"إيلاف" من إسلام آباد: لا تزال افغانستان ؛ ذلك الوليد الجديد الذي تمخض عن قيام الولايات المتحدة بإزالة نظام طالبان ومسح آثار معسكرات تنظيم القاعدة من الاراضي الافغانية يعاني من عوامل قلق شديدة جوهرها القلق الامني . ومما يدلل على ذلك ان كوفي عنان السكرتير العام للامم المتحدة لم يخفى قلقه من استمرار التدهور الامني واوضاع عدم الاستقرار في افغانستان والتي من المحتمل ان تؤثر سلباً على الانتخابات العامة التي من المزمع عقدها في يونيو القادم لاختيار رئيس وحكومة جديدة لافغانستان بناء على الدستور الذي تم تبنيه مؤخراً خلال اجتماع اللويا جرغا .
وجاءت كلمات عنان محذرة من ان العملية السلمية في افغانستان تواجه تحديات جسام ،و افغانستان والمجموعة الدولية مطالبان بأن يتخذا خطوات اخرى من اجل تحقيق الاستقرار والسلام في ربوع افغانستان الصعبة والوعرة ؛ وان تكون هذه الخطوات واسعة و ملموسة اذا اريد لهذه العملية ان تكلل بالنجاح . و يأتي هذا التحذير من المسؤول الدولي في اعقاب اتفاق 502 من اعضاء اللويا جرغا على الدستور الافغاني الجديد في مطلع شهر يناير .
و رغماً عن ان المجموعة الدولية قد اعتبرت ان تمكن المشاركين في اللويا جرغا على الاتفاق على الدستور يعتبر نقطة تحول انطلاقا نحو نبذ الخلافات والعنف والاتجاه صوب الانتخابات والمتغيرات الديموقراطية الجديدة على المجتمع الافغاني و كذلك يعتبر خطوة ايجابية الى الامام ؛ الا ان هناك الكثير من الاتجاهات والتراجعات الطائفية بين سطور النقاشات التي دارت بشأن الدستور بين الاعضاء الذين شاركوا في اللويا جرغا ؛ و هو الامر الذي اثر تاثيراً شديد القتامة على اجواء الاجتماع وعلى ما تم فيه و بعده .
&وافغانستان ليست بلداً مؤهلاً لان تقام فيه دولة و شعب بالنمط المعهود والمعروف في وقتنا المعاصر بسبب الاختلافات الشاسعة بين الفئات والتركيبات العرقية المختلفة فيها بل والمتنازعة في كثير من الاحيان فيها . فافغانستان قد ظهرت الى حيز الوجود في التاريخ الحديث من جراء الضغوط العسكرية والسياسية المتلاحقة التي ضغطت على حدودها و اجزائها بفعل الصراع الذي كان يدور بين بريطانيا و روسيا لفرض السيطرة على اكبر بقع ممكنة من الاراضي ومن الشعوب في نهاية القرن التاسع عشر ؛ و كأن هذه الضغوط لم تكن كافية ، فلعبت التقاليد الاجتماعية المحلية دوراً هي الأخرى في تشكيل حدود افغانستان و طبيعة التعايش الذي يفترض ان يكون قائماً بين ابنائها من مختلف العرقيات ، وهي عرقيات كثيرة تتزاحم و تتنافس في ما بينها من اجل الحصول على حقوقها او من اجل فرض وصايتها على الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في افغانستان .
