أسامة عجاج المهتار
&
بين الإبادة والسلام هوَّة عميقة لا يمكن ردمها بالتنازل من طرف واحد.
كان يحلو لرحبعام زعيفي، مؤسِّس حزب "موليديت" اليميني المتطرِّف، والذي قتله ناشط من الجبهة الشعبيَّة لتحرير فلسطين أن يردِّد: "إذا كان (الترانسفير)، أي نقل الفلسطينيِّين إلى خارج الأراضي الفلسطينيَّة يعتبر جريمة، فإنَّ كلَّ ما قمنا به خلال قرن هو جريمة." "ترانسفير" كلمة ملطَّفة للتنظيف الإثني، والتنظيف الإثني يندرج تحت باب جرائم الإبادة. ورحبعام زعيفي في إعادة "الترانسفير" إلى بداية المشروع الصهيوني يعترف أنَّ استيطان فلسطين وتهويدها ما كان يمكن له أن يقوم ويستمر إلاَّ عبر إبادة الفلسطينيِّين.
نحن نعرف هذا الشئ قبل أن تضع الأمم المتَّحدة قانون محاربة الإبادة سنة 1948، وقبل تصريح زعيفي. نحن نعرف ذلك منذ أن تضمَّنت مقدِّمة وثيقة الانتداب البريطاني على فلسطين سنة 1922 النص الكامل لوعد بلفور، ومنذ أناطت أهم بنودها بالدولة المنتدبة مسؤوليَّة اتِّخاذ الخطوات الآيلة إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وتحديدًا، المواد 2 و 4 و6. أخطر هذه المواد تلك الأخيرة التي تنصُّ على حقِّ الوافدين اليهود استعمال "أراضي الدولة"، أو ما يُعرف بالأرض المشاع، أو "خراج" القرى. وهي الأراضي العامَّة التي تحيط بالقرى والأرياف ويستعملها الأهالي في رعاية مواشيهم. لقد كان واضحًا منذ اليوم الأوَّل أنَّ هدف الانتداب هو حرمان الفلسطينيِّين من وسائل الحياة بهدف طردهم من أراضيهم. كانت تلك بدايات جريمة الإبادة بحقِّ الفلسطينيِّين التي ساهمت عصبة الأمم المتَّحدة في خلقها، وورثتها عنها منظَّمة الأمم المتَّحدة يوم صوَّتت على قرار تقسيم فلسطين.
هذه هي البداية التاريخيَّة لما نقول إنَّه عمليَّة إبادة منظَّمة تتالت فصولاً بعد سنة 1948 ولمَّا تنتهي بعد، بل أنَّها تزداد عنفًا عبر مئات المستعمرات في الضفَّة الغربيَّة وعبر جدار العزل. أمَّا أهميَّة التركيز على كلمة "إبادة" فلأنَّها تنطوي اليوم، ونتيجة ما حدث في الحرب العالميَّة الثانية من جرائم إبادة، على قوانين صارمة تنزل أشدَّ العقاب بمرتكبي هذا النوع من الجرائم ومَن يساعدهم في ذلك.
منذ بداية تهويد فلسطين، تَرَاوَحَ الردُّ الفلسطيني بين العمل العسكري والمفاوضات السياسيَّة مع مفارقة خطيرة يمكن لنا اليوم، عبر المراجعة والتقييم رؤية نتائجها. لقد كان العمل العسكري دائمًا يخضع للمفاوضات السياسيَّة، ولا خطأ في هذا من ناحية المبدأ. الخطأ أنَّ المفاوضات السياسيَّة كانت تهدف دائمًا إلى "تسوية" في حين أنَّ الحركة الصهيونيَّة كانت دائمًا تستعمل المفاوضات السياسيَّة لتثبيت نتائج المرحلة السابقة من الإبادة والإعداد للمرحلة التالية. لقد قامت النظريَّة السياسيَّة الفلسطينيَّة على "التنازل" لعلَّ الإسرائيليِّين يرضون وينتهي الأمر إلى سلام. ما لم تلحظه القيادات الفلسطينيَّة المتتالية هو أنَّ التنازل في مواجهة الإبادة لا يفعل سوى تشجيع المعتدي على الاستمرار في عدوانه، وما يمكن أن ينجح في حالات صراع اعتياديَّة لا ينجح في مواجهة الإبادة.
إنَّنا حين نركِّز على كون الإبادة ركنًا أساسًا في تنفيذ البرنامج الصهيوني، نهدف إلى إحداث نقلة نوعيَّة في التفكير تقوم على إدراك عبثيَّة المفاوضات قبل وقف الإبادة. هذه، يجب أن تكون مهمَّة الدبلوماسيَّة العربيَّة والفلسطينيَّة. أمَّا التنازل فإنَّه لن يؤدِّي إلاَّ إلى المزيد من الساديَّة لدى المعتدي والمزيد من الخسارة عندنا.
دعونا من التورية التي ربَّما تكون مفيدة أحيانًا ولكن ليس في الحرب ضدَّ الإبادة.
&
&
التعليقات