حديث أجراه أشرف عبد الفتاح عبد القادر
&

ذهبت للقاء د. سيد القمني وأنا أتذكر رحلة المفكرين الليبراليين التنويريين، ابتداء من الشيخ علي عبد الرازق وكتابه"الإسلام وأصول الحكم" في سنة 1925، إلى طه حسين وكتابه "في الشعر الجاهلي" سنة 1926،مروراً بمحاكمة د. فرج فوده والحكم عليه بالإعدام، مروراً بقضية د. نصر حامد أبو زيد، ووصولاً إلى طعن كاتبنا العالمي الكبير نجيب محفوظ من أجل روايته "أولاد حارتنا"، انتهاء بدكتور سيد القمني وكتابه"رب الزمان". واثناء زيارتي الى القاهرة قبل اشهر، زرت السيد القمني في بيته. فكان هذا الحوار الطويل الذي ننشر حلقته الثانية:
&

* ما مخاطر تجاور الآيات الناسخة والمنسوخة؟
-& خطر كبير جداً، لأنه بتجاور المتشابه والمحكم والناسخ والمنسوخ، مع عدم ترتيب زمني يوضح ما رفع وما بدل وما ثبت وما أنسى وما فقد، أصبح المسلم في حيرة من أمر دينه والتبست عليه أحكامه وتناقضت مواقفه، وهو ما أدى إلى بروز دور رجال الدين في دين لا يعترف برجال الدين، وقد أصبح لهم مبرر وجود ضروري كمتخصصين تكون مهمتهم التوسط بين الله وبين الناس لشرح كلمته لهم وإيصالها إليهم، ليحل المتوسط الشارح بفهمه وشرحه محل النص القرآني ويتحول كلامه إلى نص جديد مقدس، بل وتلتبس القدسية بأصحاب الشروح من سدنة الدين عبر التاريخ، هذا رغم أن هذا التوسط مرفوض بل مدان إسلامياً، لأن الإسلام لا يعترف بالكهانة ولا يقر بوجود رجال دين مسلمين، ومع ذلك لم يستح بعض المسلمين من استثمار وضع المصحف لصالح أنفسهم بالعمل كرجال دين محترفين، بل وصنفوا لكل طريقة "يونيفورم" كالزي الشيعي للملالي والأزهري للمشايخ إلخ. لإثبات تميزهم عن بقية المسلمين، وإثبات أنهم طبقة كهنوتية إسلامية من نوع خاص.
وأصر هؤلاء على إيهام المسلمين بقدسية الحبر والأحرف والورق وترتيب المصحف فيها. وبسبيل هذه القدسية وجد رجال الدين فرصاً هائلة لتبرير هذا الوضع بعلوم اخترعوها ومفاهيم وضعوها وقواعد استنوها لا تسمح للمسلم العادي بمعرفتها والتعاطي معها كأدوات لفهم دينه (رغم أنها أدوات لتعقيد هذا الفهم). وأصبح كلام الله هو لغز الألغاز وسر الأسرار المستغلق على الإفهام، بدلاً من أن يكون واضحاً بسيطاً سهلاً ساطعاً للمؤمنين به.
&
* لكن هذا ما حدث في جميع الأديان، فهي في البداية كانت بسيطة. ثم عمد رجال الكهنوت لتعقيدها لتصبح مغلقة على العامة ليكونوا هم الأوصياء على شرحها.
- هذا هو ما حدث في الإسلام أيضاً فضمن تلك العلوم جاءت علوم القرآن، لتضع لنا الحكم البواهر في استمرار وجود آيات تحمل أحكاماً بطل العمل بها في حياة النبي نفسه، وعن الأسرار الربانية في وجود أكثر من حكم إزاء فعل واحد، ولماذا نأخذ بحكم منها ولا نأخذ بالآخر رغم وجوده في آيات تتلى يتعبد بها المسلم. أو لماذا الإصرار على تفعيل أحكام ضاعت آياتها من المصحف العثماني كحكم رجم الزاني المحصن ولأن& الله قال : "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، فإنهم يأخذون دور الله هنا& كنواب له فلا يعترفون بهذا الضياع الذي حدث، ويأخذون بأحكام السنة بدلاً مما ضاع ويصرون على حكم رجم الزاني المحصن، وحتى يتم تبرير تفعيل حكم دون نص أو لوجود نص معطل الحكم أو لوجود الحالين مجتمعين.
&
* إذن رجال الدين وضعوا بذلك أسس الكهانة في الإسلام؟!
- إنهم يستغلون الدين أسوأ استغلال، ويضعون حكمتهم البالغة في تقسيم النسخ أنواع على ثلاثة أشكال، ولكل شكل ضروبه. وينتقلون من المتشابه إلى المحكم وبالعكس، ويرصون على أرفف المكتبة العربية قواعد وقوانين ومفاهيم جعلت مكتبة الإسلام أكبر مكتبة في التاريخ لدين من الأديان، كلها صياغات بشرية شابهتها شواغل المصالح والتحالفات وأفاعيل السياسة، ولبست ثوب القدسية دون مبرر واضح واحد، ويضع لنا الفخر الرازى مثلاً تفسيره لسورة الفاتحة في مجلد من ثلاثمائة صفحة،رغم وجود إشارات في علوم القرآن لا تعتبر الفاتحة قرآناً إنما هي من قبيل الافتتاح بأدعية وتسبيح وتقديس قبل قراءة القرآن.
