باسم الانصار
&

النص، تصور غير عاقل منبثق من كائن عاقل.. النص، كائن غريزي، مع انه يحمل في طياته نظاما دقيقا، لذيذا وبنى جمالية متعددة وثرية توحي بأنه كائن عاقل.. بيد ان ثراء النص محدود، بل ان كل بنية من بناه الجمالية تعاني من النقص.. لكنه نقص قابل للتطور.. بمعنى ان النص قابل للتطور بأتجاه الاكتمال وعلى حساب النقص.. ذلك يعني ان بنى النص مرنة ومطواعة بين يدي المتلقي..
قابلية التطور في النص هي من تخريجات المؤلف، بينما الذي يمارس قابلية او قدرة التطور هو المتلقي.. النص يشكو من النقص، والمتلقي هو الذي يسد هذا النقص.. والسبب الاساس لاصابة النص بداء النقص هو كونه كائنا غرائزيا، لانه لايمتلك الحرية.. النص يحمل السؤال في طياته، ولكن السؤال من دون حرية تجعل الكائن (كل كائن) ناقصا وقابلا للانسحاق والتلاشي..
المؤلف، خالق من طراز خاص، والمتلقي ايضا خالق.. فكلاهما قادران على الخلق.. فالمؤلف يخلق النص، والمتلقي يطوره.. وعملية التطوير هي عملية خلق من نوع اخر..
الاختلاف بين المؤلف والمتلقي هي ان الاول يكون مرسلا ومستقبلا.. فهو يرسل النص ناقصا ويستلمه متطورا وناضجا الى حد ما.. بينما المتلقي يكون مستقبلا في البدء، ومن ثم يتحول الى مرسل.. اي انه يستقبل نص المؤلف ويحاول فك شفراته وطلاسمه ومن ثم يقوم بالقاء تصوراته عليه.. وهذا الشئ هو الذي ينصبه خالقا مقابل المؤلف الذي لايعاني مما يعانيه نصه تماما.. اي بمعنى ان كون النص ناقصا لايعني بالضرورة ان قدرة المؤلف ناقصة، بل ان نقصانه نابع من انه ينطلق من نقطة او نقاط معينة من قريحة المؤلف بأكملها بل هو يجسد جزءا منها ( هذا لايشمل النقص في المؤلف كأنسان.. فهذا النقص حتمي ) وهذا يعني بأن المؤلف دائم الحضور في النص شئنا ام ابينا مع انه يختفي ماديا عنه..
فالثيمة على سبيل المثال، ان لم تكن تحتوي على اية اشارة معينة من حياة المؤلف، فأن ذلك يعني بأن المؤلف ليس حاضرا حياتيا في الثيمة او الحدث، ولكنه سيكون حاضرا في النص من حيث لمسته.. فأصطفاء المؤلف لثيمة ما، تعبر عن خلجات المؤلف، لان اختياره لهذه الثيمة تعني حضوره في النص، هذا بالاضافة الى حضوره
فيه من خلال اللغة او الشكل العام للنص.
ولكن هذا الحضور للمؤلف يبقى ناقصا، وغير مكتمل.. اي انه حضور ابداعي جزئي
.. فدائما، ثمة اختفاء للمؤلف عن النص.. ثمة ابتعاد. والاختفاء من الناحية المادية يبدأ
منذ لحظة الانتهاء من النص.. اما الاختفاء من الناحية الابداعية، فهو اختفاء جزئي، لان المؤلف يكون موزعا ابداعيا بين نصوصه، وكل نص يحمل جزءا منه..
وبما ان المؤلف المبدع، كائن لامنتهي، لذا فأن نصوصه ستكون لامنتهية من حيث القيمة والمعنى، حتى بعد ان ينال الموت المادي منه.. بمعنى، اذا كان النص يمتلك الحس الجمالي الراقي، فأنه سيكون نصا خالدا وحيا حتى وان مات ماديا..
الموت المادي او الحياتي للمؤلف لايعني بالضرورة موته ابداعيا.. فالموت الابداعي للمؤلف تقرره نصوصه، تصوراته الابداعية.. اي ان المؤلف هو الذي يقرر موته او خلوده، والذي يجسد هذا القرار او يطبقه هو المتلقي من خلال رؤيته لنصوص المؤلف.
