المعارضة السورية: لنعترف بالقصور ونعمل على النهوض


علينا ان نعترف أن الواقع التنظيمي الراهن لجملة الفصائل والقوى التي تمثّل الجسم الأساس للمعارضة الوطنية السورية لايرتقي إلى المستوى المطلوب، ولايتناسب مع طبيعة التحديات القائمة ودرجة تعقيدات التبعات الناجمة عنها. والوضعية هذه لاتعد النتيجة المنطقية لحالة النهوض والحراك التي شهدها المجتمع السوري على وجه العموم، وحركته السياسية على وجه التخصيص قبل أعوام؛ وبلغت ذروتها بعد اغتيال الرئيس الحريري، والخروج القسري للجيش السوري من لبنان. فقد اعتقد الكثيرون أن الأوضاع هي في طريقها إلى التغيير السريع في سورية، الأمر الذي أدى بالعديد من القوى الكامنة إلى الإنتعاش، والتحرك في مختلف الإتجاهات، استعداداً لتقلّد المهام والمسؤوليات في العهد السوري الإفتراضي الجديد. وهنا حدث خلل استراتيجي في عمل المعارضة السورية، حدث يتقاطع في أوجه عدة منه مع ذاك الذي حدث في صفوف المسلمين - هذا مع اقرارنا بالبعد الزمني الفارق وتباين الموقع والوظيفة في السياق الدلالي - أيام غزوة أحد. ففي الوقت الذي كانت الفصائل الأساسية تعمل على تعميق مقوّمات التفاهم والتنسيق بين المواقف والصفوف، تمهيداً لتوحيدها، وتركيز الجهود على المهمة الكبرى الملحة آلا وهي التغيير السلمي الديمقراطي للنظام، انطلقت مجموعات أخرى - نسجل الملاحظات على قدراتها، و على أسلوب عملها - بسرعة عجيبة أفقدتها بوصلة الإتجاه والقدرة على التماسك والتوازن في اتجاهات متنافرة متناثرة، متوهمة أن يوم الخلاص قد حان؛ لذلك لاذت واستعانت بالقريب والبعيد، وتجشّمت عناءات الحل والترحال، استعداداً للتبرّك بنياشين العهد الجديد المأمول، وألقابه الرسمية السامية.
وقد أدّى التحرك العشوائي ذاك غير المبرمج، المفتقر إلى المنهج، إلى حالة من الإضطراب والتشنج بين صفوف المعارضة، حالة استهلكت الكثير من الوقت والجهد؛ إلى جانب الحد من عنفوان الأمل والتفاؤل وذاك هو الأخطر. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن السلطة من جانبها لم تكن بعيدة كثيراً عن جهود الخلخلة وتكريس مناخ عدم الثقة، وبث روحية اليأس، فضلاً عن حملات الإدعاء والتزييف والتستّر بالشعارات البرّاقة، وتحريك الأوراق الإقليمية؛ وغير ذلك من العوامل التي تفاعلت مع تلك الخاصة بالمعارضة ذاتها بنية وتوجهاً. وتجسّدت الحصيلة في تجزّر المعارضة وتشتتها بين واحدة داخلية، وأخرى خارجية؛ وفي إطار هذين التحديدين الرئيسيين نشهد جملة من التصنيفات الفرعية مثل: المعارضة الإسلامية، والقومية العربية، والكردية، والليبرالية، والعَلمانية وغيرها من التوجهات والأطياف التي لاضير منها ولاضرار في ظل وجود تنسيق منهجي بينها، يفسح المجال أمامها لأداء دورها في مجالها الحيوي من جهة، وينجز صيغة من التفاعل فيما بينها من جهة ثانية، صيغة تستمد مشروعيتها وقوتها من القواسم الوطنية المشتركة. لكن الطامة الكبرى تكون حينما يتصرف أنصار هذا التوجه، أو ذاك