كنت على وشك الفوز بسبق صحفي بإجراء لقاء مطول مع ثاني أشهر القضاة العراقيين وهو القاضي رزكار محمد أمين رئيس المحكمة الجنائية التي تحاكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين وعدد من أعوانه في محاكمة تاريخية قل نظيرها من حيث إهتمام العالم بمجرياتها حتى عدها الكثيرون بمحكمة القرن.فقد سبق القاضي رزكار في الشهرة محمد فاضل المهداوي رئيس محكمة الشعب الذي ترأس محاكمة أقطاب العهد الملكي بعد نجاح ثورة 14 تموز، وطبعا مع الفرق الواضح بين الرجلين،فأولهما رزكارالقاضي القوي الذي ضرب مثلا في النزاهة والحياد، ووصل ذروة الخلق الرفيع في عراق الإنحطاط،فكان قويا مقتدرا في إدارة جلسات المحاكمة، والثاني هو المهداوي القاضي الذي كان ممثلا مسرحيا أكثر من كونه قاضيا، وكان متعصبا لنظام الحكم الجديد فكان على أدنى درجات الحياد والنزاهة في العراق الناهض في ذلك الوقت، فشتان بين الإثنين.

هذا الرجل الذي يمتلك كنزا من المعلومات حول ما دار في الجلسات التاريخية الست التي سبقت الجلسات الأخيرة.

خرجت من اللقاء الذي جمعني بالقاضي رزكار بخفي حنين لتحقيق سبق صحفي من خلال إنطاق هذا الرجل الذي يمتلك كنزا من المعلومات حول ما دار في الجلسات التاريخية الست التي سبقت الجلسات الأخيرة التي تحولت فيها المحاكمة الى مسرحية هزلية شبيهة بالمهداوية في غياب العناصر الأساسية لمحكمة عادلة، فالمعلومات التي يمتلكها رزكار لا تقدر بثمن خاصة وأن امورا كثيرة حجبت عن المتابعين للمحاكمة،ولم أكن آسفا لفقدان تلك الفرصة احتراما لقراره لأنني حظيت بما هو أكبر من السبق الصحفي،وهو التشرف بالجلوس على مائدة فطور مع القاضي الذي شملني بلطفه ولباقته بكرم الضيافة،فخرجت من عنده بمشروع هذا المقال الذي أكتبه متأثرا بما شاهدته وعاينته في هذا الرجل بهدف الإحاطة بأسلوب حياته داخل أسرته ومدينته، وهو الأسلوب الذي طغى على إدارته لجلسات المحاكمة التاريخية لرموز أحد أبشع أنظمة الحكم الدكتاتورية القائمة على وجه الأرض،وهو الأسلوب الذي كان محل إنتقاد وإنتقاص من لا يفهمون في الأسس القانونية التي يفترض بالقاضي النزيه والعادل أن يحترمها. ولعل الضرورة تقتضي في هذا المقام أن نذكر أن هؤلاء الجهلة هم جزء من مجتمع شوهت الدكتاتورية قيمه النبيلة وأحلت بدلا عنها قيم النذالة والخسة في الزمن الأعجف،وللأسف إنتصر هؤلاء على حكمة القاضي رزكار الذي أدار جلسات المحاكمة الأولى بقوة وإقتدار فكان قويا وأمينا لمبادئه وللقسم القانوني الذي أداه.ويقول الباري عز شأنه على لسان إحدى بنات النبي شعيب( إن خير من استأجرت القوي الأمين)،فكانت شخصية رزكار قوية مكنته من الإيفاء بالأمانة التي دعا المولى أن نحفظها ونؤديها الى أهلها، ولكنها في الأخير ذهبت الى من لا يؤديها حقها.
بدا رزكار من خلال حديثه متأثرا الى حد ما ليس لإعتزاله رئاسة المحكمة وإعتكافه الحالي في البيت، بقدر ما إستشفت من نبرة حديثه المطول شعوره بغصة وألم من بعض الذين ظلموه ولم يوفوه حقه المهدور في خضم ضوضاء إعلامية مدفوعة من بعض الجهات(..)،وتعرفت من خلال تصرفه معي على جزء من شخصية هذا الرجل الذي ضرب مثلا في النزاهة والحكمة والروية في إدارة أحد أهم المحاكمات في التاريخ المعاصر.