&
* الباحث الليبي الصادق النيهوم أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة جنيف (سويسرا) يقول إن الرجم لا وجود له في الإسلام وإنما أخذه الفقهاء من التوراة. ما تعليقك؟
- فقهاء الإسلام طبقوا التوراة بدل القرآن في حد الرجم. فلا وجود لحد الرجم في القرآن.
&
* ما الذي يجب عمله للتخلص من ذلك؟
- يجب تقديم النصوص للمسلمين مرتبطة بواقعها وزمنها مرتبة زمنياً، ذلك كفيل بحل كثير من التعقيدات التي تجعل
المسلم بحاجة دائمة لمفسر ومفتى معاً. وهى في اعتقادي عملية يسيره يمكن القيام بها إلى جانب المصحف العثماني لو اجتمع لها أهل الهمة، خاصة مع وجود المصادر الكافية المفصلة التي تساعد على إتمام هذا العمل من كتب تأريخ إلى سير،إلى أخبار إلى حديث، ودون تدخل من علم الفقة أو اعتماده أصلاً، في شكل يسير سهل التناول يصل بين المسلم ومقدسه ولا يفصل بينهما ليضع المشايخ في الفراغ بينهما.
&
* هل هذا ما كنت تعنيه بقولك سابقاً "التناقضات الداخلية"؟
- هذا مثال يبرز المقصود بالتناقضات الداخلية، التي تستبعد المؤمن العادي وتضع مفاتيح الآخرة بيد السدنة وتسمح بانتهازية الدين واستخدامه بما هو ضد الدين والناس والله لصالح فئة واحدة هي حلف الحكام والفقيه التاريخي الرذيل.
&
* الإسلام وعلوم العصر، كل مخترع علمي يحاول المتأسلمون إيجاده في القرآن.ما تعليقك علي ذلك؟
- القرآن ليس كتاب علم، بل هو كتاب دين روحي، وهناك تناقضات تتراكم كل يوم وليلة بينه وبين واقع الحياة المتغير المتبدل دوما، خاصة مع الإصرار على تغطية الدين لكل صغيرة وكبيرة في حياتنا ولكل شأن عظيم أو تافه. ومع القفزات الهائلة التي حققها المنهج العلمي في حياة البشرية، أصبح المسلمون يدينون بكل معاشهم وعمارتهم وعلاجهم وسعادتهم وترفهم لهذا المنهج وأصحابه في بلاد الغرب ومع الشعور الأكيد بالتخلف إزاء المتفوق وكيف أصبحت خير أمة أخرجت للناس في قاع رتب الأمم، فقد زاد ذلك من الشعور بالعار وبطريقنا المعهود في علاج العار قام جهابذتنا يؤكدون أننا سبقنا للغرب في كل المعارف، وأنها كانت مكنونة مصونة في طيات ألفاظ مقدسنا ونحن لم نكن نعلم. دون أن تقدم تلك الجهود شيئاً حقيقياً ملموساً في حياتنا إلا المزيد من التخلف مع كل زيادة لمساحة المقدس في حياتنا.
&
* الإسلام وحقوق الإنسان. كيف نوفق بينهما؟
- مع التطور العلمي الإنساني الذي رافقه تطور على المستوى الأخلاقي نحو مزيد من ضمان الحريات الفردانية وحقوق الإنسان. وانتهت كبرى وصمات العار في التاريخ البشرى عندما كان الإنسان يسترق أخيه الانسان، وأصبحت فترة قبيحة مدانة في تاريخ الإنسان. ومع ذلك يصر حماة الإسلام وسدنته على تدريس أحكام أبواب فقه كامل للعبيد، وأحكام ثلاث وعشرين آية تشرع الرق والسبايا وملك& اليمين. ورغم أننا تقدمنا بهذا الشأن بدراسات تبيح إلغاء أحكام تلك الآيات وبعض الآيات الأخرى عند الضرورة، مع مبررات هذا الإلغاء فقهياً وشرعياً ومصلحياً (أنظر مثال لذلك كتابنا الفاشيون والوطن)، فإن سادتنا المشايخ حملوا علينا حملة رجل واحد ودارت معركة ضارية ضروس لم ير فيها سادتنا المشايخ فيما نقول سوى أنه لون من الهذيان وردوا علينا بالتكفير الديني والتخوين الوطني بجمود معتاد لا يفعل أكثر من إقصاء المختلف ونفيه واستبعاده.
&
* مع أن نسخ الآيات القرآنية التي لم تعد صالحة لزمانها مشروع، فقد مارسه القرآن بالناسخ والمنسوخ، ونسخ الصحابة مثل أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم آية المؤلفة قلوبهم، وآية الفيء وغيرهما، كما بين ذلك د. محمد عابد الجابري والأستاذ العفيف الأخضر. فما تعليقك؟
- هذا صحيح. لكن مشايخنا أعماهم التعصب والجمود العقائدي والذهني يرفضون التفكير لأنه أشق عليهم من التكفير السهل، انهم يعيشون في تناقض لا أول له ولا آخر ويصرون في الوقت نفسه على أن الإسلام أول من وضع حقوقاً للإنسان!!! وأن تلك الحقوق جاءت كاملة نقية من كل شائبة، بينما حق الاعتقاد مثلاً وهو أس ولب وجوهر تلك الحقوق حق مرفوض إسلامياً دونك ودونه حد الرده، رغم أنه بذلك يتدخل في أشد المناطق خصوصية هي منطقة الضمير حيث هناك الحرية المطلقة، وحيث لا يمكن الاطلاع على دواخله ولا التدخل فيه.