أحمد عبدالعزيز من موسكو: بالنظر إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والفنية في العالم العربي يصاب الإنسان بالعديد من المشاعر والأحاسيس المتناقضة، ولكن تظل الدهشة هي الإحساس الأكثر طغيانا. كان من الممكن أن تبقي هاتان العبارتان "ماركة مسجلة" خاصة بعالمنا العربي. غير أن روسيا تمكنت بجدارة من التفوق على العالم العربي في هذا المضمار، وأجبرت الإنسان المتأمل أن يكف عن "فعل" الاندهاش". أي أن كل الأمور أصبحت طبيعية، وكل ما يجري هو من طبائع الأمور. روسيا عالم كامل ومكتفي بذاته من حيث التناقضات، فإلى جانب ديستويفسكي تجد الثنائي الأعظم "تاتو".
وتندهش عندما يجري استطلاع رأي لمقارنة شعبية تاتو وديستويفسكي. ولكن سرعان ما تزول الدهشة حينما يظهر استطلاع الرأي بأن تاتو قد تفوقت باكتساح. ويصل الإنسان إلى مرحلة الكف عن الاندهاش عندما تذيع وكالات الأنباء ووسائل الإعلام المرئية والمقروءة بأن اليابانيين، بعد أن شاهدوا تاتو واستمعوا إليه، اكتشفوا إحدى أهم القيم العظيمة بعد أن كانوا يظنون أن ديستويفسكي هو القيمة العظمى الوحيدة في روسيا.
وفي خبر يعتبر الثاني من نوعه في الأيام الأخيرة، أعلنت مديرة المركز الإعلامي "نيفورمات" ساشا تيتيانكو أن الثنائي "تاتو" سوف يتقدم بأوراقه إلى لجنة الانتخابات المركزية في روسيا للتسجيل من أجل المنافسة على منصب الرئاسة الروسية. وإمعانا في تأكيد النبأ، قالت ساشا أو ألكسندرا: (سوف تقوم كل من "يوليا" و"لينا" بالترشيح معا،
&وبالضبط كما تغنيان معا.&فنحن لا نستطيع التفريق بين الفتاتين. في البداية سنجمع الـ 500 توقيع اللازمة لتقديم المرشح. وبعد ذلك سنرى كيف يمكن جمع بقية الـ 2 مليون توقيع الأخرى). وأضاف بأنه في 27 ديسمبر الجاري في الساعة 12 ظهرا بتوقيت موسكو ستجري مراسم جمع التوقيعات في قصر شباب موسكو من أجل تسجيل تاتو لمنافسة بوتين.
أما المشكلة التي تواجه ساشا فهي كيف يمكن التغلب على شرط سن المرشح المنصوص عليه في الدستور الروسي. إذ أن الدستور ينص على أن سن المرشح لرئاسة روسيا الاتحادية لا يجب أن يقل عن 35 عاما. ولكنها قالت: "يمكن حل هذه المشكلة ببساطة في حالة قبول ترشيح الفتانين معا، لأن مجموع سنوات عمرهما يتجاوز الشرط المنصوص عليه في دستور روسيا الاتحادية". وبصدد الترشيح الثنائي، قالت ساشا: "الدستور الروسي لم يذكر على الإطلاق أي نص بهذا الصدد، وبالتالي فمن حق أي مواطن تنطبق عليه بنود الدستور أن يرشح نفسه لرئاسة الدولة".