&فقد ساهمت الضغوط الروسية والبريطانية في تشكيل الحدود الغربية والشرقية لافغانستان وساعد في ذلك ايضا تحويل الامبراطورية الفارسية الى ما يعرف الآن بإيران وساعد في ذلك ايضا الاضمحلال الذي حدث للوجود البريطاني على الحدود الشرقية لافغانستان و ظهور كيانين جديدين هما باكستان والهند . وفيما بين هاذين القسمين من المتغيرات بقيت في افغانستان كيانات و عرقيات كل منها محدد بهويته و عاداته و تقاليده الخاصه به والتي ارتأت ان تمتزج فيما بينها وان تدخل في اطار واحد وهوية واحدة هي افغانستان ؛والتي ظهرت من تلقاء نفسها و بفعل هذه الضغوط والمتغيرات و بدون ان تكون هناك حاجة سياسية فعلية لهذا الظهور على ارض الواقع ؛ و من هنا يأتي الانطباع السائد بأن الافغان لا يستطيعون البقاء بدون مناوشات او مواجهات اوحتى بدون حروب يخلقون اسبابها بالطريقة التي يرونها مناسبة ، بل انهم قد يسيرون باتجاه هذه المناوشات او حتى الحروب بدون وجود مبررات او اسباب قوية لذلك ؛ وهذه هو سر عدم الاستقرار شبه الدائم الذي تعاني منه الكيانات والعرقيات المكونة لافغانستان .
&فقد وجدت افغانستان نفسها على حافة الصراعات الشديدة بين الامبراطورية الروسية و امبراطورية بريطانيا العظمى ؛ ولم تستطع ان تبقى بمعزل عن هذا الصراع الذي كانت تصلها منه لطمات او صفعات تعمل على تشكيل حدودها و تمزج بين كياناتها . وافغانستان ليست جديدة عهد على هذه الصراعات بل انها ظلت طوال تاريخها تعاني من تلاطم امواج القوى العظمي المحيطة بها والتي تحاول مد نفوذها و بسطه على تخوم جديدة تكون افغانستان خلالها في اوضاع تدفعها الى بذل مساعي تهدف لتلاحم كياناتها و جمعها مع بعضها البعض في وجه الامواج الخارجية القادمة من عدة جهات في آن واحد . فالامبراطوريات التي كانت تشق طريقها عبر القارة الاسيوية تندفع في زهوة نشاطها و عنفوان قوتها نحو افغانستان والامبراطورية الفارسية ليست استثناء لذلك ، كما ان الولايات المتحدة هي الأخرى قد وجدت في افغانستان ضالتها بعد خروج الاتحاد السوفييتي منها .
&فالافغاني كمقاتل ، ظل يكافح و يناضل ضد الهجمات التي كانت تأتيه من كل صوب وحدب عملاً منه على جمع كيانه بمعزل عن هذه الهجمات و كان آخرها هجمات القصف الجوي الامريكي الذي لم يكن للمقاتل الافغاني قدرة على مواجهته ؛ ولم تنفع الافغان قدراتهم القتالية التي اكتسبوها من اقتتالهم الداخلي فيما بينهم ومن صراعهم ضد القوى الخارجية التي كانت تحاول فرض هيمنتها عليهم وهي القدرات التي ازدادت قوة من طبيعة ارضهم و وعورتها ؛ لم ينفعهم ذلك في الحفاظ على استقرارهم او في مواجهة القصف الجوي الذي تعرضوا لـه بعنف و قسوة لم يعهدوها من قبل . ولكنهم ظلوا كعهدهم قادرين على رفض السيطرة ا لمركزية القادمة من كابل و منقسمين على انفسهم الى كياناتهم و عرقياتهم الكثيرة وكل فئة فرحة بما لديها وقانعة وتعمل على المزيد من التقوقع حول ذاتها ظناً منها ان هذا من مصلحتها ولكنه لا يؤدي الا الى زيادة عدم الاستقرار والفوضى وانعدام الامن والسلام ؛ وهي سمة افغانستان المعهودة على مر الاجيال .
&والعرقية الأقوى والاكثر تمثيلاً في افغانستان هم البشتون الذي ينتمي اليهم كرزاي . ولكن افغانستان تتكون ايضاً من عرقيات الهزارة والطاجيك والازبك الذين شقوا طريقهم في اروقة الحكومة الانتقالية الحالية و حصلوا على التمثيل فيها بما يوصف بانه تقاطع المصالح و تباينها بين هذه العرقيات في مواجهة العرقية الرئيسية في البلاد ؛ وتبع ذلك وصول قادة الميليشيات للوزارات و مراكز النفوذ .