هذا الرجل بإختصار يعيش في زمن (حاتم الزهران)،وقد يكون هو آخر الرجال المحترمين في القضاء العراقي الذي كنا نتشوق لرؤيته شامخا مستعيدا هيبته وإستقلاليته في العراق الجديد حريصا على تحقيق العدالة المفقودة في هذا الوطن الذي رزح تحت نير العبودية والحرمان من الحرية وإستقلالية القضاء لعقود طويلة من الزمن، وإذا بنا نفاجأ بمن يحن الى زمن محاكمات المهداوي أو محكمة السيء الصيت عواد البندر، فيريد من خلال تدخله السافر في شؤون المحكمة تشويه قيم القضاء العادل مدعوما من أوساط حاكمة كانت في الماضي ضحية وتحولت اليوم الى جلاد مكرر، فمن يدري لعل أقبية السجون والمعتقلات الحالية في العراق تعاد على جدرانها كتابة صرخات المساجين كما الأمس حيث كانت صرخات المكبوتين تكتب بالدماء وأعتقد أنها تكتب اليوم أيضا بالدماء.وهذا ما كان يسعى رزكار الى عدم تكراره من خلال أدائه الرائع داخل المحكمة التي كان يمثل أمامها عواد البندر رئيس ما كانت تسمى بمحكمة الثورة السيئة الصيت.
أراد رزكار أن يغير المعادلة، ويمحو من الذاكرة الجمعية صورة الحاكم الجلاد، لكنه أخطا التقديرلأنه لم يدرك أنه في الزمن الخاطيء وهو زمن حاتم الزهران؟
رزكار( الـنازوك وإبن الأوادم) باللهجة العراقية الذي يخدم ضيوفه بنفسه وإن إلتقاه لأول مرة، ويتواضع بحمل صينية الشاي بيده لينحني بقامته المهيبة أمام هذا الضيف الغريب، أليس من الظلم أن يظلم هذا الرجل على أدائه داخل قاعة محكمة تسلطت عليها أضواء جميع وسائل الإعلام العالمية حتى أثرت تلك الأضواء الخارجة من البروجكترات على عينه فيضطر بين فينة واخرى الى قطع الحديث عن ضيفه ليضع بعض القطرات من الدواء يعالج بها عينه اليمنى؟.
أليس من الظلم بعينه أن ينتقد من لا يعرف رزكار المتضلع في القانون والمتبحر في الأصول الجزائية على إدارة محكمة تاريخية بوزن محاكمة صدام الذي يعتبر أول رئيس دولة عربية يحاكمه شعبه على جرائمه بحق الانسانية، فإذا كان رزكار كريما الى الحد الذي عرفناه عنه مع ضيف غريب، فلماذا لا يكون كريما مع الآخرين حتى وإن كانوا متهمين ماثلين أمامه؟. فهو رجل يعرف أن من بديهيات القضاء العادل هي المبدأ القانوني الذي ينص على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.والمتهم إنسان له حقوقه القانونية حتى وإن كان صداما أو برزانا.، وأعتقد أن القاضي العادل لا يليق به أن يرقص طربا إذا صفق له الجمهور داخل أو خارج المحكمة، فالتصفيق حتى في مباريات كرة القدم إنما يكون للفريق الذي يقدم أدائا رائعا على الساحة،وليس من العادة أن يصفق الجمهور لحكم المباراة.
لقد تجنى المنتقدون عليه ولا ندري ما الذي عابوه في إدارته للمحاكمة؟، فهل الإتزان والحكمة واللباقة والألتزام بمعايير العدالة أمور يعاب عليها الفرد أيا كان؟ ثم أيهما كان أجدى للعراق أن يعطي قضائه إنطباعا مشرفا للعالم ويغير الصورة التي عرف بها القضاء في زمن الدكتاتورية، أم إعادة عجلة التاريخ الى عهد المهداوي ومحاكماته الهزلية التي تحولت الى نوادر وفكاهات تروى على ألسنة الشعب الذي كانت الأحكام تصدر بأسمه في محكمته؟.
