركي واضح ، أكثر من كونه مفكراً أو صاحب اجتهادات فقهية أو حتى طالب علم ، ولم يكن يزعم أنه ضليع في العلوم الشرعية أبداً ".
التحقيق الوحيد
وتتسق شهادة كمال حبيب تماماً مع ما انتهت إليه نتائج التحقيقات في قضية الجهاد الكبرى التي أصبحت واحدة من أهم وثائق التاريخ المصري فحسب ، بل وتاريخ الحركات الأصولية في المنطقة بأسرها ، لننقل منها ذلك الحوار الذي دار بين المستشار ماهر الجندي رئيس نيابة أمن الدولة المصرية حينئذ ، (ومحافظ الجيزة السابق في ما بعد) وأيمن الظواهري ، الذي يرد على سؤال عن بداية اهتمامه بالقضايا الدينية قائلاً& :
-كان ذلك في المرحلة الثانوية سنة 1965-1966 حيث بدأت أقرأ العديد من الكتب الإسلامية ، وعقب حوادث جماعة "الإخوان المسلمين" عام 1965 بدأ بعض الناس يحدثني عن ضرورة تجمع الشباب المسلم ، والعمل في جماعة ، فاقتنعت بهذه الفكرة.
ومتى بدأت لديك فكرة العمل التنظيمي السري ؟
-خلال 1966-1967 تقريباً .
ومن الذي فكر في إنشاء التنظيم؟
-كان معنا طالب اسمه عادل العياط فكر في إنشاء التنظيم ثم قمت أنا وإسماعيل طنطاوي وسيد حنفي وعادل العياط بتكوين التنظيم إلا أن العياط انسحب منه مبكرا.
وكيف كان يتم تجنيد أعضاء تنظيمكم؟
- عن طريق الدعوة المباشرة والاتصالات الشخصية .
أين كانت تعقد الاجتماعات؟
- في منازل الأعضاء وفي بعض الأحيان كان اللقاء يعقد في المساجد المختلفة كمجرد مكان للالتقاء ثم نتوجه منه إلى حديقة عامة أو منطقة هادئة في الكورنيش.
من كان يدعو إلى هذه الاجتماعات ؟
- نظرا إلى أن التنظيم كان صغيرا وكنت أنا المشرف على كل شئ فيه، لم يكن هناك شخص محدد يدعو إلى هذه الاجتماعات.
ما مفهوم الجهاد في رؤية هذا التنظيم ؟
- مفهوم الجهاد كما استخلصناه يبدأ بإزاحة الحكومة ومقاومتها وقلب النظام القائم.
هل أعددتم الوسيلة الكافية للقيام بهذا الغرض ؟
- نحن سعينا إلى ذلك وكان أمامنا مشوار طويل لم نبلغه لأن إمكاناتنا لم تصل بعد إلى تحقيق هذا الغرض .
كيف علمت بواقعة اغتيال الرئيس السادات؟
- كنت في منزل سيد إمام وحضر إلينا أمين الدميري الساعة التاسعة صباح يوم الحادث وأبلغني أنه توجد عملية مدبرة أثناء العرض العسكري لاغتيال السادات وقال إن ثلاثة أشخاص سيشاركون في العرض سينفذون العملية وأنهم من ضمن مجموعة عبود الزمر .
هل أبلغك كيف علم بهذا الموضوع؟
-نعم ، قال لي أن أحد أعضاء تنظيم عبود الزمر لا أعرفه وهو على الأغلب طارق الزمر حضر إليه مخبر في نفس اليوم وأبلغه ذلك . وقال لي الدميري أن عملية الاغتيال سيعقبها تلاوة بيان بالراديو ومظاهرات في الميادين الرئيسية.
