الدكتور فريد ايار
&
&زفت جامعة الدول العربية الاسبوع الماضي بشرى سارة للعراقيين اذ اعلنت ان "بعثة تقصي الحقائق" التي شكلها الامين العام السيد عمرو موسى ستصل بغداد منتصف كانون الاول (ديسمبر) الحالي وستزور "مختلف" المناطق العراقية وستلتقي "جميع" القوى السياسية "دون استثناء".
&بهذه المسؤولية المفرطة، والحمّية على العراق، والحيادية التامة في العمل العربي المشترك اعلن مصدر مسؤول في الجامعة، والذي طلب عدم ذكر اسمه "نظراً لخطورة الحدث" خبر الزيارة الى العراقيين المشتاقين جداً للمبادرات العربية التي اثمرت دوماً "سمناً وعسلاً"!!...
&بتنا لا نعلم حقيقة من منا يعيش في عالم غير هذا العالم، نحن ام الجامعة العربية، ولا ندري حقيقة هل ان السيد الامين العام للجامعة مؤمن بما يفعل؟ ام ان في ذلك ذر الرماد في العيون والايحاء بان هذه المنظمة لا زالت تستطيع لعب "دور ما" او لها "صوت ما" تستطيع قوله على الساحة العربية بعد ان ادرك الجميع ان امكاناتها تدنت الى المستوى الذي لا تحسد عليه.
&تذّكرنا قصة الجامعة وابتعادها عن الواقع من خلال العزم على ارسال "بعثة لتقصي الحقائق" (أي حقائق؟؟) الى العراق، بما حصل يوم سقوط الطاغية صدام حسين، فعندما كانت الدبابات الامريكية تتمركز وتأخذ مواقعها بالقرب من وزارة الاعلام كان "الوزير الذكي" محمد سعيد الصحاف يقف على بعد امتار منها وهو يدلي بتصريحات "وداعية" قائلاً: "اننا دحرنا العلوج حيث اضطروا للتراجع الى ما بعد مطار الرئيس صدام حسين!! وقد تم ذلك بفعل المقاومة العنيفة لفدائيي صدام (كذا) وان هؤلاء العلوج محشورون في دباباتهم& ينتظرون لحظة الاجهاز عليهم"...
&في ذلك الوقت كان احد الصحفيين المرافقين للقوات الامريكية يسأل احد الجنود الامريكيين عن رأيه بما يقوله الصحاف فأجاب الجندي: "ربما كان المستر زهاف (يقصد صحاف) يخوض حرباً اخرى غير الحرب التي نخوضها نحن"...& واضاف الجندى على اية حال لو خرج الصحاف الى الشرفة لشاهدني مع دبابتي بالقرب منه .
&تصرف الجامعة العربية "وعزمها" على ارسال "بعثة لتقصي الحقائق" (وهل هناك اسرار مخفية لتقصيها؟) يشابه ما فعله مستر صحاف، فهي تخوض حروبها الخاصة وتفكر بشكل اخر غير الذي يفكر فيه العرب عامة والعراقيين بشكل خاص... فعندما حضر السيد هوشيار زيباري اجتماع وزراء الخارجية العرب الاخير بالقاهرة تحدث طويلاً عن شؤون وشجون ومشاكل العراق والحقائق الحاصلة فيه ولم يكن يتكلم "باللغة الكردية" وهي لغة الام له، بل تكلم بلغة "الضاد"، لغة الشقيق والجار لتكون الامور واضحة والحقائق التي لم تتبدل طبعاً- مطروحة امام الحاضرين من الوزراء العرب والامين العام للجامعة...
&الغرابة في الامر والمفاجأة انه ما ان انتهى الوزير زيباري من افراغ جعبته من الحقائق العراقية امام الجميع حتى تم تشكيل "لجنة تقصي الحقائق" محدداً الامين العام عمرو موسى مهامها بـ "اجراء لقاءات مع اعضاء مجلس الحكم العراقي ومع القيادات السياسية!!! والحزبية!!! والعشائرية!!! والمرجعيات الدينية" وذلك للاستماع الى وجهات نظرهم و"التعرف الى ارائهم وحاجاتهم" ولبلورة "رؤية واضحة (لاحظوا واضحة) لطبيعة الاوضاع في العراق تمهيداً لرفع تقرير شامل من الامين العام الى وزراء الخارجية في اجتماعهم التحضيري للقمة العربية في آذار (مارس) المقبل".