نحن نعلم أنه كانت هناك ضغوطات داخلية وحتى خارجية لتنحي رزكار عن المحاكمة،فالضغوطات الداخلية معروفة عن أي جهة صدرت، وهي جهات ما زالت تحن الى سحل الناس في الشوارع، ولكن الغريب أن تتناغم تلك الضغوط مع أخرى خارجية، ولعلها هي أيضا لها علاقة ما بالمأزق الأمريكي في العراق وتهدف الى إمتصاص نقمة الشارع العراقي على صدام وزبانيته، ولكن أيهما كان أسلم للعراق المتحرر من الدكتاتوريات الغاشمة، تسليم الطاغية الى الهاتفين بالسحل في شوارع بغداد أو أحياء مدينة الصدر، أم تسليمه للعدالة التي يبدو أنها ما زالت مفقودة في العراق ما دامت القسوة العراقية لا تزال على حالها رغم سقوط جمهورية الخوف؟.
إذا كان الطبع يغلب التطبع كما يقول المثل، فإن رزكار هو إبن الأوادم الذي تأبى نفسه أن ينحدر الى مستوى الرعاع، وأسلوبه في إدارة جلسات المحاكمة لم يكن منحولا أومتكلفا أو متصنعا، فهذا الأسلوب هو جزء من شخصيته ومن تكوينه الثقافي والأسري ومن الصعب عليه تغييره، فهو لا يستطيع أن يغير جلده مثل بعض الثعابين التي تتلون جلودها بحسب لون العشب أو البيئة التي تعيش فيها، وهو غير قادر على سماع هتاف البعض(إعدم..أعدم)!.
هذا هو رزكار الذي يعرفه أبناء مدينته، رجلا صادقا في مواقفه، قوي الأعصاب، هادئا هدوء النسيم،بسيطا متواضعا حريصا على عدم إهدار حق أي شخص يحاكمه، ولعل هذه الصفات مجتمعة هي التي أهلته ليقود تلك المحاكمة التاريخية، فلم يخطيء الذين رشحوه لرئاسة هذه المحكمة،ولكن الخاطئون هم الذين لم تعجبهم طريقته في تحقيق العدالة بأقصى درجاتها في هذا الزمن الأعجف.
اليوم هناك محاكمة لكراسي فارغة بعد أن تمكن البعض من إسقاط رزكار محمد أمين من على فرسه الأبيض. وهنا يكمن الفرق بين من يعش لغده المشرق، ومن يحن الى الماضي التليد حيث السحل وقطع الرؤوس بالفؤووس.
عندما ودعت رزكار أردت أن انحني أمامه تقديرا لموقفه الشجاع برفض الخضوع لإبتزاز أو ضغط جهة ما، وأن أشكره على ما قدمه من أداء رائع داخل المحكمة بما بيض فيه وجوه أبناء شعبه والمتطلعين الى عراق جديد تتغلب عليه قيم الديمقراطية والحرية ولإنسانية، بدل قيم البداوة والثأر والقتل الجماعي، فقد كبر هذا الرجل في عيني فيما صغر الآخرون من الساعين وراء الشهرة والأضواء الزائلة.
وقدر رزكار في هذا الزمن الأعجف، أن ينزوي في بيته الذي لا يحرسه حارس رغم كبر المهمة التي أداها بمحاكمة أحد أكبر الرموز الدكتاتورية في العالم والذي ما زال الكثيرون يستميتون من أجل عودته الى الحكم، ويترك رزكار الساحة أمام بعض اللاهثين وراء الشهرة ممن يستجيبون لتصفيق الجمهور متذرعين بشعار (الجمهور عاوز كده).
ويبقى رزكار شامخا شموخ جبل (أزمر) المطل على مدينته الجميلة، ويكفيه فخرا و شرفا ما بعده شرف أنه أعطى صورة حقيقية لنزاهة القاضي المجرد من الأهواء والعصبيات، وأن يكون نموذجا قل نظيره في القضاء العراقي في هذا الزمن الأعجف.

شيرزاد شيخاني

[email protected]