في الواقع لم يكن الثنائي "تاتو" فقط هو الذي بدأ الحديث عن ترشيح نفسه في ظل المشكلات السياسية والقانونية التي يرغب زعماء الأحزاب السياسية إشعالها خلال فترة الانتخابات بالانسحاب منها، بل ومقاطعتها، وبالذات الأحزاب التي فشلت في تجاوز نسبة الـ 5% اللازمة لدخول البرلمان مثل حزب "اتحاد القوى اليمينية" و"يابلكو"، ومعهما أيضا الحزب الشيوعي الذي انتكس انتكاسة "غير مدهشة" في الانتخابات البرلمانية الروسية التي جرت في 7 ديسمبر الجاري. فقد أعلن جيرمان ستيرليجوف أول مرشح منافس للرئيس الحالي فلاديمير بوتين عن عزمه على تقديم أوراقه للمنافسة على منصب الرئاسة في روسيا. وستيرليجوف صاحب بيزنس ضخم لصناعة التوابيت، وشركته "الإخوة ستيرليجوفيخ المتحدة لصناعة التوابيت" هي أشهر الشركات الروسية في هذا المجال.
ومن جانبها قامت منظمة قومية متطرفة غير المسجلة بوزارة العدل الروسية تدعى (الحركة القومية المعادية للهجرة غير الشرعية) ترفع شعار "روسيا ليست للأجانب"، بدعم ترشيح ستيرليجوف
الذي يتمتع بعضوية مجلس إدارتها. وتنوى هذه المنظمة البدء بجمع 2 مليون توقيع من مواطني روسيا، وهو العدد اللازم لتسجيل المرشح. وقال ستيرليجوف نفسه بأنه سيتقدم إلى اللجنة المركزية للانتخابات في روسيا بأوراقه في القريب العاجل من أجل المنافسة على منصب الرئاسة. وأضاف بأن النقاط الرئيسية في برنامجه الانتخابي سوف تدور حول الديموجرافيا والمسألة القومية والتي بدونها لا يمكن تحقيق الإصلاحات الاجتماعية-الديمقراطية.
الأمر "غير المدهش" أن جيرمان ستيرليجوف خسر مؤخرا في انتخابات عمدة موسكو أمام يوري لوجكوف الذي فاز بفترة ثالثة. وخسر أيضا في انتخابات حاكم كراسنويارسك. ومن أهم الإعلانات التي تستخدمها شركة التوابيت التابعة لمنافس بوتين على الرئاسة والتي تملأ الشاشات ذات اللون "الأسود" في محطات المترو: "ستجدون مكانا مناسبا في توابيتنا بدون أولاد وإيروبيكا"، و"توابيت معطرة من شجر الأرز"، "من أجل مستقبل أفضل". ويبلغ سعر التابوت الواحد 1500 دولار. وحول سير أعماله وعلاقته النفسية بالتوابيت يقول جيرمان ستيرليجوف بأنه بدأ الاشتغال بصناعة التوابيت منذ 6 سنوات فقط. ويؤكد على أن العمل في صناعة التوابيت قريب جدا إلى طبيعته وتكوينه، فهو "يدفع الإنسان على النظر بصورة أعمق إلى وجوده. وعندما تجد أمامك توابيت.. توابيت.. توابيت.. تبدأ العيش بشكل آخر تماما".
الأمر الآخر المتعلق بموضوع "عدم الاندهاش" هو أن مؤسسة "الاخوة ستريليجوفيخ المتحدين" لصناعة التوابيت كانت قد قامت عقب بداية العمليات العسكرية في العراق في مارس الماضي بتقديم عرض مغر إلى الولايات المتحدة يقضى بتوريد الشركة عدد 50 ألف تابوت من أجل الجنود الأمريكيين المشاركين في الحرب ضد العراق. ومن جانبه قام المدير العام للمؤسسة ألكسندر ياروشيفيتش بإرسال عرض رسمي إلى سفير الولايات المتحدة في موسكو ألكسندر فيرشبو. وخلال فترة انتظار الرد، قامت المؤسسة بتقديم اقتراح آخر إلى السفير العراقي في موسكو آنذاك عباس قنفد تدعوه فيه إلى اتخاذ خطوة تعبر عن إرادته الطيبة وذلك بتسديد ثمن التوابيت الروسية من أجل الجنود الأمريكيين.