الفصيل على أنهم يمثلون المبتدأ والخبر والمنتهى، والآخرون لامحل لهم من الاعراب؛ أو أنهم مجرد هوامش تزيينية، تُستخدم آداة للتعمية وترطيب الخواطر، لا أحجار الزاوية الأساسية، تهيئ البنيان لمشروع وطني أصيل متماسك يكون بالجميع وللجميع؛ مشروع يطمئن الجميع، ويسد الطريق بالفعل على شعوذات النظام وأحابيله، هذا النظام الذي يبدو أنه قد اختار رفع شعار المواجهة الشاملة، على أمل انقاذ الرأس، ورفع سقف الصفقة التي يبدي استعداده بمناسبة ومن دونها للتداول بشأنها، ويُرسل الإشارات العلنية والسرية، يتوسّل بالرسل والوسطاء، ولكن كل ذلك من دون جدوى حتى الآن؛ لذلك ترك قناع الحمل جانباً، وكشّر عن أنيابه وأبرز مخالبه، لينهش بها جسم الوطن وأصواته الحرة. يقمع ويلاحق ويعتقل، وسيقتل إذا تسنّى له الأمر. يهدد ويتوعد، وفي الوقت ذاته يسعى بأساليب بخسة الأثمان من أجل إحداث الشروخ في النسيج الإجتماعي والموقف الوطني. يتقوّى بالدعم الإيراني الذي سيكون في سياق المعادلات المختلّة وبالاً على مستقبل الأمن القومي العربي، هذا إذا تجاوز المرء الحسابات الفئوية المحدودة النطاق والأفق. كما يعمل النظام المعني هذا على تسليم لبنان إلى مصير كارثي يهدد جميع أهله بغض النظر عن الطائفة أو الاتجاه أو الموقع السياسي؛ هذا ما لم تتسلّم الحكمة المتزنة ريادة الموقف بقصد ضبط التوازن، ونزع صواعق الإنفجار، وإعلاء شأن الإنتماء الوطني، ليغدو الأساس في بناء الصداقات، وتعميق العلاقات مع المحيط القريب والبعيد.

إن المهام المنوطة بالمعارضة السورية هامة وكبيرة، لاتتلخص في تغيير النظام وحده، بل تتجاوز ذلك إلى ضرورة المحافظة على سلامة الوطن ووحدة نسيجه الشعبي، والنهوض به ليكون قادراً على التفاعل مع صبغة العصر وتحدياته، بإرادة مواطنين أحرار، يمتلكون اللقمة والمصير والكرامة. وكل ذلك لن يتحقق ما لم تتجاوز المعارضة واقع ضعفها الذاتي الراهن، وتقطع مع العقلية المثالية التي ترنو نحو أهداف كبرى ناصعة، لاتكدر صفوها أية مثالب؛ لكنها لاتحدد في الوقت ذاته الآليات الواقعية التي ستمكّنها من بلوغ المبتغى، لتغدو الطموحات المعلنة واقعاً ملموساً يتنعّم الناس بسجاياه الحميدة.

ومن الملاحظ أن النظام قد تنبّه إلى خاصية الضعف هذه لدى المعارضة السورية، لذلك تراه يعتمد من دون كلل أو ملل، أصالة ونيابة، اسلوب دغدغة المشاعر والعواطف، وإثارة الأحاسيس عبر شعارات ثوروية تفتقر إلى ابسط مقومات الواقعية والمصداقية؛ لكنها مع ذلك تؤثر سلباً على قطاعات واسعة من المعارضة السورية، وذلك بفعل جهود الأجهزة الأمنية، وديماغوجية الأجهزة الإعلامية التابعة. ويُشار في هذا السياق إلى مثالين ملموسين كانا ومازالا موضع جدل وخلاف بين الفصائل والقوى والشخصيات التي تشكل بمجملها القاعدة الأساس للهيكل التنظيمي الذي ينبغي أن تنجزه المعارضة السورية، إذا ارادت لسعيها أن يكون مثمراً، ولم تقطع نضالياً مع التضحيات الجسام والعذابات الكبرى التي كلفت شعبنا الكثير.