وماذا فعلت بعد إبلاغك بهذا الأمر ؟
-في الحقيقة أصابني شعور بالدهشة والارتباك ، وأبلغني الدميري أنهم يريدون أي مساعدة نستطيع تقديمها إليهم ، فقلت له ماذا نستطيع أن نفعل؟ هل نضرب طلقات في الشارع ليقبض الأمن المركزي علينا ؟ نحن لن نفعل شيئاً وننتظر لنرى ماذا سيحدث.
وخلال العرض العسكري كنت أفحص مريضا في المعادي ووجدت العرض العسكري "شغال" فاعتقدت أن العملية فشلت وأنه قبض على المجموعة التي تنوي تنفيذ العملية .
ثم عدت إلى زيارة شقيقتي فأبلغتني أن العرض قطع وأذاع المذيع أن الرئيس غادر العرض بسلام ، فعلمت أن عملية الاغتيال أو الهجوم على الرئيس تمت وعرفت من الإذاعة بعد ذلك نبأ موت الرئيس ولم أسمع أية أخبار& بحدوث اضطرابات أو مظاهرات.
شهادة الزيات
* انتهت الوثيقة التي تهمنا في هذا السياق من تحقيقات الجهاد 1981 ، والتي تجاوزت بضع عشرات الآلاف من الأوراق ، ولكن بقيت تساؤلات عن فترة سجنه، ثم أنشطته قبل أن يغادر مصر نهائياً في العام 1985، وفي سبيل تدقيق تلك المرحلة سألنا محاميه منتصر الزيات الذي سُجن معه ثلاث سنوات في زنزانة واحدة، قبل أن يتولى الدفاع عنه، وعن غيره من المتهمين من أعضاء تنظيمي "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد"، وهنا يروي الزيات القصة:
"قابلته للمرة الأولى في سجن ليمان طره بعدما اتهمنا معا في القضية رقم 462/81 إثر اغتيال السادات وأمضينا معا ثلاث سنوات داخل أسوار السجن وأهم ما كان يميزه الهدوء والاتزان ، لكنه كان في الوقت نفسه صارما واتخذ موقفا حازما من مسألة ولاية الدكتور عمر عبد الرحمن والاتحاد الذي نشأ بين الجهاد والجماعة الإسلامية ، قبل اغتيال السادات ، وكان يعارض بشدة ولاية عمر عبد الرحمن على تحالف جماعتي (الجهاد والجماعة الإسلامية) ، وكان له رأيه الخاص في هذه القضية ، وكثيرا ما كان يتحدث إلى عبد الرحمن الذي تنازل عن الإمارة لكي يحقن الدماء ويوحد الصفوف ".
ويمضي الزيات قائلاً: "كنا نعلم أنه طبيب وجراح ماهر، وبعد خروجه من السجن عام 1984 مارس حياته بشكل طبيعي وعمل في عيادته بالمعادي، إلا أننا كنا نشعر بأنه يعقد العزم على مغادرة مصر وأنه عكف على درس أخطاء الماضي ووضع تصورات للمستقبل".
أيام بيشاور
انتهت محاكمة الظواهري في القضية المشار إليها (الجهاد الكبرى 1981) ، إلى إدانته بالسجن ثلاث سنوات قضاها ثم أفرج عنه ليعود ـ كما يقول خاله محفوظ عزام المحامي المعروف ـ إلى ممارسة حياته بشكل طبيعي ، ويفتتح عيادته الكائنة في شارع 77 في حي المعادي بالقرب من مسكن أسرته حيث أقام مع زوجته التي كان تزوجها عام 1979 ، حتى يغادر مصر عام 1985 إلى مدينة بيشاور في باكستان ليعمل في بداية الأمر كطبيب يعالج جرحى "المجاهدين" ممن اصطلح على تسميتهم لاحقاً بالأفغان& لعرب .. ويبدأ فصل جديد ، عندما افتتح الظواهري مركزاً خاصاً بتنظيم الجهاد في بيشاور تحت مسمى "مكتب الجهاد الإسلامي" ، وذلك في عام 1987 ، ثم أصدر مجلة شهرية تحمل اسم "الفتح" ، وتعرف على أسامة بن لادن وأعوانه ، وساهم عبد الله عزام الذي بدا مقتنعاً به للغاية ، في إقناعهم بشخص الظواهري وقدراته الحركية ورؤيته التنظيمية ، ونظريته في توظيف ساحة الجهاد الأفغاني لتدريب كوادر عربية ، تمهيدا لإعادة تصديرهم لبلادهم مرة أخرى لتحريرها من "الطواغيت" على حد تعبير عزام& .
