&صالح القاضي
&
&

منذ أحداث 11 سبتمبر تغيرت الاستراتيجية الأميركية على صعيد السياسة الداخلية والخارجية ووضعت واشنطن نصب عينيها تحقيق الحلم الامبراطوري باكتساح مراكز النفوذ العالمي والاستحواذ على مواطن الثروات والممرات الاستراتيجية وبالتالي تعزيز الهيمنة الكونية وتحييد القوى الدولية الأخرى في ظل نظام عالمي أحادي القطبية.
إن مواجهة الارهاب قضية دولية ومطلب إنساني تسعى كل دول العالم إلى محاصرته واجتثاثه وتجفيف منابعه أينما وجدت، بيد أن الولايات المتحدة اتخذت من حرب الارهاب فرصة تاريخية لاشعال الحروب وتصفية الحسابات مع دول شتى بالعالم تختلف معها واشنطن ايديولوجيا ومصلحياً ولم تصغي الإدارة الأميركية لكل الدعوات التي أطلقت من هنا وهناك لتعريف مفهوم الارهاب كي تبقى حالة الضبابية قائمة وتستمر حالة التصنيفات وتقسيم العالم إلى محاور خير وشر حسب القاموس الأميركي.
إن الارهاب كمفهوم مازال موضع لبس ومحط خلاف ولم يتفق عليه دوليا رغم المطالبة العربية بعقد مؤتمر دولي لتحديد المفهوم وتعريفه وتشريعه ضمن القوانين الدولية حتى يمكن التعاطي معه وفق رؤية دولية متفق عليها لا تترك مجالاً للاجتهادات والتأويلات والتناقضات المصلحية لكن الولايات المتحدة والدول الغربية لم تتجاوب مع ذلك المطلب كي تبقى التفسيرات قائمة وفرص الاختلاف واردة بإلصاق تهمة الارهاب بالعرب والمسلمين كي تبقى «ماركة مسجلة» وبالتالي ابقاء الحضارة الغربية بعيدة عن تلك الممارسات.
في الواقع ما تزال مكافحة الإرهاب من دون تعريف أو نهاية محددة لكن من الواضح أن أبرز ضحاياها هم العرب والمسلمون وبدت حرب الإرهاب كحرب عنصرية تدخل في اطار ما سماه هنتنجتون «صدام الحضارات».
يقول بوش في خطابه حال الاتحاد في يناير 2002: «لن أنتظر على الأحداث فيما يدلهم الخطر ولن أقف متفرجا فيما تقترب منا التهلكة أكثر فأكثر.. إن حربنا على الإرهاب قد بدأت فعلا ولكنها ما تزال في بدايتها، إن هذه الحملة قد لا تنتهي في زمننا ولكنها يجب أن تشن في زمننا، إننا لا نستطيع أن نتوقف فجأة.. إن التاريخ يهيب بأميركا وبحلفائنا أن نعمل وإنه لمن مسئوليتنا وخصيصتنا أن نحارب حرب الحرية».
يبدو ان الاستراتيجية الأميركية الجديدة لمرحلة ما بعد 11 سبتمبر قد وضعت المنطقة العربية في قلب أجندتها وشرعت في خطوات واجراءات تستهدف ضرب مفاصل النظام الاقليمي العربي ومحاولة طمس الهوية القومية وادماجه ضمن مفهوم شرق أوسطي تحتل فيه إسرائيل موقعا اقليميا مهما وتأهيلها لتصبح شرطي المنطقة والحارس الأمين للمصالح الأميركية فيها.
إن أميركا التي ظهرت منذ سقوط حائط برلين وكأنها سيدة العالم بلا منازع باتت ترتكز امبراطوريتها الجديدة على قوة بطش غير عاقلة لا تخدم قوانين ولا تعترف بنواميس أخرى غير نواميس القوة والمصلحة ومن ثم اختزال الديمقراطية في جملة مفردات تدور جميعها حول مفهوم المصلحة الخاصة لأميركا وحدها في العالم ولا تكاد تقيم وزنا لحلفائها الذين وصفهم بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق في كتابه الشهير: رقعة الشطرنج الكبرى بأنهم توابع وخدم ودافعوا جزية!
