داود البصري
&
&
&
قبل أسابيع قليلة مضت كتب أستاذنا الجليل الدكتور سيار الجميل مقالا أكاديميا جميلا أشار فيه بإسهاب للدور التخريبي الذي لعبه إرهابيو الثقافة البعثية الشوفينية في العراق في تشويه التاريخ العربي والإسلامي عبرفرض رؤاهم وتفسيراتهم الجاهلة والسطحية للعديد من زوايا ومفاصل الأحداث التاريخية المهمة، وكنت أنوي التعقيب المباشر على مقالة الدكتور الجميل لولا حدوث تطورات سياسية متسارعة تطلبت مني تأجيل الحديث في التاريخ قليلا والتمعن والكتابة في الفتن والبدع السياسية والطائفية المستجدة في العراق وتصاعد الإرهاب المترافق مع إصطفاف الفاشية الدينية والجهل والجهالة في زورق إنتحاري واحد!، لذلك فإنني أعود اليوم لمتابعة مناقشة ذلك الموضوع الحساس الذي تطرق إليه الدكتور سيار الجميل نظرا لأهميته الفائقة في تشكيل الرؤى والرأي العام وفي خلق ثقافة تاريخية وسياسية مهمة لها إعتباراتها في تكوين الأجيال فكريا وسياسيا وسلوكيا.
لقد جنى البعثيون على التاريخ العربي والإسلامي جنايات سوداء كما هو دأبهم في ميادين الحياة الأخرى وإهتموا ضمن مشروعهم الثقافي والتخريبي الناقص والعبثي والسطحي بالتاريخ العربي إهتماما إستثنائيا وخصصوا من أجل ذلك الميزانيات الضخمة، كما حاولوا خلق شرطة أكاديمية للتاريخ العربي تغربل كل الكتب والدراسات والروايات والرؤى والتفسيرات التاريخية وتخضعها لمشرط ومقاييس أمن الدولة البعثية المستبدة للخروج بنتائج تتطابق وتصورات فكرهم المريضة للتاريخ والناس والمجتمع، وقد إهتم الدكتاتور البائد صدام حسين بالتاريخ وتنبه لخطورته الفكرية والمنهجية وأبدى منذ مراحل مبكرة وهو يتهيأ لإقامة سلطة الموت المستبدة إهتمامه بالتاريخ داعيا إلى ماأسماه بالعودة ( لكتابة التاريخ من جديد) وفقا للمنهج والرؤية البعثية السقيمة وإخضاعا للنصوص والأحداث والتطورات والتفسيرات لفكر الحزب الواحد البعثي الفاشل والذي لم ينتج مفكرين ولا فلاسفة بل أنتج هذا الحزب شرطة أمن ورجال أقبية سرية وجلادين يمارسون الإغتصاب الجماعي ليس للأجساد المرهقة بل لعقول العراقيين ومداركهم الحرة، لذلك فقد شهدت الجامعات العراقية وداخل أسوارها حملات تثقيف وغسيل دماغ تاريخية وسياسية موجهة ومستمرة من أجل خلق أدوات تاريخية وباحثين للتاريخ ومبشرين بالمشروع الفاشي البعثي يؤمنون ويعملون وفقا للرؤية البعثية الظلامية والشوفينية والعنصرية والطائفية وحدها فقط لاغير، فلاحرية سوى للفكر البعثي! ولاتاريخ إلا من خلال التاريخ البعثي، حتى الناصر صلاح الدين الأيوبي تم إغتصابه قوميا وتبعيثه تاريخيا وإسباغ صفة العروبة عليه من أجل أن لاتكون هنالك نماذج حضارية رائعة ومتميزة من الشعوب الأخرى ولو كانت شقيقة كالشعب الكردي مثلا! فصلاح الدين الأيوبي مثلا تحول بقرار من مجلس قيادة الثورة لمناضل قومي عربي ولربما ناصري أو بعثي وقد يكون من حملة الفكر الجماهيري القذافي!!! ومن يحاول المجادلة وتحكيم النصوص التاريخية والمصادر البحثية فمصيره يكون عند ذاك في دائرة الأمن العامة فهي الفيصل ومنها تنتزع الشهادات العلمية وفي أقبيتها وسراديبها تتم كتابة تاريخ الأمة العربية من جديد!، وعن طريق دوائر الأمن والمخابرات البعثية تسود الملاحم والإنتصارات القومية والفتوح الجليلة!.&
شخصيا كنت أحد الشهود العمليين على صناعة التاريخ في المدارس العراقية فلقد كنت منذ عام 1977 من دارسي التاريخ في كلية الآداب في جامعة البصرة، وكانت تلك المرحلة التاريخية بالذات مهمة للغاية لأنها شهدت بداية تبلور المشروع الفاشي البعثي بشكله الصدامي المرعب، وحيث كانت تهيأ الساحة الوطنية فكريا ومنهجيا وسلوكيا لخوض غمار المغامرات العسكرية اللاحقة التي أجهزت على العراق وحولته لما نراه اليوم، وتعايشت حينها مع الأفكار والتوجهات والرؤى التي يراد لها أن تسود وتمنهج الحياة العراقية، وكان الإعتماد في ذلك على جمهرة متميزة من أساتذة التاريخ من العراقيين والذين لم تزل أسماؤهم رغم غبار ومعارك السنوات الطوال ترن في ذاكرتي كالأساتذة التالية أسماؤهم ولاأدري اليوم ماحل بهم رغم أن بعضهم قد قتل في الحرب مع إيران مثل الدكتور لبيد إبراهيم أحمد فيما تعرض البعض لتعذيب سلطوي رهيب مثل الدكتور عناد فواز الكبيسي، أما الباقي فلاأدري حقيقة ماذا فعل بهم الزمان أو فعلوا به:
د. عبد الجبار ناجي، أستاذ التاريخ الإسلامي والمدن الإسلامية، د. جهاد مجيد، د. سامي عبد الحافظ القيسي، د. عبد اللطيف الحميدان، د.فاروق العمر، د. نوري عبد البخيت السامرائي، د.قحطان سليمان الناصري، د. بهجت كامل التكريتي، د. عبد الجليل عمران، د. سوادي عبد محمد، وآخرون لاتحضرني أسماؤهم حاليا ولكنني أتوقف عند أحد الأساتذة والذي كان لوحده مشروعا تبشيريا بعثيا من نمط خاص وهو د. مصطفى عبد القادر النجار إبن مدينتي البصرة ورئيس مركز دراسات الخليج العربي في جامعة البصرة، ثم الأمين العام لإتحاد المؤرخين العرب منذ أواخر الثمانينيات وحتى غزو دولة الكويت!