فأذا كانت النصوص لحظوية، مؤقتة فأنها بذلك تحمل بذرة الفناء في لحظة ولادتها، وبعد ذاك سيكون مآل المؤلف هو الموت الحقيقي، حتى وان كان المؤلف حاضرا ماديا على مستوى الحياة او على مستوى ذاكرة المتلقي.. فالذاكرة بأمكانها ان تحتوي على اشياء لامتناهية من حيث الكم، ولكن الذي ينشطها ويحفزها هو الذي يبقى حيا بين ثناياها..
ان النص اللحظوي، المؤقت سيكون ذا حضور غير فعال وغير مؤثر في ذاكرة المتلقي، لانه لايعينه على خلق التصورات لكونه يكون اقل مرتبة من المتلقي، لذا فأنه سيموت بلاشك بعد الانتهاء من قراءته.
وبما ان النص الخالد ابداعيا هو النص الذي يكون مغايرا، مطلسما، وجريئا، لذا فأن اسباب تميزه، ستحفز فضول المتلقي لمعرفة مقاصد المؤلف الخفية التي دفعته لخلق نص كهذا، وستحفزه للبحث عن طلاسم النص، وعن اسباب جرأته وعن مكامن الجمال الخفية فيه.
لذا فقد يسعى المتلقي عبر قدراته المعرفية والتأملية بأتجاه ابانة مقاصد المؤلف بالاضافة لانارته لطلاسم نصه، وذلك من خلال غوصه في مفردات النص المتعددة ( اللغة، الشكل، الثيمة... الخ).
ولكن ثمة نوعا من المتلقين، يشعر بمعاناة كبيرة في اضاءة النص، بالاخص حينما يمتلك النص حسا جماليا غامضا، لذا يلجأ هذا النوع الى المؤلف مباشرة، ويحاول التقائه ماديا وموضوعيا عسى ان ينال اعانته له للغوص في النص الذي انتجه المؤلف، ومن ثم لمعرفته ولفك شفراته.. وهذا يعني بأن هذا المتلقي يلجأ الى استجداء لطف المؤلف عليه، لكي يطفئ ظمأه ومن اجل ان ينهي معاناته التي خلقتها عدم قدرته في السيطرة على النص، بسبب فشل قدراته المعرفية في انجاز هذه المهمة.
واذا قام المؤلف بأعانة المتلقي على اضاءة النص كله وفضحه سواء كان ذلك في متن النص او خارجه، فأنه بذلك سيسئ لنفسه ولنصه.
بأمكان المؤلف احيانا ان يوضح الالتباسات المنسوجة حوله وحول نصه من قبل المتلقي، ولكن عليه ان لايقوم بأيضاح النص كله، لانه سيحفر بذلك قبره بيديه.
اما المتلقي الذي يسعى للوصول الى النص ومن ثم الى خلجات المؤلف الخفية بالاستناد الى تأملاته ومعارفه، فأنه بذلك سيقوم بخلق اتصال شفاف، اثيري بينه وبين المؤلف، وذلك عبر لغة سرية لاتفضح نفسها.
صمت المؤلف بعد انتهائه من النص، يخلق القلق لدى كل متلق شاء ام ابى، لان الصمت هو اضمن وسيلة للحفاظ على المؤلف وعلى نصه.. وبما ان هناك شيئا مسكوتا عنه في النص، لذا فأن المتلقي المتأمل سيستحوذ على لطف المؤلف رغما عنه ومن دون ان يبادر المؤلف في اعطاء لطفه اليه.. اي ان المتلقي سيسرق اللطف والمقصود به هنا ( انارة النص) من المؤلف من دون ان يقوم بأعطائه ذلك.. وهذا سيجعل المؤلف راضيا تماما على المتلقي، لانه اعانه في التقليل من بذل جهوده في اضاءة النص، لان هذه الاضاءة او الانارة ليست من مهمة المؤلف وانما هي من مهمة المتلقي.
وبذلك سيكون بأمكان المتلقي ان يكون معادلا للمؤلف في عملية الخلق، وسيكون هناك اتصال وحوار خفي، اثيري بينهما. فاللجوء الى الاتصال الاثيري من قبل المتلقي، هو الوسيلة الامثل لخلق اللذة في اعماق المتلقي، التي ستكون بمثابة الضوء الذي يباغت الظلام الدامس، وهذا هو شعور داخلي يشعر به المتلقي لحظة كشفه للنص بالاعتماد على ذاته التي تقيم كما اسلفت العلاقة السرية مع ذات المؤلف اثيريا وليس ماديا.
كاتب عراقي مقيم في الدنمارك
&