د. شاكر النابلسي&
&
&
عندما ظهرت توجان الفيصل الناشطة السياسية الأردنية من أصل شركسي، والتي انتهت الآن كعارضة سياسية لها (شنّة ورنّة) في الأوساط السياسية الأردنية والعربية. ولها مقعد عالٍ في المؤتمرات والندوات النسائية العربية، كانت ظاهرة غير مسبوقة في المجتمع الأردني السياسي المحافظ. وكما كان ذلك الرنين العالي الايجابي لظهورها كناشطة سياسية، كان لظهورها أيضاً أثره السيء في المجتمع الأردني وفي الأوساط السياسية الأردنية من حيث أن توجان كانت المثال التحرري النسوي المتقدم للمرأة. وكانت تتصرف اجتماعياً وسياسياً وكأنها لا تعيش في المجتمع الأردني المحافظ، بل كانت تتصرف وكأنها تعيش في مجتمع فرنسي أو ايطالي. فبالاضافة إلى مظهرها الجذاب وجمالها وأناقتها كانت ذات أفكار تحررية كثيرة سابقة لزمان المجتمع الأردني ومتحدية لكثير من تقاليد هذا المجتمع وعاداته الاجتماعية والسياسية مما سبب لها في داخل مجلس النواب وخارجه وفي أوساط الجماعات الإسلامية وفي الشارع الأردني المحافظ الكثير من المشاكل والمشاكسات والعقبات التي أدت في النهاية إلى هزيمتها في الانتخابات الأردنية فيما بعد، بل إلى هزيمة النساء المرشحات، نتيجة العقدة النفسية والاجتماعية والسياسية التي سببتها توجان للناخب الأردني الذي سبق ومنحها صوته وأدخلها إلى البرلمان الأردني.
&
-2-
امتازت توجان الفيصل كناشطة سياسية بالجرأة والصراحة. وقد ساعدها في ذلك أنها من الأقلية الشركسية في الأردن، وهي أكثر الأقليات تحرراً وانفتاحاً اجتماعياً. وانها تعمل تحت ظل الحكم الهاشمي الذي يتعاطف مع الشركس لولائهم الشديد للعرش الهاشمي حيث ما زالوا حتى الآن الحراس الداخليون في القصور الملكية بلباسهم الشركسي التقليدي. كما أن الحكم الهاشمي يتعاطف كثيراً مع المرأة ويحاول بشتى الطرق افساح المجال أمامها في التعليم والعمل ما أمكنه ذلك. بل لا نغالي إذ نقول بأن الحكم الهاشمي في الأردن من أكثر الأنظمة العربية تحمساً لقضايا المرأة ومناصرة له. وهو في كثير من الأحيان يتحدى تقاليد المجتمع وانغلاقه ويحاول أن يدفع بالمرأة إلى الأمام في كافة المجالات. ولعل نظام الكوتا النسائية التي قررها الملك عبد الله الثاني في البرلمان الحالي اكبر دليل على ذلك حين أدخل رغماً عن المحافظين ومجموعة كبيرة من الإعلاميين، ست نساء وسط معارضة كبيرة من رموز المجتمع الذكوري الأردني.
إضافة لذلك فإن سماحة الهاشميين النادرة مع المعارضة وكرم أخلاقهم السياسية دفعت الملك عبد الله الثاني إلى العفو عن توجان الفيصل في عام 2003 واخراجها من السجن بعد أن تم الحكم عليها بالسجن 18 شهراً لقذفها وذمها رموز الدولة الأردنية وهو ما عزز من مكانة توجان السياسية ونصبّها كزعيمة سياسية معارضة في الأردن. وهو ما قام به الراحل الملك حسين في التسعينات تجاه ما يُطلق عليه زعيم المعارضة الأردنية الآخر ليث الشبيلات.
وهذه العوامل ساعدت توجان الفيصل على أن تتبوأ المكانة السياسية التي هي فيها الآن.