وبالعودة إلى الموضوع الأصلي، فالثنائي الروسي "تاتو" الذي يتألف من المراهقتين الموسكوفيتين "لينا كاتينا" و"يوليا فولكوفا" يمثل أعلى مراحل ما توصل إليه فن "الطرب" الروسي الحديث. والشاهد الوحيد على ذلك هو الجوائز الأولى التي يحصدها هذا الثنائي في مختلف دول العالم وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا، ناهيك عن روسيا. ولم تتوقف شعبية الفتاتين على الغرب فقط، بل شقت طريقها إلى القلوب في الشرق الأوسط حيث سجلت مبيعاتهما من التسجيلات في دول الخليج أرقاما قياسية بأغانيهما التي يعتبرها، النقاد الجدد أصحاب العالم الجديد، مشروعا واعدا لموسيقى "البوب" للشباب في روسيا، إذ تتعلق "أغاني" فرقة "تاتو" بالضغوط الاجتماعية والحضارية، وموضوعات حول الاضطهاد والقمع، والرغبة، والتداعيات الناتجة عن الخيارات الصعبة المتعلقة بالنشاط الجنسي للفرد. ولعل أشهر أغنية للثنائي الروسي هي "أنا اتجننت" التي انطبعت في ذهن جيل كامل من المراهقين ليس فقط في روسيا، وإنما في العالم كله، بتلك القبلة "الحميمية". وكانت "لينا" و"يوليا" لهما السبق المطلق في تقبيل بعضهما البعض على خشبات المسرح، حتى قبل قبلات "مادونا" و"كريستينا أجليرا" و"بريتني سبيرس" التي أوقفت العالم على قدميه منذ عدة أشهر.
وفرقة "تاتو" تأسست عام 2000 على يد أخصائي في علم النفس ومسؤول إعلان سابق يدعى إيفان شابوفالوف، ويحتل حاليا منصب منتج الفرقة. يوليا (مواليد 1985) هي الابنة الوحيدة لعائلة من الطبقة الوسطي. أما لينا (مواليد 1984) فهي ابنة لمؤلف أغاني شعبية وموسيقى معروف. وهى أصغر أخواتها الثلاث. تقول يوليا، التي مثلت أيضا في أفلام قصيرة، تحب إحدانا الأخرى كثيرا جدا ولكن لينا مختلفة تماما عنى: "هي لا تحب الحفلات وأنا أحبها. هي أكثر هدوءا وتقرأ كثيرا وأنا لا أحب القراءة". وقد غنت كلتاهما في فرقة الأطفال، ولكن كان على يوليا مغادرة الفرقة بعد اتهامها بالدعارة وإفساد مغنيات أخريات. بعد ذلك فازت لينا ويوليا في امتحان أقيم باستوديوهات "موسفيلم" من بين 500 مراهقة تقدمن للامتحان. وشكلتا بعد نجاحهما فرقته بسم "بروجكت"، تم تغييره فيما بعد إلى "تاتو" وهو اختصار للعبارة الروسية (هذه تحب تلك).
في أول رحلة عمل لـ "تاتو" إلى بريطانيا وقف المجتمع البريطاني المحافظ موقفا سلبيا منهما ومن أغانيهما على حد سواء. غير أن السر في هذا الموقف الذي ضايقهما كثيرا وكاد يفقدهما ثقتهما بنفسيهما كان يكمن أساسا في عملية المنافسة. فسمعة "تاتو" سبقتهما إلى جميع أنحاء بريطانيا، وقامت بعض وسائل الإعلام بدعاية مضادة بإيعاز من بعض الفرق الفنية. غير أن الأيام القليلة التي قضتها لينا ويوليا أثبتت العكس. وانتشرت أغانيهما بشكل أدهش المجتمع البريطاني "المحافظ".