&فالماريشال محمد فهيم رئيس ميليشيا الطاجيك في شمال البلاد يرأس وزارة الدفاع ؛ والجنرال دوستم الذي ينوب عنه في الوزارة يرأس ميليشيات الأزبك في الشمال ايضا وله من النفوذ الكثير في الحكومة الانتقالية الحالية . وهو مشهور بانه لا يأبه لحقوق الانسان و يفعل أي شئ لتعزيز سلطته و قام بالكثير من التجاوزات مؤخراً خلال حملة الولايات المتحدة ضد طالبان واستخدامها لتحالف الشمال الذي ينتمي اليه كقوة بديلة لضرب قوة حركة طالبان و تنظيم القاعدة .
&و ما تهدف اليه الامم المتحدة هو القيام بنزع السلاح من هذه الميليشيات كسبيل وحيد لاحلال الاستقرار والسلام في افغانستان ؛ وان يتم نزع السلاح من خلال برنامج جديد و واقعي والذي يقوم على نزع السلاح واعادة تأهيل المقاتلين في مناطق اقامتهم و اعادة تكامل الكيانات الافغانية مع بعضها البعض .
&و قد قرر الرئيس حامد كرزاي ان يرشح نفسه لرئاسة افغانستان في وجه معارضة من اولئك الافغان الذين يرون فيه قائداً معيناً من الغرب و يعمل حسب الاملاءات الغربية و نيابة عن واشنطن في الحكومة الافغانية الانتقالية . وهو امر واضح للمراقب السياسي الذي لا يخفىعليه ان الرئيس كرزاي من اشد المدافعين عن المصالح الامريكية في افغانستان ومما لا شك فيه انه لو تمكن من الفوز بمنصب رئيس افغانستان في انتخابات يونيو القادمة فانه سيقدم التعاون الكامل للرئيس بوش .
&و لكن كيف لهذه الانتخابات ان تعقد على ضوء اوضاع عدم الاستقرار السائدة في ربوع البلاد ، فالشهور الماضية قد شهدت مقتل 400 شخص في نزاعات مختلفة في ارجاء البلاد . و هذا يشمل وقوع مواجهات بين القوات الامريكية و بقايا طالبان او تنظيم القاعدة ؛ و يشمل كذلك قتل موظفي الهيئات غير الحكومية و غيرهم من المدنيين وكذلك وقوع اعمال تفجير في انحاء متفرقة من افغانستان .
&و تبقى المحصلة الرئيسية هي ان افغانستان في اوضاع انقسام و عدم استقرار لا تحسد عليها وهي ليست ناتجه بالضرورة عن البيئة الجديدة التي ظهرت بسبب التواجد العسكري ا&لامريكي ولكن بسبب الانقسامات الطائفية البارزة بين الطائفتين السنية والشيعية في افغانستان و كذلك بسبب الانقسامات التي تتركز على محاور عرقية صرفة والتي تؤجج نيران المواجهات العرقية لأتفة الأسباب .
&كيف يمكن للابعاد الجغرافية والعرقية والاوضاع الدينية ان تسمح بتشكيل حكومة افغانية على مسار الدولة و مكوناتها في العصر الحديث ؟ هناك دستور جديد ولكن كان هناك دستور قبل ذلك ولم يؤثر شيئاً ولم يكبح هذه المواجهات او يضع حداً لها . لا يوجد هناك ضمان من ان تتمكن اوراق الدستور الذي تم الاتفاق عليه بشكل مبهم من قبل 502 عضو اجتمعوا تحت خيمة اعدت لهذا الغرض من الحصول على الاحترام الذي يليق بها من ابناء الشعب الافغاني الذين يعيشون بعيداً عن العاصمة الافغانية كابل و في الاجزاء النائية من افغانستان . فهذا الدستور لا يزال يتعرض للانتقاد من جهات عديدة لانه لن يكفل احترام القانون و تمكين المرأة من نيل حقوقها ولن يحافظ على حقوق الانسان بالشكل الذي يرضى جميع اطياف الشعب الافغاني .