وحيث إنقطعت أخباره حاليا ويقال أنه قد تمت تصفيته ولاأعلم الخبر اليقين، المهم أن الدكتور المذكور كان صاحب دراسات مهمة عن تاريخ الخليج العربي وقضية شط العرب تحديدا ومن ملفاتها إستمد صعوده القيادي حزبيا ووظيفيا وكان داخل المحاضرة والتي تدور حول تاريخ الخليج العربي يمتدح بمناسبة وبدون بمناسبة صدام حسين مؤكدا أنه ( صقر الخليج الحقيقي )! وليس مجموعة الشيوخ في الخليج! ومن أن عروبة الخليج في خطر لولا وجود صدام!! ومن أن الدنيا تبتدي بصدام ولاتنتهي إلابه!؟، وإن من يخالف صداما وتوجهاته الفكرية والسياسية فهو جاهل جحود! وكان الأستاذ المذكور يؤكد على حتمية الحرب مع إيران حتى قبل وقوعها ومنذ أن حدثت ثورتها وأتذكر جيدا أنه كان من المنظرين لعمليات التهجير الطائفية التي جرت في نيسان/ابريل عام 1980 وقد برر العملية وقتها بصراحة قائلا أنها أي عمليات الإبعاد والتسفير لآلاف العراقيين خطوة إحترازية لعدم تعاون رأس المال الذي يمتلكه بعض التجار مع المرجعيات الدينية ولكي لايتكرر تحالف البازار مع المجتهدين كما حصل في إيران!! وإن هذه من التوصيات المهمة في إجتماعات هيئات الأمن القومي العراقية وقتها!!.&
لقد كان التاريخ ملعبا وملاذا لحكام البعث الفاشي لترجمة طموحاتهم المريضة ومن أجل خلق ثقافة تاريخية مزيفة ومزورة ووفقا لقواعد متطرفة وجاهلة لاعلاقة لها بمنهج البحث التاريخي المعروف!، فمثلا كانت مراقبة الأبحاث والدراسات التاريخية واحدة من اهم مهمات البعثيين عبر مطاردة النصوص وملاحقة الأفكار وشن الحملات على أصحاب الرؤى والتفسيرات والإجتهادات التاريخية الخاصة وأتذكر جيدا أن سلطات البعث قد شنت حملة شعواء ضد المؤرخ العراقي حسين قاسم العزيز قادها فاروق عمر فوزي من على صفحات مجلة ( آفاق عربية ) ضد كتابه الموسوم ( البابكية.. ثورة الشعوب الأذربيجانية ضد الخلافة العباسية )!! وقد منع الكتاب من التداول وسحب من الأسواق بعد إتهام صاحبه بالنظرة الشعوبية ومعاداة الخلافة العباسية!!! ولاأدري أن كان البعثيون يعتبرون بني العباس من أتباع ميشيل عفلق وبالتالي لاتجوز محاكمتهم تاريخيا!!، المهم إن الدراسة التاريخية في زمن البعث النافق قد أصابها التدهور الشديد الذي أصاب جوانب الحياة الأخرى في العراق بعد أن تم إغتيال روح المبادرة ومنهج التفكير الحر ووضعت القيود الأمنية الإستخبارية على مناهج البحث التاريخية، ولكنني على ثقة من أن المستقبل القريب وبعد إنحسار قوى الظلام وإندحار الإرهاب وسيادة الديمقراطية سيشهد إنطلاقة قوية لعلم البحث التاريخي في العراق والمشهود له تاريخيا بالتميز والتفوق عبر مدرسة صالح أحمد العلي وعبد العزيز الدوري وحسين أمين وعبد الرزاق الحسني وغيرهم الكثير، وإن مرحلة البعث السوداء كانت إنعكاسا مأساويا للسقوط الحضاري والفكري وهي مرحلة أرجو أن تكون ضمن ملفات التاريخ المطوية، فالبعثيون أجرموا بحق التاريخ العربي مثلما أجرموا بحق المجتمع والدولة في العراق، وسيلعنهم التاريخ كما لعن كل الفاشست والقتلة.&