وفي هذه الأثناء كانت مدينة بيشاور الحدودية مع باكستان قد تحولت إلى أكبر سوق حرة لصناعة وتصدير العنف ، وكان الظواهري قد وطد علاقته مع بن لادن الذي قدمه للقادة الأفغان مثل حكمتيار وسياف ومؤخراً حركة طالبان بوصفه أحد قادة "المجاهدين المصريين" الذين توالى قدومهم للساحة الأفغانية ، وأنه يمتلك فكراً استراتيجياً رفيع المستوى ، وسمح له بإنشاء دار ضيافة للقادمين العرب أطلق عليها حينئذ "بيت القاعدة" ، ومنها اكتسب اسم التنظيم الشهير الآن ، وراح يستقبل آلاف الشباب القادمين من كافة البلاد العربية ، لتكون محطتهم الأولى قبل دفعهم لجبهة القتال .
في هذه الأثناء كان هناك الشيخ الفلسطيني عبد الله عزام الذي قتل مع اثنين من أبنائه في عملية اغتيال لا يزال يكتنفها الغموض حتى الآن ، وتثور حولها التكهنات التي ذهبت بعضها لحد اتهام أسامة بن لادن في هذه المجزرة ، وقيل في سبيل تبرير ذلك حتى لا ينافسه عبد الله عزام الذي كان يطلق عليه حينئذ "أمير المجاهدين" وهو الأمر الذي اتفقت كافة الأطراف على عدم صحته ، ولم يزل لغزاً حتى اليوم ، وقد لعب عزام دورا قوياً في تعزيز الظواهري ودعمه مالياً ومعنوياً ، وتقديم التسهيلات له من قبل القادة الأفغان ، وقبل أن يستقر الأمر للظواهري في بيشاور عندما كان يمارس دوراً بسيطاً& معاوناً كطبيب يعالج المجاهدين الذين كانوا يخوضون حينئذ المعارك داخل الأراضي الأفغانية حول مدن جلال أباد وخوست وجاجي ، لكن صلة الظواهري بابن لادن كانت بمثابة نقطة تحول في حياة الاثنين معاً ، وربما ثالثهما أيضاً "عزام" .
*وما حدث بعد ذلك هو أن أسامة بن لادن‏ قد اشترك مع الظواهري في تأسيس ما يعرف بـ " الجبهة العالمية لتحرير المقدسات",‏ وكان يعاون الظواهري حينذاك في مجلس شورى مجموعة من قيادات "تنظيم الجهاد" وهم :‏ عادل عبد القدوس‏ وعبد الله محمد رجب‏‏ واحمد سلامة مبروك‏ ‏ومرجان مصطفي سالم‏ وثروت صلاح شحاتة‏,‏ وشقيقه محمد ربيع الظواهري‏ ,‏ ونصر فهمي نصر‏ وغيرهم ممن ألقي القبض على العديد منهم أو سلمتهم أجهزة أمن دولية للحكومة المصرية لاحقاً، وتتوطد صلة الظواهري مع اسامة بن لادن‏ لحد نقطة "المصير المشترك" ‏,‏ كما سنأتي على هذا الأمر تفصيلياً في ما بعد .
الظواهري وابن لادن
يقول منتصر الزيات محامي الظواهري إنه من واقع معرفته الشخصية به ، لم يكن ليقبل ان يكون الرجل الثاني في أي جماعة أو منظمة ، لكنه ارتضى أن يكون نائباً لابن لادن في الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين ، الشهيرة بالقاعدة ، لأنه أيقن أنه سيكون المحرك الاول للجبهة، وأن ابن لادن لن يعارض ما سيـبـديه من آراء واقـتراحات.