المثال الأول يخص السيد عبدالحليم خدام الذي ترك مواقعه الرسمية لأسباب تخصه في المقام الأول، وأعلن انضمامه إلى صفوف المعارضة في وضح النهار، وأمام مرأى ومسمع العالم بأسره. ولمعرفة مدى عمق هذا التحول وتأثيره البالغ الموجع في بنية النظام الفاسدة، علينا أن نتذكّر الجلسة الهستيرية التهريجية التي عقدها مجلس الشعب السوري بناء على فرمانات الأمراء اللامرئيين، أولئك الذين أجبروا النواب على توجيه أقذع الكلمات وأشنعها إلى من كان حتى الأمس القريب هو المثال والقدوة بالنسبة اليهم. وكل ذلك ليس بالأمر المستغرب بالنسبة إلىنظام شمولي تسيّره زمرة ضيقة الإطار من الآمرين، زمرة هي فوق القانون- غير الموجود أصلاً - والحساب والمساءلة؛ لكن الغريب في الأمر هو أن العديد من رموز المعارضة استخدم التهم ذاتها، والكلمات عينها، من لائحة الإتهام التي أعلنتها السلطة ضد خدام، وتوجه بالنقد القاسي من دون البنّاء إلى جماعة الإخوان المسلمين، وإلى مراقبها العام الأستاذ علي صدرالدين البيانوني تحديدأ، لخطوتهم التحالفية معه، وكل ذلك يؤكد عدم النضوج، وفقدان القدرة على التكيّف مع المواقف تبعاً لمستلزمات الوضعية وواقع الحال؛ هذا إذا غضضنا النظر عن المؤثرات الأخرى، وتحاشينا المأثور الإنجيلي الشهير: من كان منكم بلا خطيئة فليرم بحجر. فالرجل قد أتى إليكم بإمكانياته وأخطائه، بسلبياته وإيجابياته، يطلب الإنضمام والتعاون، والتنسيق من أجل هدف مشترك هو التغيير الديمقراطي. أما نواياه فتخصه وحده، ومن منا يعلم علم اليقين نوايا أقرب المقربين وخباياه؛ هذا في حين أن مخالفاته تخص المحاكم الوطنية النزيهة المستقلة التي ستحكم عليه وعلى غيره بالحكم العادل لدى تشكّلها واستلامها ملفات الحقوق والنزاهة. وعوضاً عن الإصغاء إلى الرجل، ومد جسور التفاهم معه من موقع نقدي منتج، تحوّل الكثير من المعارضة إلى شعراء وفلاسفة أخلاق، وحراس ضمير، مع أن العديد من هؤلاء أنفسهم كانوا يمنّون النفس بلقاء خدام في دمشق أيام quot;العزquot; السلطوي.
إن أبسط ما يمكن تسجيله على هذا الموقف هو أنه مزاجي، يفتقر إلى الخبرة، ولايليق بسياسي مخضرم محترف عليه ان يكتشف حلقات الوصل، ويعتمد الأدوات الواقعية التي تمهّد لعملية التغيير. والمشكلة هنا هي مشكلة المعارضة التي لم يمكّنها ضعفها الناجم عن الشتات، وعدم التحرر من المنظومة المفهومية للنظام، من استيعاب خدام وغيره من أولئك الذين كانوا أو مازالوا يفكرون في ترك الصف السلطوي. والمرء حينما يرفض امراً عليه ان يقدم بديلاً أفضل. أما ان نمعن في النقد والتشكيك، فستكون العاقبة الجمود العدمي، هذا ما لم تكن - العاقبة المعنية هنا- موضوعاً لتشكيك مقابل، يكون بدوره أطروحة لطباق جديد، وهكذا نستمر في جدل عقيم بينما الآفة الخبيثة تفترس الجسد الوطني وتنهكه..