&
-3-
كان الرأي العام الأردني ينظر إلى توجان الفيصل نظرة حب واحترام وتقدير على شجاعتها وصراحتها ونظافة يدها بل وتفانيها في فضح قضايا الفساد في الأردن ودفاعها عن حقوق الانسان داخل الأردن وخارجها وتبنيها لقضايا حقوق المرأة. وكان المجتمع الأردني يفخر في أن يكون بين جنباته امرأة ناشطة ونظيفة كتوجان الفيصل, ولكن عندما ظهرت قوائم (أصحاب الكوبونات) اصيب جانب صغير من المجتمع الأردني وهو جانب الشرفاء الخلصاء الاتقياء الأوفياء للحق والحقيقة بصدمة كبيرة عندما علموا أن توجان على ذمة جريدة "المدى" العراقية كانت من أصحاب الكوبونات النفطية العراقية (الكوبون الفضي لأقل من تسعة ملايين برميل، والذهبي لأكثر من تسعة ملايين برميل، والبلاتيني لأكثر من خمسة عشر مليون برميل) وكان كوبون توجان يحوي& - باسم الله ما شاء الله -على ثلاثة ملايين برميل. وعندما ظهرت هذه الأخبار وانتشرت في العالم العربي انتشار النار في الهشيم احمّرت وجنات توجان. وعندما سُئلت عن هذه الملايين من البراميل، لم تنكر وجود هذه الملايين الثلاثة من البراميل، ولم تجد غير القصة التي روتها لتبرر بها هذا الفضيحة التي ذهبت بالعذرية السياسية للمعارضة المرموقة سابقاً توجان الفيصل.
&
-4-
قالت توجان في بيانها الصحافي غير المقنع، انها عملت كوسيط لمساعدة صديق أردني هو عبد الرحمن القطارنة، وهو ناشط سياسي وشخصية معروفة في الأردن كما وصفته توجان، على شراء ثلاثة ملايين برميل نفط. وقد تمّ هذا بصفة القطارنة مستشاراً أصلاً لشركة نفطية ويعمل في مجال النفط في الحصول علي صفقة نفطية عراقية عادية وفي إطار المتاح قانونياً وحسب شروط الأمم المتحدة. لكنها اشارت الى أنها لم تجن أية أرباح من هذه القضية. وقالت إن وزارة النفط العراقية، كانت توافق علي منح الشخصيات السياسية القريبة من الموقف السياسي للعراق المناهض للسياسات الامريكية تسهيلات، وأنها ضمن هذا الاطار حصلت علي الوكالة لعبد الرحمن القطارنة باعتباره يعمل في تجارة النفط ومفوضاً عن شركة عالمية. وبالفعل تدخلت توجان لدى بغداد وطلبت مساعدة القطارنة الذي طلب التوسط للجهات العراقية للتعامل معه. وقالت توجان انها قبلت التوسط بسبب صداقتها للقطارنة، وبسبب معرفتها بالخسارة الكبيرة التي تعرض لها جراء عمله السياسي والوطني. وعليه، صدرت بقرار من السلطات العليا في بغداد وكالة لبيع ثلاثة ملايين برميل مخصصة للبيع بموجب برنامج النفط والغذاء الدولي. غير أن هذه الوكالة صدرت باسمها وليس باسم القطارنة. وعندما عادت لعمان واكتشفت الأمر، قيل لها في بغداد ان تعليمات من القيادة صدرت بتخصيص الكوبونات باسمها فأكدت انها طلبت للقطارنة وليس لنفسها بسبب تعرضه لخسائر كبيرة جراء مشاركته بفعالية في القضايا السياسية الوطنية والقومية. عندها قيل لتوجان الفيصل من قبل مسؤولين عراقيين أن لا احدا يجرؤ علي سحب الوكالة التي صدرت باسمها، وما عليها إلا العودة لبغداد لكي تفعل ذلك. وبالفعل عادت للعاصمة العراقية وتنازلت عن الحصة التي صدرت باسمها لصديقها القطارنة. وهي رواية أكدها القطارنة نفسه بالتفصيل علنا، مؤكدا فعلا بأنه طلب بصفته مفوضا عن شركة عالمية من توجان مساعدته والتوسط له. وبأنها لا علاقة لها من قريب او بعيد بالمسألة وأن لديه كافة الوثائق التي تثبت روايته للأحداث. مؤكدة انها توسطت لدي بغداد عدة مرات بقضايا سياسية وتجارية في سياق مسؤولياتها، بما في ذلك إطلاق سراح معتقلين أردنيين.& ("القدس العربي"، 29/1/2004).