من الواضح كذلك أن مستقبل بوش السياسي بات يتوقف على مصداقيته في الحرب على الإرهاب، لذلك فقد تركزت استراتيجيات وسياسات بوش على الابقاء على زخم حرب الارهاب وهو أمر بدأ عسيرا جدا خصوصا في ظل الشكوك المحيطة بمصير أسامة بن لادن وعدم القضاء عليه تماما بعد الحادي عشر من سبتمبر.
حيال ذلك يمكن القول أن الأجندة الأميركية قد تمحورت في ظل الإدارة الجهورية الحالية وبشكل أساسي على حروب الارهاب وصارت واشنطن تغلف صراع المصالح والاستحواذ على النفوذ تحت يافطة الإرهاب واستطاعت بالفعل أن تصل إلى معظم المواقع الاستراتيجية في العالم.
واستكمالاً لفصول الحرب التي بدأت في أفغانستان والعراق فإن المخططات تتجه نحو سوريا وإيران في ظل حرب اعلامية وسياسية بدأتها واشنطن وتسخين للأجواء على أكثر من صعيد، وربما تكون جولات الصراع المقبلة مختلفة عن التجربتين الأفغانية والعراقية في أساليبها وأنماطها وطرائقها جراء التورط الأميركي في العراق وأفغانستان حينما شعرت واشنطن أنها وقعت في مستنقع وغرقت حتى أذنيها.
لقد أصدر معهد السلام في واشنطن وهو معهد مستقل يشرف عليه الكونغرس تقريرا عن حرب الإرهاب بعد العراق وأفغانستان قال فيه ان المرحلة التالية ستشمل سوريا وإيران وحزب الله وان حرب الإرهاب ستستمر لسنوات عديدة.
وأضاف التقرير ان الإرهابيين فشلوا في القيام بأي هجوم داخل أميركا مثلما فعلوا في 11 سبتمبر سنة 2001 لكنهم نشروا نشاطاتهم في جنوب شرق آسيا وافريقيا وروسيا والشرق الأوسط مما عقد الجهود الأميركية لمواجهتهم، يقول التقرير ان المرحلة الثالثة في حرب الإرهاب بعد مرحلتي أفغانستان والعراق ستكون مختلفة كثيرا عن سابقتيها وستكون أيضا أكثر تحديا.
التقرير يحذر أيضا من سياسة تغيير الحكومات ويشير إلى دعوات البعض في واشنطن لمحاسبة دول صديقة مثل السعودية، كما يقول التقرير: هناك استراتيجية أخرى متوقعة في حربنا ضد الإرهاب وهي تغيير الحكومات بدون غزو عسكري، وهذا ينطبق على حكومات الدول الصديقة التي لا نريد ولا يجب أن نغزوها مثل السعودية وباكستان.
لكن هنا أيضا سنواجه مشاكل هذه حكومات صديقة تعاني من الإرهاب أيضا، ولكن تأييدها لنا ليس كاملا في نفس الوقت هذه الحكومات الصديقة أكثر من غيرها تأييدا لنا وأكثر من غيرها تعاونا معنا ضد منظمة القاعدة، ولهذا ربما هي أفضل كثيرا من حكومات بديلة تنتج عن ضغوط نقوم بها.
لقد درجت الولايات المتحدة حتى في مرحلة ما قبل 11 سبتمبر على اصدار قوائم سنوية تتضمن أسماء دول داعمة للإرهاب وقوائم بأسماء منظمات وشخصيات ارهابية مطلوبة للعدالة الأميركية.
