محاكمة الأنفال: مباركة أنتِ ياأخت الرجال

وأخيراً، ها هي أم الشهداء وأخت الرجال تجلس بشموخ أصيل في مواجهة حفنة من الطغاة، حفنة أذاقت الشعب العراقي بجميع مكوّناته وشرائحه الأمرين على مدى عقود طويلة مظلمة، حفنة اعتمدت في قمعها إرادة الحرية أكثر الوسائل قساوة وبشاعة، ولم تتوان عن ارتكاب أقذر الموبقات وأشدّها خسّة ودناءة؛ ومع ذلك يصّر زعيمها نفاقاً على حمل القرآن الكريم، يتستّر به في لفتة سوقية تسيئ إلى القرآن نفسه، وإلى مشاعر المسلمين الحقيقيين الذين يتابعون من موقع السخط لعبة الرياء والتدجيل، اللعبة التي كانت وما زالت حيلة التزمها الأدعياء بأسمائهم المختلفة وأدوارهم المتباينة، هذه الأدوار التي تتمفصل حول محور جوهره الإستمتاع بمشاهد الخراب، والتلذّذ بعذابات الناس وآلامهم.
كم أنت سامية أبية أيتها الأخت الفاضلة وأنت تواجهين طواغيت الموت بقسمات مهيبة فيسود الهلع والتقزّم. تسردين مأساتك ومأساة شعبك بلغة واضحة بسيطة، وبمنطق متماسك يستمد قوته من عدالة القضية، وحجم الجريمة الكارثة. منطق تتهاوى أمامه مزاعم الخصوم، وترتدّ عليهم مناوراتهم، لتغدو مجرد بهلوانيات صفراء تثير الشفقة قبل الإبتسامة الحزينة.
باليسان، قرية مسالمة، شأنها في ذلك شأن الآلاف من القرى الكردية في كردستان العراق؛ كان أهلها يقضون أوقاتهم بين الأرض والمرعى، ويحرصون على أداء الصلوات الخمس في المسجد. ولكن فجأة انهالت عليهم حمم الكراهية والغدرالتي أردا بها أصحابها اقتلاع بذرة الكردي من جذورها، فبحثوا مسعورين عن كل ذكر بصرف النظر عن العمر والموقع، ولم يسلم من وحشيتهم حتى الحجر. لكن إرادة الحياة لا تخمد، والحق العادل يظل هو الأقوى. وها نحن اليوم نشهد جميعاً القروية الكردية الأمية العزيزة تسطّر أبدع الملاحم وأروعها بإبائها النقي، وهدوئها المعبّر، وذاكرتها المتخمة بالتفصيلات الدقائق التي دوّنت بالدم والدمع ما تعجز أقوى الأقلام عن مقاربته، أو الإفصاح عنه.
إنها ساعة القصاص العادل حتى تهدأ أرواح الآلاف من الشهداء الذين كانوا ضحايا عُقد عصابة من المعتوهين المتوحشين، عصابة أنهكت البلاد والعباد. لكن الطامة الكبرى تتمثّل في مزاعم وترّهات حشد المستفيدين، وأولئك المغررين الذين سلبتهم أدوات الإيديولوجيا الديماغوجية، وحملات غسل الدماغ، القدرة على التمييز بين الحق والباطل، بين الضحية والجلاد. فهؤلاء ما زالوا يعيشون أوهاماً مرضية لا شفاء منها سوى التأمل والتمعن في روايات الشهود التي تكشف النقاب عن الفصول الأفظع في حملات العار، حملات الأنفال التي التهمت على مرأى ومسمع الجميع أكثير من 180 الف أنسان مسلم، فقدوا حياتهم نتيجة الحقد البعثي على انتمائهم القومي.
والأغرب والأشنع في اللوحة باسرها، هو أن يتنطّع هذا المحامي المستفيد أو ذاك المغرور من دون مسوّغ، ليحاول بحجج واهية، ومنطق بائس زائف مزيف فبركة انطباع مفاده أن الضربة كانت إيرانية، أو أن الإجراء برمته كان وقائياً لتفادي الخطر الإيراني. لكنها محاولات خائبة، سرعان ما تنحل وتتلاشى في فضاء مروجيها، وذلك بفعل وقار الضحية، وذاكرتها الحادة الصادقة التي لاتترك لزمرة السلطان أية فسحة للإقتناص أو التملّص.

د. عبدالباسط سيدا