د. رسول محمد رسول
&
&سنحت لأحدنا، نحن المثقفين العراقيين، محنة ضياع الوطن سواء بالعقوبات الاقتصادية أم بفجاجة نظام سياسي ظلَّ يُهيمن لعقود طويلة على حركتنا الحُرة، سنحت لنا أنْ نتوسل المنافي بحثا عن كسرة خبز أو عتبة مأوى، أو حتى ظل خيمة من أجل دوام النبض البشري فينا.
ولأنّ أحدنا حباه الله بمنزلة القدرة على مخاطبة الرأي العام، وتلك هي مزيّة المثقف وسلطته في الوجود لا غير، فإنّ أحدنا أيضا لا أمامه شيء أكثر من افتراش وطن بديل وما أكثر الأوطان في هذه المعمورة الكبيرة كما منّا نعتقد، ولكنها بكثرتها تضيق أحيانا بوطن واحد، وحتى هذا الأخير يضيقُ بكَ، بل يسعى لبصقكَ منبوذا فتهيمُ على وجهك لتبصق بكل الدروس التي تعلمتها في قاعات الدرس الأولى بأنّ الأرض كل الأرض هي وطن الإنسان، تلك المقولة التي سرعان ما تهاوت ما أن وطأت قدم أحدنا دارا غير دار وطنك الأم، ليس هذا حسب بل ولتحذف من قاموسك مفردة (الوطن) وتضع بدلا عنها مفردة (المنفى)، ففي ضوء التجارب لا يمتُّ الوطن البديل إليك بشيء أكثر مما يمسُّكَ بالتنكر، وفضّ الألفة المفترضة عنه في مخيالك، ولكي تتواءم وتتعايش وتنسجم عليك أنْ تفهم موجوديتك فيما هو (وطن بديل) بأنه لا يعدوا أن يكون سوى (منفى) فعندها تتعامل مع المكان بشروطه القيمية السياسية والقانونية فضلا عن الاجتماعية، لا يريدك هذا الأخير إلا هكذا، وفي ضوء التجارب أيضا، وجد أحدنا أنّ عددا من المثقفين العرب الذين يحلوا لهم أن يقدموا وطنهم ك(منفى) للمثقف العراقي يشعرون براحة البال، فهذا النهج يمنحهم القُدرة على التلاعب ب(خبزة) المثقف العراقي القادم إليهم من وطن الجوع والنار والمقابر الجماعية، ويمنحهم القدرة أيضا، وباسم الاختلاف في المعتقد، على تمرير خطابهم الإيديولوجي الذي كان سببا في يوم ما لأن يرحل المثقف العراقي عن جبروته، ولأنهم (يعلبونك) في المنفى لا ينظرون إليك إلا بوصفك نزيلا سالبا لفرصة إبداعهم، وكأنّ الإبداع جغرافيا، ونسبة تجارية، وإحصاء متحوسب؛ ولأنّهم سلبوا عنك الوطن البديل بعد أنْ سلبَ عنك الطُغاة وطنك الأم، فإنهم لا يتحدثون معك إلا بلغة المنافي (انتظر، سأرى، ما زال، وطنك أولى بكَ، لا تكن فردا دولاريّا،& إلخ) وغيرها من عبارات التخدير المشحون بأحقاد آدمية، وهم لا يعيروك اهتمام الآدمية ذاتها فهم غالبا ما يتغلفون بالجُبن عندما يضع أحدهم سكرتيرته مثلا في واجهة الحدث أو يضعون منفيٌ آخر في الواجهة ذاتها بعد أن يلقنوه كيفية غلق الأبواب بوجه القادم من وطن أفرغه الطغاة من معناه.
لقد عقد العرب، أفرادا ومؤسسات ودولا، الكثير الكثير من الندوات والمؤتمرات الثقافية والفكرية وجلسات الحوار العربي ـ العربي ولكنهم فاتهم يوما عقد ندوة عن أخلاقيات الُنفاة في وطننا، عفوا في منفانا العربي الكبير!
التعليقات