وإذا كانت الحروب الأخيرة في أفغانستان والعراق قد فتحت شهية أميركا لمغامرات جديدة فإن مخاطر تلك الحروب وآثارها الماثلة قد تدفع صقور الإدارة الأميركية والمحافظين الجدد إلى اعادة النظر في استراتيجية الغزو العسكري وإسقاط النظم السياسية أو ما يسمى بفك واعادة تركيب الدول عبر شن حروب عسكرية نتيجة للآثار السلبية والمتاعب التي ستواجهها الولايات المتحدة داخليا وخارجيا، لذلك ربما تلجأ واشنطن مستقبلا لاخضاع الدول والأنظمة والتعاطي بأنماط أخرى وفرض العقوبات وممارسة الضغوط ومحاولة اسقاط الأنظمة من الداخل.
بعد الحرب على العراق واسقاط نظام صدام حسين شرعت الولايات المتحدة في توصيفات وتقليعات جديدة في معاقبة الدول تتمثل في قوانين محاسبة يشرع لها الكونغرس ويصدق عليها الرئيس بوش وتصبح نافذة في السياسة الأميركية.
فبعد قانون محاسبة سوريا ومشروع قرار محاسبة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والضجة التي خلفاهما في العالم العربي رسميا وشعبيا دخلت في الخط دولة عربية صديقة لأميركا تربطهما مصالح استراتيجية وعلاقات عمرها ستون عاما هي المملكة العربية السعودية حيث تقدم عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي بمشروع ما سموه قانون محاسبة السعودية» الذي يدعو لعقوبات ضد المملكة على غرار ما حدث في سوريا في منتصف الشهر السابق إذا لم توقف المملكة حسبما زعم مقدموه دعمها لحركة حماس وتعاونت مع الولايات المتحدة في حربها على الارهاب.

يقول مشروع القرار الرسمي «قانون محاسبة السعودية لعام 2003» ورقمه إس 1888 وقدمه السيناتور الجمهوري أرلن سبكتر عن ولاية بنسلفانيا ان الرئيس الأميركي جورج بوش يجب أن يقدم شهادة بأن السعودية تقوم بمحاربة الإرهاب وتتعاون مع الولايات المتحدة في حربها ضد المتشددين وإلاّ واجهت المملكة عددا من العقوبات الأميركية، ومن الشروط التي يتعين على الإدارة وضعها لكي تتفادى السعودية والعقوبات وفق مشروع القانون قيام الرياض بالقضاء على ما سماه المشروع كل الجماعات السعودية الإرهابية وأن تثبت الحكومة السعودية بما لا يدع مجالا للشك قيامها بإيقاف كل الأموال والتبرعات من أفراد أو جماعات أو منظمات إلى كل الجماعات الإرهابية والمتشددة خارج المملكة وداخلها.
ويقول مشروع القانون إنه عند عدم تقديم الرئيس ما يفيد بتعاون السعودية مع مجموعة كبيرة وصارمة من الشروط المتعلقة بالشئون العسكرية بما يسمى الحرب على الإرهاب سيتم فرض عقوبات منها منع حظر تصدير المواد المتعلقة بالشئون العسكرية وتحديد سفر الدبلوماسيين السعوديين في حدود دائرة قطرها 25 ميلا ومركزها مقر السفارة التي يعملون بها.
وسينطبق القرار على السفارة في واشنطن وبعثة السعودية لدى الأمم المتحدة في نيويورك وقنصليات المملكة في هيوستن وفي لوس انجلوس وأن على الرئيس أن يقدم تقريرا سنويا بهذا الشأن، وجاء في بيان لمكتب السيناتور سبكتر ان مشروع القانون يطالب أيضا بحظر بيع مواد لها استخدام عسكري واقتصادي للمملكة ويمكن أن تدخل في سياق العمل ضد الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل مثل العناصر الكيماوية والبيولوجية ومعدات دوائر تصنيع الوقود وأجهزة الكمبيوتر الكبيرة والمواد المستخدمة في تصنيع الصواريخ.
