&طارق الحارس
&
&

&
سألني مذيع اذاعة العراق الحر في لقاء أجرته معي هذه الاذاعة، كنت حينها أعيش بالأردن، سألني عن ذكرياتي عن العيد وكيف أقضي وقتي هنا في أيام العيد وكيف كنت أقضيه هناك بالعراق الذي كانت العودة اليه في ظل الحكم الفاشي مستحيلة جدا.
لم أتحدث طويلا عن العيد في الغربة فلا ذكريات لي عن العيد بالرغم من مرور أكثر من عشرة أعياد علي فيها. تحدثت عن العيد هناك في بلدي تذكرت أيام الطفولة البريئة، تلك الأيام التي لم يكن صدام قد وصل فيها الى سدة الحكم، وهي الأيام التي لم أكن فيها أميز بين الدكتاتورية والرأسمالية والاشتراكية وغيرها من المصطلحات السياسية. كنت فيها أنتظر جالسا أمام شاشة التلفاز متى تغني أم كلثوم أغنية ( ليلة العيد )، هذه الأغنية التي منها فقط أفهم أن العيد قد وصل الى بيتنا. أهرع بعد سماعي هذه الأغنية الى خزانة الملابس لأخرج بدلتي الجديدة التي اشتراها لي أبي وأضعها جنب سريري منتظرا صباح اليوم التالي، يوم العيد الذي كنا بعد أن نستلم (عيديتنا ) نذهب الى مكان العيد، فللعيد أمكنة خاصة كنا نقضي فيها وقتا طويلا نعود بعد ذلك الى بيوتنا حيث ننتظر الزوار الذين كانوا يأتون الى بيتنا ليباركوا أهلنا بمناسبة حلول العيد، أما نحن فقد كنا ننتظر هؤلاء الزوار لكي يمنحونا عيديتنا.
كبرنا، لكن للأسف كبر صدام معنا ليجعل طعما جديدا لأيام العيد، طعما مرا، فلم نعد ننتظر أم كلثوم ولم نعد نذهب الى مكان العيد. لقد تغير الحال، لم يكن السبب أننا كبرنا على هذا المكان فقد كان هناك أطفال، لكن مكان العيد هو الذي لم يعد هناك. لقد تغير الحال، فقد أصبح اليوم الأول من العيد مخصصا لزيارة القبور، قبور الآباء والأبناء الذين أما أن يكونوا قد ذهبوا ضحية لحروب الطاغية أو ضحية اعدامات الطاغية وهكذا كنت ترى المقابر وقد امتلأت بالناس فعدد الموتى كبير جدا وكيف لا يكون كذلك الحال والجلاد كان يستمتع بالقتل والحروب.
في اليوم الثاني من أيام العيد كنا لا نستطيع أن نقول لبعضنا ( عيدكم مبارك ) أو ( كل عام وأنتم بخير )، كيف نقولها ودموع أمسنا مازالت واضحة في عيوننا، بل أن بعضها لازال على الخدود.
شخصيا كنت أخجل من أقولها لوالدتي التي كانت يوم أمس تبكي بين القبور باحثة عن قبر لابنها الذي أعدمته السلطة الفاشية ولم تسلم جثمانه لها.
حقا، كان الخجل يمنعنا من قول ذلك، وهكذا يمر اليوم الثالث لتنتهي أيام العيد، تلك الأيام التي يفرح بها المسلمون في أنحاء الأرض كلها، الا نحن أهل العراق.
اليوم، وصل العيد الى بيتنا بطعمه القديم، فلقد غنت بالأمس أم كلثوم أغنية ليلة العيد ولقد سمعناها بطعمها القديم، فقد تخلص أهل العراق من الكابوس، تخلص أهل العراق من الجراثيم التي جثمت على صدورهم وقلبت أيامهم الى جحيم حتى أيام العيد منها.
إذن هذا هو أول عيد يمر علينا بعد الخلاص لذا سأقول لأمي في قبرها، ستسمعني حتما، ولأخي في المكان الذي دفن فيه، ان كان هناك مكان لجثمانه سأقول لهما:
عيدك مبارك يا أمي، لقد تحررنا من الطغاة، اطمئني فأن أولادك الآخرين بخير ينامون في فراشهم فلا سلالم تتسلق السطوح منتصف الليل، لقد ذهبوا اليوم الى الجامع دون خوف، فلا رقيب يترصد حركاتهم وأنفاسهم، أما عن زيارة القبور في اليوم الأول من العيد فلقد ذهب الجميع الى هناك، لكن ليس للبكاء، فقد ذهبوا ليباركوا لكم فهذا أول عيد يمر عليكم وعلينا بعد الخلاص من الطغاة الأنذال، فهنيئا لمن زار قبرك في هذا اليوم المبارك، أنا زرتك أيضا يا أمي، لكنني الوحيد الذي بكيت فحسرتي كبيرة لأنني لم أودعك في يوم وفاتك ولم تسنح لي الفرصة في دفنك، لقد زرتك من غربتي البعيدة وقرأت سورة الفاتحة على روحك الطاهرة.
أما أنت يا أخي فنم قرير العين أينما كنت فكل أرض العراق طاهرة، لا تقلق على أولادك فقد ذهبوا ليلعبوا مع الأطفال في مكان العيد، أتتذكره؟
تتذكر عندما كنا نسمع أغنية أم كلثوم ( ليلة العيد ) في ليلة العيد، أتتذكر كيف كنا نحضر ملابس العيد التي اشتراها لنا والدنا وننتظر قدوم الصباح لنذهب الى مكان العيد. لقد عاد يا أخي هذا المكان والأطفال اليوم هناك يلعبون.
جميع الأقارب والأصدقاء حضروا اليوم ليباركوا لهم العيد وأعطوهم العيدية، العيدية التي زادت عن عيدية أقرانهم فهم أبناء الشهيد.
أما أنتم يا أهل العراق فعيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير فهذا هو أول عيد يمر عليكم بعد أن أنقذكم الباري عز وجل من المجرم صدام.
اللهم عده على هذا البلد وعلى شعبه بالخير والبركة فالذي ذاقوه لم يذقه شعب في الكرة الأرضية كلها.

كاتب عراقي مقيم في استراليا
[email protected]