هذه الشهادة على بساطتها ، تؤكد على حقيقة مفادها أن أيمن الظواهري كان ، ولم يزل ، بمثابة العقل المفكر ، والمخطط الاستراتيجي لهذا الكيان الذي موله وارتبط به ابن لادن ، وصار رمزاً له ، لدرجة أربكت أجهزة الأمن الدولية والعربية ، وتسببت في إساءة تقديراتها حول حقيقة دور الظواهري ، وربما بالغت كثيراً في قدرات ابن لادن .
وكما أسلفنا تعود بداية علاقة الظواهري بأسامة بن لادن منذ الثمانينات ، لكنها توطدت في الأيام الأخيرة للحرب الأفغانية ، وتحديداً مع بداية انفراط عقد من اصطلح على تسميتهم بـ"الأفغان العرب" ، وإثر نشوب خلافات بين قادة المقاتلين الأفغان فضل الكثيرون من العرب العودة إلى بلادهم ، لتلقي أجهزة الأمن المصرية القبض على 800 شخصاً ، اتهموا حينئذ بأنهم يشكلون تنظيماً مسلحاً يحمل اسم "طلائع الفتح" ، وقصة هذا التنظيم يرويها المتهم الأول في قضية محاولة اغتيال رئيس الوزراء المصري الأسبق عاطف صدقي ، وهو السيد صلاح سليمان ، في أقواله أمام نيابة أمن الدولة قائلاً :
"بدأت قصة من يطلق عليهم "الأفغان العرب" عندما التقى الظواهري مع شاب مصري يدعى عدلي يوسف ويكنى "بصهيب المصرى" والذى لم يكن عمره يتجاوز العشرين عاماً حينما وصل بيشاور قادماً من إحدى قرى مركز بنى مزار بالمنيا ، وإنضم للمجاهدين الأفغان ، وأصبح لاحقاً ضابط الاتصال بين القادة الأفغان والقادمين العرب الجدد إلى بيشاور ، ثم مدرباً لقن آلاف العناصر الأصولية دروساً ميدانية في طرق استخدام الأسلحة والتعامل مع المتفجرات وقواعد الطبوغرافيا العسكرية وحرب المدن ، ثم عاد عام 1985 إلى مصر بتكليف من الظواهري ، وتمويل من ابن لادن ، ليدعو المزيد من شباب صعيد مصر ، خاصة في جامعتي المنيا وأسيوط ، للسفر إلى أفغانستان للجهاد ، وقد استجاب له المئات حينئذ ، وكان في مقدمتهم طلعت فؤاد قاسم الشهير بلقب (أبو طلال القاسمي) والذي كان حينذاك يبلغ من العمر 34 عاماً ، وقد تخرج في هندسة المنيا ، وشملته قائمة الاتهامات في قضية الجهاد الكبرى 1981 ، حيث كان ترتيبه الحادي عشر ، أي يسبق الظواهري في لائحة الاتهام ، وصدر ضده حكم بالسجن سبعة أعوام تمكن بعدها من الهرب عام 1988 إلى السودان ، ومنها إلى صنعاء& ثم كراتشي مروراً بدبي ، حتى استقر به المقام أخيراً في محطته المنشودة "بيشاور" ، وهناك نافس غريمه الظواهري على ثقة بن لادن ، واستطاع في شهور قلائل أن ينشئ دار ضيافة أفضل من تلك التي كان قد أسسها الظواهري ، وأطلق عليها "بيت الأنصار" وأصبح في خندق المنافسة مع جماعة الظواهري بشكل صريح ، ثم ما لبثت هذا المنافسة أن تحولت إلى صراع مكتوم أخذ يفصح عن نفسه شيئاً فشيئاً مع توافد المزيد من القادمين الجدد من مصر والبلاد العربية ، الذين انضوى معظمهم تحت لواء طلعت فؤاد قاسم ، مثل محمد شوقي الاسلامبولي الذي سبقته سمعته كأخ لخالد الإسلامبولى قاتل السادات ، ثم مصطفى حمزة وطلعت ياسين همام وآخرين لبيت الأنصار الذي كانت تديره "الجماعة الإسلامية" المصرية .