وفي سفراتهما إلى الولايات المتحدة، تصدرت حفلاتهما وأغانيهما أول القائمة. غير أن الحرب في العراق عملت على إعاقة زيارات كانت مخططة إلى العديد من الولايات الأمريكية. المثير أن للفتاتين آراء سياسية بارزة، وخاصة في الشأن العراقي، إذ عارضتا بشدة العمليات العسكرية الأمريكية-البريطانية ضد العراق، وظهرتا في أحد البرامج التلفزيونية الأمريكية الشهيرة بزي حمل عبارة" لا للحرب". وعندما واصلت القوات الأمريكية طريقها إلى بغداد ظهرت الفتاتان بـ"فانلات" بيضاء مكتوب على صدرها عبارة من كلمتين فقط: الكلمة الأولى تعني "العضو الذكري للرجل" والكلمة الثانية هي "في الحرب". ومع ذلك لم يلتفت الشباب الياباني لهذا الاحتجاج "المدهش"، وكان حزنه الأكبر وغضبه بسبب تأجيل حفلاتهما لعدم استطاعتهما السفر. وكتبت الصحف الروسية وقتها أن اليابانيين قبل "تاتو" كانوا يعرفون جيدا أن أعلى قيمة في روسيا هي قيمة الكاتب العظيم "فيدور ديستويفسكي" الأوسع انتشارا في اليابان. ولكن بعد ظهور "تاتو" اكتشف اليابانيون أن هناك في روسيا قيمة أخرى عظيمة. وأصبحت فرقة "تاتو" تنافس ديستويفسكي على حب المجتمع الياباني. المدهش أيضا أن الناقدة الروسية أولجا كابانوفا أكدت على صفحات جريدة "إزفستيا"، في دفاعها عن الثنائي تاتو، أن لينا فعلا تحب القراءة، وبالذات أعمال ديستويفسكي. أما يوليا التي لا تحب القراءة، فهي تنوى جديا تأليف كتاب. ولم تقل الناقدة أي كتاب، وعن ماذا!
علماء النفس والاجتماع في حالة من "عدم الدهشة"، حيث لم يجمع اثنان منهما على تفسير واحد لما يحدث. بل والأكثر إثارة "لعدم الدهشة" أنهم أصبحوا يلقون بأسئلة غريبة من قبيل: لماذا يمارس الإنسان حتى وقتنا هذا حياته الخاصة في غرف مغلقة؟ ولماذا تمارس الكلاب، مثلا، أي شئ في أي مكان؟ هل للمجتمع علاقة بكل ما يحدث من شذوذ بكل أنواعه ومظاهره؟ ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه الظواهر التي تتزامن عادة مع الانقلابات الكبرى في حياة المجتمعات؟ وهل للسياسة والاقتصاد دخل بهذه الأمور؟ ويجملون التساؤلات الأخرى في واحد فقط: ما هي الملامح الاجتماعية والنفسية والأخلاقية للنظام العالمي الجديد؟!!
بالمناسبة، ظهر مؤخرا خبر يفيد بأن الثنائي "تاتو" يمكن أن يتعرض للوقوف أمام المحكمة بسبب دعوته للفتيات في إحدى الحفلات بخلع ثيابهن والتعري تماما، والغناء. وخبر آخر أفاد بأن بريطانيا منعت لهما حفلا لأن لينا ويوليا دعتا الفتيات البريطانيات إلى أهمية ممارسة "السحاق". أما الخبر الأخطر، فهو تعرض الفتاتين للتهديدات بالقتل من قبل شاب أعلن أن فتاته المغرمة بـ "تاتو" تركته نهائيا لتعيش مع صديقتها الحبيبة بعد أن أدركت أن "تاتو" كان عندهما حق.
من المتوقع، وهو الأمر الذي "لا يجب أن يثير الدهشة" أن يكون شعار تاتو في حملتهما الانتخابية لرئاسة روسيا (بوستر كبير بحجم روسيا وتحته عبارة: "أنا اتجننت"). أما صانع التوابيت جيرمان ستيرليجوف فشعاره معروف: (توابيت.. توابيت.. توابيت.. وإنا لله وإنا إليه راجعون)، أو (من أجل مستقبل أفضل في التوابيت).