لكن البيان ذكر ان المشروع يعطي الرئيس الأميركي الحق في تخفيف بعض هذه العقوبات في حال قوله ان ذلك من مصلحة الأمن القومي الأميركي، وزعم السيناتور سبكتر في بيانه انه ظهرت أدلة في النور تشير إلى ان جماعات مثل القاعدة وحماس قد تلقوا دعما ماليا ضخما من السعوديين، لقد عملنا من خلال لجنة شئون الحكومة ومن خلال اللجنة القضائية على إثبات شيء واحد وهو ان كل من يساهم بشيء في منظمة يعلم انها إرهابية فإنه في حقيقة الأمر متعاون على القتل.
يقول مشروع قانون محاسبة السعودية ان المملكة قد دفعت حوالي أربعة مليارات دولار من أجل تمويل الانتفاضة التي بدأت في فلسطين عام 2000.
كما يطالب مشروع القانون الجديد الإدارة الأميركية بأن تقدم كل ستة أشهر شهادة حسن سلوك للمملكة يشهد فيه الرئيس الأميركي بأن الرياض تقوم بدورها في الحرب ضد الإرهاب.
ولا شك إن استمرار السياسة الأميركية تجاه المنطقة العربية وتواترها وفقا لهذه الاستراتيجية العدوانية من شأنه أن يزيد مساحة العداء والكراهية لها في العالم العربي رغم ما تطرحه واشنطن من مشاريع دمقرطة في الشرق الأوسط.
مفهوم عسكرة العلاقات الدولية والتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى هي مسلكيات مرفوضة عند الشعوب وإن كانت تعاني في جوانب كثيرة من الظلم والقمع وغياب الديمقراطية من طرف بعض نظمها السياسية لكنها ترى في الغزو الخارجي نهبا لمصالحها وتدميرا لقيمها وثقافاتها وبالتالي طمس حضارتها لا سيما عندما يكون المنقذ» هي دولة عظمى تحتضن إسرائيل وتقدم لها كل أشكال الدعم السياسي والعسكري والتكنولوجي ضد الفلسطينيين والعرب عموما.. فهل تدرك الولايات المتحدة إن اعادة الحق الفلسطيني وعدم الكيل بمكيالين هو المدخل الحقيقي لكسب العرب؟
لم يشفع للدول العربية استنفارها مع واشنطن في الحرب ضد الإرهاب ودخولها في اشتباك مع بعض القوى السياسية ووقوفها ضد الإرادة الشعبية في الداخل، إذ راحت أميركا تطلق الاتهامات ضد بعض الأنظمة وتطالب بما تسميه اصلاحات ديمقراطية وتغيير مناهج واعادة صياغة الحياة السياسية بموازين مختلفة، وتلوح للبعض الآخر بالغزو العسكري لاسقاط النظم وتغييرها بالقوة، وبذلك تتكشف خطط الولايات المتحدة في سعيها لحرث المنطقة واعادة رسم الخريطة السياسية بما يخدم مصالحها ويعزز هيمنتها وسيطرتها.
إن الولايات المتحدة تعيش مرحلة يصفها بعض الخبراء السياسيين بمرحلة الكولونيالية الجديدة أو الاستعمار المباشر الجديد وهي مرحلة تتسم بتفوق عسكري أميركي هائل في مجالات التسليح والقيادة والسيطرة وتأمين الاتصالات والنقل والمواصلات وقد برهنت الحروب الأميركية الأخيرة ذلك، وقد أفضى هذا الافتتان بالقوة في واقع الحال إلى تصاعد خطير للنزعة العدوانية الامبراطورية لدى الولايات المتحدة ودفع ذلك إلى أن تطلق يديها في تبني أكثر الخطط شططا واستخدام أكثر الأساليب فجاجة وأكثر الضغوط فظاظة لفرضها على الأصدقاء والحلفاء أو الأعداء على السواء.


صحافي يمني ـ الإمارات