وعقب إصدار مؤسسي بيت الأنصار "الجماعة الإسلامية" مجلة "المرابطون" ، أصدر الظواهري وجماعة الجهاد مجلة "الفتح"، وتصاعد الخلاف بين الجماعة والجهاد لحد إصدار الفتاوى ، وأعمال العنف المتبادل ،وهو الأمر الذي دفع الظواهري ومكاوي للبحث عن محاور جديدة ومحطات بديلة ومن هنا كانت المحطة السوادنية& واليمنية .
حصار ابن لادن
وهنا سألنا الزيات عن معلوماته عن تلك المرحلة التي شهدت منافسة بين التنظيمين الأبرز في مصر (الجماعة الإسلامية والجهاد) ، على أرض أفغانستان واليمن وغيرها ، فيقول الزيات:
أيمن سافر من مصر أواخر 1985 ورفعت له قضية في مجلس الدولة هو وأمين الدميري وحصلت على حكم قضائي بوقف تنفيذ قرار وزير الداخلية بمنعهم من السفر ، وسافر أيمن الظواهري في ذلك الوقت وقبل لأن يسافر بيوم كنت معه وقال لي أنه مسافر وسافر إلى جدة ، وكان قد تعاقد للعمل في مستوصف أبن النفيس هناك ، وقابلته مرتين خلال العامين 1985-1986 في جدة ، ثم سافر أواخر 1986 إلى بيشاور كطبيب في قوافل الإغاثة ، وهناك تعرف على أسامة بن لادن وعبد الله عزام وبدأ يعيد تنظيم صفوفه ويعيد تنظيم أوراقه وفتح أول معسكر هناك كان لحركات جهادية مصرية ، وأيمن الظواهري ساعد الجماعة الإسلامية بأن يكون لهم معسكرهم الخاص لكن علاقة& الظواهري بأسامة بن لادن بدأت منذ ذلك الوقت حيث كان أسامة بن لادن مجرد شاب ثري يتعاطف مع الجهاد الأفغاني ، ويجهز القوافل بالمال ، ويفتح بيوت الضيافة للمجاهدين العرب ، ثم راح الظواهري يلقنه فكر تنظيم الجهاد ، ومنهجه الحركي تدريساً ، حتى تشبع بفكر جماعة الجهاد وشارك في العمليات الجهادية بنفسه ، كما حاصر الظواهري بن لادن بمجموعة من رجاله الذين أصبحوا أقرب معاونيه ومستشاريه ، وبالتالي أصبح الظواهري هو المسيطر& على كل خيوط اللعبة ، فبعد أن حاصره بأبي عبيده البنشيري الذي غرق في بحيرة "فيكتوريا" شرق إفريقيا منذ 1998 ، وأبو حفص المصري (أبو سنه) ، وهو الذي تطلبه أميركا بصفته الساعد الأيمن لابن لادن ، وأنا أقول أنه من خلال هذه الشبكة من المعاونين ، ومعهم سعيد سلامة الذي يعد المسئول الاقتصادي لمشروعات ابن لادن ، وكل هؤلاء من جماعة الجهاد ، وبهذه الطريقة سيطر الظواهري تماماً على ابن لادن فكرياً ومالياً ، وأصبح القسط الأكبر من الدعم الذي يوجهه بن لادن يذهب إلى الظواهري وبالتالي إلى "جماعة الجهاد" ، في حين أنه كان يوجه أو يدعم الجماعة الإسلامية بالفتات القليل ، وأصبحت علاقته لا حدود لها بالظواهري في حين أن علاقته بالجماعة الإسلامية ظل يشوبها قدر من التحفظ" .