&اكثر من علامة استفهام تبرز هنا لتطرح العديد من الاسئلة ومنها هل ان مجلس الجامعة والامين العام لم يفهما كلام الوزير العراقي؟ ام انهما لا يثقان بكلامه؟ وان كان الامر كذلك فماذا سمع الامين العام من "همروجة" الاحزاب والمنظمات القومية والعشائرية العراقية التي آمت مقر الجامعة العربية!! بعدّها وعديدها، بكبيرها وصغيرها، بجديدها وعتيقها، الم تذكر له هذه المجموعات التي اطلقت على نفسها صفة -المعارضة- الحقائق الموجودة في العراق؟ ام ان هذه المجموعات ذهبت الى هناك وهناك ايضاً مسكونة بوهم ان "ترياق الحل في العراق يأتي من الخارج" فيما الواقع انه يأتي من العراق وشعب العراق فقط ولذلك تراها لم تتحدث عن شيء بل استعمت الى اشياء. وربما لنصائح واوامر ايضاً...!!
&قيل ان الامين العام، سيعتمد على الحقائق التي ستستنبطها بعثته ليكتب تقريره ويقدمه الى اجتماع يعقد بعد اكثر من ثلاثة اشهر، وهنا نتساءل من يعلم ماذا سيحصل خلال هذه الفترة؟ فالتطورات تتسارع يوماً بعد يوم في العراق والحقائق تتغير باستمرار... ربما استتب الامر للامريكيين وانهيت العمليات العسكرية ضدهم... بل ماذا ستقول اللجنة بشأن القاء& القبض على صدام حسين حيث وصف الامين العام هذا الحدث بأنه " تطور مهم فقط" بل وربما ازداد الامر سوءاً ورحل الامريكان عن "بلاد الرافدين" لتصبح بعد ذلك "بلدان الرافدين" كما يشتهي البعض... ربما جرت تحالفات جديدة على مستوى وطننا وربما تغير الى صيغ اخرى... وماذا سيقول الامين العام وقتذاك؟
&ثمة سؤال يفرض نفسه في هذا السياق وهو ان كان الامين العام سيقدم تقريره عن الحقائق العراقية بعد ان تكون "لجنته" قد "تقصتها" في وقت سابق فماذا سيقول وزير الخارجية العراقي في ذلك الاجتماع؟ ترى هل سيشارك فيه ام ان "صلاحية المشاركة العراقية" في الاجتماعات العربية قد انتهت كما تنتهي صلاحية الدواء مثلاً؟...
&لم نسمع في السابق ان الجامعة العربية بعثت بلجنة "لتقصي الحقائق" الى أي بلد عربي، رغم ان هناك الكثير من المشاكل والصراعات السياسية... اليوم تجري في السودان مثلاً تغييرات كبيرة على مستوى الدولة ووقف الحرب الاهلية... وفي موريتانيا هناك جدل سياسي بين الحكومة والمعارضة قاد الى اعتقال رئيس جمهورية سابق ووضعه في السجن، وفي دولة اخرى هناك تناقضات سياسية واختلافات في وجهات النظر، كل ذلك يحصل والجامعة العربية غير معنية بذلك وهي ستعتمد على وزراء خارجية تلك الدول للادلاء بالحقائق عن بلادهم في المؤتمر المقبل لوزراء الخارجية... اما العراق فله شأن اخر وعلى اللجنة الذهاب اليه "لتقصي حقائقه"... اليس في ذلك امر غريب؟
&وايضاً لم نسمع من قبل ان الامين العام استقبل وفوداً معارضة من أية دولة عربية لأنه يعتبر ذلك تدخلاً في شؤون تلك الدول، اما بالنسبة للعراق فقد رفض السيد موسى في السابق استقبال وفد من المعارضة العراقية خلال حكم صدام لان ذلك كان يتعارض مع سيادة العراق ولكنه وافق وانشرح الان عندما قامت مجموعات عراقية معارضة بزيارته حيث ظهر على شاشات التلفزيون والبسمة على شفتيه... كل ذلك حصل ويحصل تحت غطاء وحجة ان في العراق قوات "احتلال" وعلينا معرفة حقائق ما يجري فيه فيما لم تكن هناك حقائق اثناء ما كان الطاغية صدام في السلطة.
