أسامة عجاج المهتار
&
لماذا يجب على الفلسطينيِّين التخلِّي عن "حقِّ عودة" لهم عمره خمسة وخمسون سنة، وليس على اليهود التخلِّي عن "حقِّ عودة" مزعومٍ لهم عمره ألفا سنة؟ هذا إذا افترضنا جدلاً أنَّ ثمَّة حقًّا لهم لمجرَّد كونهم يهودًا.
هذا السؤال هو برسم الموقِّعين على "اتِّفاقيَّة جنيف" من الفلسطينيِّين. واستطرادًا نقول: إنَّه ما من فلسطيني مشرَّد في أقاصي الأرض إلاَّ ويستطيع الدلالة بالوثائق والبراهين، ربَّما بشهود عيان على ملكيَّته لأرض سُرقت منه على يد الحركة الصهيونيَّة. فهل يستطيع يهودي وَفَدَ إلى فلسطين من بولندا أو ألمانيا أو نيويورك أن يفعل ذلك! اللهمَّ باستثناء ما يُزعم من "وعد إلهي" بتملُّك أرض فلسطين باعتباره من نسل "شعب الله المختار"؟
إنَّ التخلِّي عن حقِّ العودة هو تقديم هبة للمغتصب تقول له: "إنَّ اغتصابك حلال"، مع كون هذه العبارة تندرج في سياق "الأوكسيمورون" أي العبارة التي تحمل الكلمة ونقيضها. من جهة ثانية، إذا كان اغتصاب أرض فلسطين عام 1948، "حلالاً" فلماذا لا يكون اغتصاب أرض 1967 كذلك؟
إنَّ مجرَّد طرح موضوع اغتصاب الأرض وتشريد أهلها بهذا الشكل لا يعني القفز فوق الحقائق التي تقول إنَّ ثمَّة بضعة ملايين من اليهود يقطنون أرض فلسطين اليوم، بل يعني ضرورة ربط هذه الحقيقة بحقيقة أخرى هي أنَّ هؤلاء القاطنين هم بمعظمهم، مع ذريَّاتهم قاطنون هناك بشكل غير شرعي.
ما قيمة هذا الكلام في ظلِّ واقع الاحتلال؟ قيمته أنَّه يُبقي موضوع الاغتصاب ماثلاً أمام العالم من جهتين: جهة فعل الاغتصاب، وجهة التمسُّك بحقِّ إسقاط نتائج الاغتصاب وإلغائها. إنَّنا لا نشكُّ لحظة واحدة فيما لو أنَّ الجانب الفلسطيني قد ركَّز جهده في السنوات العشر الماضية على تبيان واقع الاغتصاب عوضًا عن الدخول في متاهات اتِّفاق "أوسلو" وما تلاه من اتِّفاقات وتنازلات، لكانت النتيجة أفضل بكثير ممَّا هي عليه اليوم.
يبقى أنَّنا لا نرى قيمة على الصعيد العملي لاتِّفاق جنيف لسبب بسيط، هو أنَّنا لا نستطيع القفز من حالة إبادة Genocide، إلى حالة سلام دون المرور بعدد من المراحل. إبادة؟ ربَّما يسأل سائل. نعم. وإذا كنَّا لا نريد أن نصدَّق ما تراه أعيننا من أنَّ ما تقوم به إسرائيل هو بالفعل حالة إبادة كما تعرِّفها منظَّمة الأمم المتَّحدة في قانون منع جريمة الإبادة تاريخ 9 ديسمبر 1948، وقد وقَّعت عليه كلٌّ من إسرائيل والولايات المتَّحدة، وينصُّ في مادَّته الثانية، البند (ج) على ما معناه: "تعريض جماعة ما لأوضاع معيشيَّة من شأنها تدمير وجوده كليًّا أو جزئيًّا"، فربَّما نصدِّق بعض الكتَّاب من غربيِّين ويهود وإسرائيليِّين.
يقول الكاتب اليهودي "باروخ كيمرلنغ" في كتابه "بوليتيسايد، حرب شارون ضدَّ الفلسطينيِّين" - ونفهم بكلمة بوليتيسايد Politicide من أنَّها كلمة مركَّبة على ما يبدو من Political Genocide، الإبادة السياسيَّة ما يلي: "أقصد بالإبادة السياسيَّة المسار الذي يضع هدفًا نهائيًّا له تفكيك الوجود الفلسطيني من حيث هو كيان شرعي اجتماعي وسياسي واقتصادي." وباروخ كيمرلنغ ليس وحيدًا في رأيه هذا بل هناك عدد متزايد من الكتَّاب من يهود وغير يهود في شتَّى أقطار العالم، بما فيه إسرائيل، يشاركونه في الرأي.
قلنا، ثمَّة مراحل لا بدَّ من المرور بها للوصول من حالة إبادة إلى حالة سلام. أوَّلها أن يعترف الذي يقوم بالإبادة بما يقوم به، وأن يتوقَّف عنه، وأن يعلن ندمه واستعداده لإعادة الحق لأصحابه. عندها، وعندها فقط يمكن الحديث عن إمكانيَّة سلام. أي شئ خارج هذا خداع للذات وللغير. آن الأوان للتوقُّف عن خداع الذات والغير.
التعليقات