&
في الخطاب الأميري في بداية دور الانعقاد الحالي لمجلس الأمة حدد الشيخ صباح الأحمد رؤية واضحة لما يراه من مثالب تعتري النظام الديموقراطي والبرلماني الكويتي وما يراه بيت الحكم من مثالب اعترت الحياة النيابية. وهي تتلخص في اربع ظواهر: مسألة النقد الهدام من دون دليل أو برهان، وتفشي ظاهرة الشحن السياسي المعيق للعمل الحكومي، والاستقطاب الحزبي والطائفي والقبلي والمصلحي المضر، والتدخل في أعمال السلطة التنفيذية وتجاوز قواعد فصل السلطات.
اتفق الكثيرون من المشتغلين والمهتمين في الشأن العام مع ما حدده الخطاب من ظواهر. إلا ان الظواهر السلبية أو الممارسات الخاطئة لا يكفيها التشخيص رغم أهميته. فالخطوة التالية والأهم، خاصة على مستوى رئيس مجلس الوزراء، هو الانتقال من النقد الى إصلاح الواقع، ومن التململ الى الفعل الايجابي. واليوم أمام الشيخ صباح، وفي بداية عهده، فرصة ذهبية لمعالجة جزء مهم من الخلل الفادح الذي يواكب العملية الانتخابية التي هي القالب الذي يتشكل من خلاله البرلمان. ونقصد هنا الاقتراح النيابي القاضي بتقليص الدوائر الانتخابية من خمس وعشرين دائرة الى خمس دوائر، وإعادة توزيع المناطق الحضرية على هذا الأساس.
فكثير من الظواهر السلبية التي أشار إليها الخطاب الأميري مرده الـى نظام الدوائر الانتخابية المعمول به. فمن خلال التفتيت القائم للدوائر الانتخابية أخذت الانتخابات تفرز في الغالب الأعم نوابا شديدي الولاء والتأثر بناخبيهم، وهمهم الأول والأخير استمرارية هذه العلاقة التي يتبادل فيها الطرفان المصالح. فالنائب يحاول بشتى الوسائل إرضاء ناخبيه واغواءهم بالوعود او استنفار القبيلة او الطائفة لكي يدخل قبة البرلمان او ليستمر في المنصب. والناخبون يبتزون المرشحين والنواب لتحقيق مصالحهم الشخصية حتى وان استلزم ذلك خرق القانون. وتفاقم الوضع حتى وصل الى المجلس العديد من النواب عبر بوابة القبيلة او الطائفة أو التأثير المادي، وهم مثقلون بالوعود والمجاملة للناخبين أو ممنونون لرموز الفساد المؤثرة. وأمام مثل هؤلاء النواب فواتير ثقيلة عليهم تسديدها بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة. وهم عبء على العمل النيابي وعالة على من يشجعهم. ومثلهم لا يفيد البلاد أو الحكومة بشيء.
والتفتيت القائم في الدوائر الانتخابية يأتي بأفراد مشتتين، لا قاسم مشتركا بينهم، بينما أصل العملية الانتخابية ان تأتي بعناصر متجانسة او تجمعها رؤى مشتركة يمكن ان تشكل فيما بينها مجاميع نيابية تمارس العمل النيابي الأصيل وتضطلع بشؤون المصلحة العامة. فمثل هذه العناصر المتحررة من طغيان الناخبين لن تصبح أسيرة لأهواء الناخب، ولن تشرع لتبديد المال العام، ولا تجعل الخدمات التي تستنزف موارد الدولة طريقا لتعاطيها مع الناخبين، مما يؤدي الى خرق القانون وتبديد ثروات البلاد. وهذا مدخل أساسي للشواهد السلبية التي عبر عنها الشيخ صباح في الخطاب الأميري.
إذا، وبكل المعايير الموضوعية، فان الاقتراح النيابي القاضي بتقليص الدوائر الانتخابية من خمس وعشرين دائرة الى خمس دوائر يصب في مساعي الشيخ صباح الاصلاحية، ويمهد لرؤياه في برلمان متوازن وتتراجع فيه المثالب التي اعترت النظام الديموقراطي والبرلماني الكويتي كما وصفها الخطاب الاميري. وجميع الاحتمالات تشير الى ان مثل هذا البرلمان سيكون أفضل بكثير مما عهدناه في العقود الأخيرة.
هناك أطراف متنوعة في المجتمع وفي مجلس الأمة، كما هي في المحيط القريب من رئيس مجلس الوزراء، لا يستهويها التغيير المقترح. بعضها أساء فهم مقاصد الاقتراح او هو يحتاج الى شيء من الوقت للتمعن في مراميه وآثاره. من حق هؤلاء مناقشتهم من قبل المتحمسين للاقتراح لبيان مقاصده ولتبديد مخاوفهم المشروعة.
وهناك البعض الآخر الذي يجد في اقتراح تقليص الدوائر الانتخابية ما يعارض مصالحه القائمة، خاصة ممن مارس في السابق عمليات التأثير على نتائج الانتخابات بشتى الوسائل واستفاد منها. وهؤلاء موجودون في جميع المواقع ويلبسون مختلف الأقنعة ويستغلون شتى المنابر لترويج مواقفهم المصلحية. مثل هذه الفئة لا تستحق إذن الشيخ صباح. بل يجب ان يصدها، لأنها تماما من فصيلة الفئات التي ضللت صاحب القرار في السابق وضيعت فرص التطور المختلفة على الكويت كي تحافظ على مكاسبها التي بنتها في ظل الفساد.
سيصور هؤلاء اقتراح تقليص الدوائر الانتخابية لأطراف في الحكومة ولرئيس مجلس الوزراء بشتى الصور المؤذية لمصلحة الحكم والبلاد. الا أن الحقيقة خلاف لذلك. فمعادلة الإصلاح السياسي صفرية، أي لا غالب ولا مغلوب لأي من طرفيها. بل مهووس من يرى أن في مصلحة الحكم شيئا يتعارض مع مصلحة البلاد. فمصلحة الكويت واحدة، وهي تكمن في الاصلاح الشامل. وسيدعو هؤلاء الى التأني والدراسة، إلا أن غرضهم التسويف وقتل الفرصة المواتية للاصلاح وزج الحكومة والمجلس في مواجهة دون طائل.
أمام حكومة الشيخ صباح اليوم بوابة كبيرة للاصلاح من خلال المقترح. ويجب عليها، كما على جميع المخلصين، ولوجها في هذه اللحظة المواتية حتى لا يفوتنا أكثر مما فات.