أما المثال الآخر فهو يخص الحرب الأخيرة التي جرت على الأرض اللبنانية، تلك الحرب التي شنتها اسرائيل بوحشية منقطعة النظير في الثاني عشر من تموز الفائت، واستمرت مدة ثلاث وثلاثين يوما، وذلك بعد قيام حزب الله بأسر جنديين لها. فمنذ اللحظة الأولى أدرك العالم والجاهل، السياسي المحترف والهاوي أن العملية بمجملها كانت في جوانب هامة منها محاولة لتخفيف الضغط عن إيران وملفها النووي، وسعي مستميت من النظام السوري لإنهاء أو عرقلة التحقيق الجاري بخصوص اغتيال الرئيس الحريري، وهذا أمر اكدته المعطيات لاحقاً بعد أن ذاب الثلج وبان المرج، واضطر السيد حسن نصرالله نفسه - على غير عادته- إلى مناقضة تصريحاته السابقة. فنحن جميعاً نتذكر ما ذهب إليه في بداية المعارك على شاشة تلفزيون المنار قائلاً ما معناه، ان عملية خطف الجنديين الاسرائيليين كانت بمثابة الهام رباني استباقي لإفشال عدوان اسرائيلي مبيّت. لكنه بعد انقشاع الدخان، والانتقادات اللاذعة لحملات توزيع الدولار الطيّار، وبعد بروز مؤشرات قوية لتضعضعات بنيوية في المعادلات التوازنية اللبنانية، اضطر السيد نصرالله إلى مواربة الإشكالية بجهله، وعجزه عن استشفاف الأمور مسبقاً، وذلك يجمله تصريحه على شاشة نيوتي في قبل أيام، والمتضمن قوله: بأنه لو عرف مسبقاً أبعاد ردة الفعل الإسرائيلية، لما كان قد أمر بعلمية أسر الجنديين. تصريحان متعارضان إلى حد التناقض، وبينهما كان دمار لبنان، لبنان العمران والإنسان. وما يهمنا هنا يتشخص في تلك المواقف الباهتة المتنافرة التي صدرت هنا وهناك عن فصائل المعارضة السورية، تلك التي انساقت - بإرادتها أو من دونها لا يهم فالنتيجة هي ذاتها - خلف حملات التضليل الديماغوجية التي رتّب لها النظام، وانطلقت تعد الناس والذات بفتح قريب من لبنان، متجاهلة الجولان الأقرب، غير عابئة بخط الوصال والهبات والهوى بين دمشق وطهران. ومرة أخرى أثبتت جملة من فصائل معارضتنا السورية عدم قدرتها على قراءة أبجدية اللوحة السياسية، وانطلت عليها آلاعيب السلطة المكشوفة التي قد أفلحت حتى الآن في تسويق المزيف، وتمكّنت من تفكيك المواقف، وشلّ قدرة الحركة في الموقف المعارض الذي كان من المفروض أن ينشط في مختلف الاتجاهات، خاصة بعد التحولات التي تمت في العراق ولبنان. وفي أجواء متابعة العالم لقضايا المنطقة، وتركيزه عليها. علينا أن نعترف بالقصور، ونبحث عن أسبابه بغية تلافيها، والعمل المشترك الجاد من أجل تغيير ديمقراطي أكيد. وأمر من هذا القبيل لن يتحقق من دون عمل وطني شامل، يراعي الخصوصيات، ويتخطى الحسابات الحزبية والعصبوية بأسمائها كافة؛ عمل ينجز التواصل بين الداخل والخارج، بين المكوّنات والأجيال؛ يفسح المجال واسعاً أمام المرأة لتؤدي الدور اللائق الغائب؛ وكل ذلك لن يوصلنا إلى النتائج المرجوة ما لم نحسن عملية التفاعل مع المعادلات الاقليمية والدولية، نستفيد منها لصالح البلد وأهله، البلد كل البلد. والأهل جميع الأهل.

د. عبدالباسط سيدا