&
-5-
يتساءل أكثر القراء غباءً وأنا واحد منهم، الأسئلة التالية:
-&&&&& ما دام القطارنة كما تصفه توجان من الناشطين السياسيين الأردنيين المرموقين والمحتاجين إلى مساعدة مالية من الحكم الديكتاتوري المنهار، فلماذا لم يذهب بنفسه إلى بغداد ليحصل على هذا الكوبون الفضي، وهو المناضل المرموق والمعروف لدى الحكم الديكتاتوري العراقي المنهار كباقي المناضلين القوميين الآخرين المعروفين. ولماذا كلّف توجان بذلك، وهي التي لا ناقة لها ولا جمل في هذا المسعى، كما تدّعي؟
-&&&&& لماذا كانت توجان شخصية سياسية مسموعة الكلمة كما كان حال ليث الشبيلات لدى الحكم الديكتاتوري المنهار، دون غيرها من السياسيين الأردنيين كعبد الرحمن القطارنة وغيره. ولماذا كان الحكم الديكتاتوري المنهار، يلبي رغبات توجان الفيصل دون غيرها ماعدا ليث شبيلات وفخري قعوار وسالم النحاس وكلها أسماء أردنية، وردت في قائمة (أصحاب الكوبونات) من السياسيين الأردنيين في عدة مرات في قضايا سياسية وتجارية في سياق مسؤولياتها بما في ذلك إطلاق سراح معتقلين أردنيين؟
-&&&&& وهل لولا استعمال توجان الفيصل بوقاً ضلالياً ومزوراً من قبل الحكم الديكتاتوري المنهار، هل كانت توجان تجد في بغداد ولدى الحكم الديكتاتوري المنهار آذاناً صاغية لطلباتها، وتوسلاتها؟
&
-6-
ويتساءل أكثر القراء غباءً وأنا واحد منهم، الأسئلة الأخرى التالية:
-&&&&& لقد كانت توجان الفيصل تتصدر السياسيين العرب من الرجال والنساء الذين كانوا يدافعون عن حقوق الانسان في كل مجال عربي، فلماذا كانت توجان تلتزم الصمت حيال ما كان يجري في العراق من انتهاك فاضح لحقوق الانسان العراقي؟
-&&&&& لقد كانت توجان الفيصل تتصدر السياسيين العرب من الرجال والنساء دفاعاً عن الحرية والديمقراطية، وتنسى الحرية والديمقراطية المفتقدة في العراق، وتلتزم حيالها الصمت؟ فقد كانت توجان الفيصل أقل (اصحاب الكوبونات) مدحاً للنظام الديكتاتوري العراقي المنهار، ولكنها في الوقت نفسه كانت أكثرهم صمتاً عن جرائم هذا الحكم. فالحكم الديكتاتوري العراقي المنهار لم يكن يشتري الكلام فقط، ولكنه كان يشتري الصمت الذهبي كذلك، وهو أبلغ من الكلام الفضي.
-&&&&& لقد أقامت& المنظمة العربية لحرية الصحافة في لندن& في 16 /5/ 2002 الدنيا ولم تقعدها على تداعيات سجن محكمة أمن الدولة الأردنية لتوجان الفيصل، لأن الحكم صدر عن محكمة عسكرية في ظل قانون الطوارئ، ولأن الحكم صدر في قضية رأي، ولأن الاتهامات التي حوكمت على أساسها توجان الفيصل كانت محاولة من السلطة التنفيذية لإبعاد شبهات التربح من قرارات زيادة التأمين على السيارات في الأردن عن بعض أعضائها. فلماذا سكتت توجان الفيصل عما كان يجري في العراق في العهد الديكتاتوري المنهار، وهو ما يمثل مخالفات وفضائح أكبر بكثير مما كان يجري في الأردن؟
&
-7-
لقد أضافت توجان الفيصل بفعلتها المُشينة تلك، خيبة جديدة إلى خيبات المعارضة العربية، كما أنها افقدت المعارضة وخاصة الأردنية الصدقية، وشككت في صوتها المبحوح أصلاً. ولعل استرجال الديكتاتورية في بعض النظم على المعارضة، وسحقها لها في مناسبات كثيرة، ما هي إلا بسبب أصوات لغو الكلام وصمت الكلام اللذين تشتريهما هذه النظم من بعض رموز المعارضة بأبخس الأثمان.
إن فجيعتنا كبيرة وأليمة بالمعارضة الأردنية المتمثلة بليث شبيلات وتوجان الفيصل وفخري قعوار وسالم النحاس - وهم من السياسيين والكتّاب - وغيرهم من الأسماء، ممن ستكشف عنها القوائم القادمة التي وعدت جريدة "المدى" العراقية بكشفها في الأيام القادمة.
إن هذه الرموز السياسية والثقافية التي تمَّ الكشف عن زيف خطابها وعدم صدقيتها وشرائها من قبل الأنظمة الديكتاتورية العربية تدق آخر أسفين في نعش المعارضة العربية وخطابها الأجوف، للأسف الشديد.
فهل هناك فاجعة بعد هذه الفاجعة؟
وما هو الصوت الحق الذي سيقود الشارع العربي غداً، في كافة قضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟
لا صوت صادقاً حتى الآن!
كاتب ومفكر أردني
&
مقالات ذات صلة:
التعليقات