&قبل فترة قصيرة اكد عدد من سفراء الدول العربية وسياسيوها ان الجامعة بوضعها الحالي لم تعد تتوافق مع اهداف الشعوب العربية التي تواجه تحديات خطيرة كادت تعصف بها وبتاريخها، وقالوا ان الجامعة تخلفت عن مواكبة التطور وشنوا هجوماً على ميثاقها ووصفوه بالجمود والعجز عن تحقيق امال الشعوب العربية واهدافها، وسفير سوريا "يوسف احمد" اعرب عن اعتقاده بان الجامعة انتهت بالفعل ولم يعد لها أي دور، اما وزير دولة الامارات راشد عبدالله النعميمي فقال للحياة بتاريخ 8 كانون الاول (ديسمبر) الحالي "اننا بحاجة لوضع ضوابط يتم الاتفاق عليها وتطوير الممارسة التي يقوم بها جهاز الجامعة نفسه من الامين العام والامناء المساعدين والعاملين في الجامعة حتى يكون لها مصداقية بعيداً عن التمحور وخدمة جماعة معينة"... واشار النعميمي الى ان "كثيراً من الدول غير راض عن اداء الجامعة ويريد الاصلاح، وهناك دول مستفيدة ولا تريد التطوير"...
&من حقنا ان نرسم علامات استفهام لمواقف الجامعة العربية الفوقية التي لا تدلل على احترام العراق وتحاول ان تبقيه مطأطأ الراس. كان المفروض بالامين العام للجامعة ان يزور العراق منذ وقت طويل، كما، زاره عدة مرات في زمن الدكتاتور صدام حسين، وان يتحدث مع اعضاء مجلس الحكم ويستمع الى رأيهم لا ان يرسل بعثة "لتقصي الحقائق"، اما ان يعتبر زيارته للعراق غير ممكنة نظراً لوجود "قوات احتلال" فيه فهي حجة غير مقبولة لان مثل هذه الزيارة هي لبلد عضو مؤسس لجامعة الدول العربية وليس للسيد بريمر مثلاً... ان العراق هو العراق سواء كان بريمر فيه ام لا وان زيارات الامين العام للجامعة لا يفترض ان تكون ترفيهية وسياحية بل زيارات عمل صعبة لدول عربية تجابه مشاكل وتحتاج لحلول وتضحية وتعب من قبل الامين العام.
&يمثل هذا التوجه يمكن ان يخدم الامين العام العراق وسيخدم به ايضاً الجامعة العربية لان الاعضاء الاخرين سينظرون الى مثل هذا العمل نظرة ايجابية فاعمال التضحية والفعل الشاق لها دوماً نظرة خاصة عند الاخرين...
&قد يعتبر مجلس الحكم ان اقامة العلاقة مع الجامعة العربية والانفتاح على دول الجوار امر ضروري وحنكة سياسية يقتضيها الظرف الراهن اذ ستسهل مثل هذه الخطوات تأسيس علاقات جديدة وتوسع من دائرة تحرك العراق اقليمياً ودولياً. من الطبيعي انه لا يمكن معارضة مثل هذه الافكار والتوجهات فهي ان لم تكن جيدة فهي ليست سيئة وفي كل الاحوال فالعراق يحتاج الى الصداقات لا العداوات ولكن ذلك يجب ان لا يكون على حساب مكانة العراق وكرامة شعبه.
&ولأن "بعثة تقصي الحقائق" لا فائدة منها وتسيء الى مكانة العراق وموقعه المميز فان السبيل الامثل حالياً يكون بالطلب من جامعة الدول العربية تأجيل زيارة وفدها حتى اشعار اخر نظراً لأنشغال المسؤولين العراقيين على ان يجري تحديد موعد جديد في وقت لاحق... وبذلك نكون قد حفظنا كرامتنا وكرامة الشعب العراقي التي هي فوق كل اعتبار. وحتى يفهم "الاشقاء العرب" ان العراق باق في موقعه المميز بين سائر دول المنطقة ولا تهزه العواصف والرياح العاتية.
&
اعلامي عراقي
التعليقات