ونبقى مع الزيات ، فنسأله :
-هل يفسر هذا الدعم المالي الكبير الذي تلقاه الظواهري عوض الحجم القليل نسبياً في جماعة الجهاد مقارنة بالحجم أو القاعدة الشعبية العريضة للجماعة الإسلامية أي أنه عوضها رأسياً بالأفقي ؟
=تماماً .. فحجم الدعم الذي كانت جماعة الجهاد تتلقاه من أسامة بن لادن كان كبير ولذلك الحالة المادية لتنظيم الجهاد أكبر والإنفاق على العناصر وتجهيزهم كان أكبر وكان ذلك ينعكس ، فكان أيمن تخطيطه بعيد المدى فأيمن أسس مشروعات اقتصادية كبيرة في أماكن متعددة من العالم في دول عربية وأفريقية سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المؤسسات لينفق منها على حركته إذا انقطع الدعم المالي وهذه ميزة عند أيمن ويمكن القول أنه حتى هذه اللحظة هناك مشروعات ومؤسسات يساهم فيها بجزء كبير أو هي خالصة له عن طريق الأفراد وهي مشروعات تدر له دخل حتى هذه اللحظة.
محور الخرطوم ـ صنعاء
بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا ، كان لابد من انتقال قيادة جماعتي الجهاد والإسلامية من السودان إلي أفغانستان‏ واليمن مرة أخرى , وما حدث أنه لم يرق للظواهري مسلك قادة الجبهة السودانية معه ومع جماعته ، وشعر بأنهم يسعون لسحب البساط من تحت قدميه ، فأوعز لنائبه محمد مكاوي بالتحالف مع "الأفغان اليمنيين" الذين أبرموا معه اتفاقاً يقضى باستضافة أعداد من جماعته على دفعات حتى لا يثير الأمر شبهه السلطات الرسمية هناك وأطلق الظواهري على المجموعات التي أخذت تتدفق على صنعاء "طلائع الفتح" نسبة لمجلة "الفتح" التي كان يصدرها التنظيم في بيشاور.
وفي المحطة اليمنية جرت مياه كثيرة ، واشتبك قادة المنظمات ورموزها مع بعضهم البعض ، فلم تكن صلة تنظيم "القاعدة" ، بكل ألوان الطيف فيه ، تنحصر في اعتبار اليمن ملاذاً آمناً فحسب ، بل كان أسامة بن لادن ـ الحضرمي الأصل ـ قد أسس هناك مشروعات اقتصادية كبيرة ، وحسب مسئول كبير سابق في جهاز مباحث أمن الدولة المصري ، فإن المشروعات التي أنشأها ابن لادن في اليمن كانت أقل كثيراً قياساً بتلك التي أسسها في السودان ، لكنها في النهاية لم تكن قليلة الشأن ، وكان أيمن الظواهري مخولاً بالتصرف في إدارتها ، وهو ما أنكرته أجهزة الأمن اليمنية بشدة ، لكن المسئول الأمني السابق اضطر حينئذ للإفصاح عن معلومات تفصيلية مفادها ، أن مساعداً لأسامة بن لادن قد وصل إلى اليمن في العام 1999، بعد أن أصبح دخول الظواهري إلى صنعاء مغامرة غير مأمونة العواقب، وأجرى مساعد ابن لادن لقاءات مع بعض قيادات حركة الجهاد الإسلامي في اليمن بهدف إعادة ترتيب صفوف الحركة، والوقوف على متطلباتها البشرية والمادية، خاصة بعد أن تعرضت لضربات موجعة من جانب أجهزة الأمن اليمنية.
وكشف المسئول الأمني السابق عن اسم مساعد بن لادن الذي يدعى المعز لله الحلالي وأنه& ليبي الجنسية ، وربط بينه وبين اعترافات أبو الحسن المحضار ، زعيم ما يسمى بجيش عدن أبين الإسلامي ، أثناء محاكمته باليمن التي انتهت إلى إعدامه ، من وجود علاقة وثيقة تربطه بابن لادن ، وأن المسئول عن ملف اليمن هو الظواهري وأعوانه من المصريين ، وأن الأزمات التي عانى منها التنظيم الجهاد كانت بسبب خلافات جرت على الساحة اليمنية ، واتهامات متبادلة بين أتباع الظواهري بالاختلاس ، حتى وصلت الاتهامات إلى الظواهري ذاته بأنه تسبب في سقوط المئات من أعضاء التنظيم في قبضة الأمن المصري بسبب سوء تقديراته ، وانفراده بالرأي كما يقول المسئول الأمني السابق
تثوير المدن
وحتى تكتمل الصورة ننتقل إلى أقوال المتهم الأول في قضية محاولة اغتيال د. عاطف صدقي ، وهو السيد صلاح سليمان ، والذي كان قد تولى عملية إعداد تشغيل الدائرة الإلكترونية لجهاز الريموت كنترول لتفجير العبوة الناسفة التي وضعت داخل السيارة من طراز "أوبل" التي كانت قد استخدمت في اعتراض موكب رئيس الوزراء المصري الأسبق ، فيقول أن مجموعته من طلائع الفتح كانت تسمى بطليعة "جند الله" والتي كان يتولى إمارتها نزيه نصحي راشد الذي لقي مصرعه إثر قيامه بتفجير نفسه في عملية انتحارية استهدفت اغتيال حسن الألفي وزير الداخلية السابق ، ويضيف السيد سليمان أن هذه المجموعة كانت قد تلقت تدريبات مكثفة داخل الأراضي الأفغانية على استخدام الأسلحة القتالية كالدبابات والصواريخ المضادة للطائرات وللدبابات ، وعمليات إزالة الألغام وزرعها ، ثم انتقلوا إلى صنعاء فأقاموا بعدد من المعسكرات المتاخمة للمناطق الجبلية كمعسكر بدر والقادسية والمراقشة ، وهناك تلقوا تدريبات من نوع آخر تتمثل فى الأمور الفنية لحرب العصابات كاستخدام الأسلحة الدفاعية والهجومية الخفيفة مثل الكلاشينكوف والمسدسات سريعة الطلقات والتعامل مع المتفجرات وأجهزة "Timer" ، والتحكم من بعد "ريموت كنترول" وكان يتولى عمليات التدريب هناك أشخاص تحيطهم هالة من الغموض حول هويتهم أو أسمائهم - وفقا لاعترافات ورواية المتهم - الذي أكد أنهم لا يستخدمون أسماءهم الحقيقية مطلقاً ، بل لكل منهم كنية "اسم حركي" ، وقد لا يفصح حتى لأطفاله الصغار عن اسمه الحقيقي .
وهكذا تعددت الأفواج التي دفع بها الظواهري داخل مصر ، وتكررت عمليات القبض عليهم حتى تجاوزوا الألف ، الأمر الذي اضطرت معه السلطات لتقسيمهم إلى أربع مجموعات قدمت جميعها إلى المحاكمة العسكرية في قضايا منفصلة صدرت فيها أحكام بإعدام& بعضهم وسجن آخرين ، وهنا تجدر الإشارة إلي عملية ضبط هذا التنظيم المعروف بجماعة "طلائع الفتح" والذي وقع في قبضة أجهزة الأمن المصرية من دون إطلاق رصاصة واحدة ، وتم تقسيمهم إلى أربع مجموعات حوكمت وأدينت أمام القضاء العسكري وقضى فيها بإعدام مجدي سالم وعبد الحميد حب الله ، وسجن المئات .
يتبع ، نتناول في الحلقة القادمة والأخيرة معركة "العقيد والدكتور"، وكل رجال الظواهري، ودراما عائلته.
&