(1)

الثور الهائج يعمل وفق منطق يؤسس لسلسلة كوارث لا تنتهي، ذلك أن هيجانه يثير في نفوس المواجهين له مخاوف وحركات لا إرادية من شأنها أن تشكل استفزازاً لغريزة الهيجان فيه.. وهكذا تتوالى الكوارث خلف غبار من الهيجان المخيف..

(2)

لم يكن انهيار الاتحاد السوفيتي ليُسَجَل على أنه براءة اختراع أمريكية لولا أن نفس ذلك الاتحاد عمل وفق منطق الثور الهائج. ذلك أن دائرة الأحداث التي شكلت منطلقاً حقيقياً ورحماً مستوعباً لولادة تلك الكارثة العالمية كانت أكبر بكثير من مدى التأثير الأمريكي، غير أن منطق الهيجان الذي تحكم بالسوفيت وتعاملهم مع الأحداث من منطلق هيجاني حاد، ضبب الرؤية، وولد الانطباع الخاطئ والذي مفاده بأن ميدان الصراع كان (امريسوفيتي) فقط، ولذلك فمن الطبيعي أن يحسب النصر أمريكي.

بالنسبة لي أرفض رفضاً قاطعاً التصديق بأن التاريخ يمكن أن تحركه قوة عظمى واحدة. التاريخ الإنساني يحركه المجتمع الإنساني كله.. بدون استثناء. ومهما كان ضجيج الضفادع عالياً فإن غير الخبير وحده الذي ينخدع بأصواتها، وينشغل بها عن سماع آلاف الأصوات التي يضج بها المستنقع وتعتبر المولد الحقيقي للحيوية فيه.

(3)

إيران التي تعرف بأنها غير قادرة على أن تكون ثوراً شرقياً يجاري الثور الأمريكي، يبدوا أنها اختارت أن تلعب دور مصارع الثيران، لقد عرفت بأن رأسها لا يتحمل ضربات القرون الأمريكية المجربة تاريخياً، فاختارت أن تصارعه بالشطارة، إيران تعتقد الآن بأن خلطة مصارع الثيران المكونة من (قماشة حمراء و خفة وشجاعة ومرونة) تكفي لأن تصنع منها مصارعاً شرق أوسطياً محترفاً، يواجه الهياج الأمريكي الذي يحبس العالم داخل مدرجات المشاهدين، في حلبة أقل ما يقال عنا أنها هستيرية.

كانت أولى الخطوات التي اتخذتها إيران بهذا الصدد أنها حاولت أن تشتت انتباه الثور الأمريكي، وقد فعلت وبجدارة. وكانت صدمة كبيرة لأمريكا ـ والتي كان إمساكها بالخناق الإيراني أيام خاتمي محكم ـ أنها تتلقى ضربة موجعة إيرانية على خدها الإسرائيلي. أمريكا التي أرادت أن تستوعب الصدمة اكتشفت سريعاً بأن خندقاً إيرانياً يكاد أن يحاصرها داخل العراق، وبدا لها بأنها قدمت وبحركة مغفلة العراق وعلى طبق من ذهب للجمهورية الإسلامية. وعندما حاولت تستدرك مستخدمة فزاعتها التقليدية (المجتمع الدولي) اكتشفت بأن إيران قد اكتسبت مناعة كافية ضد هذه الفزاعة من خلالها استيعابها للدرس العراقي بشكل جيد.

هكذا استيقظ الثور الأمريكي على فجر يوم جديد، جمعه بحلبة واحدة مع مصارع ثيران فتي ومراوغ.. ثم جاءت سلسلة من الأحداث التي تلت تهديدات نجاد لإسرائيل، لتكشف بأن أمريكا اقتنعت بجدارة خصمها وقوته ولكن نفس الأحداث لم تكشف وللأسف عن أنها في طريقها للتخلي عن منطق (الثور الهائج).

(4)

إيران تعمل بمنطق البدائل وهذا ما يدعم القول بأنها تفكر كمصارع ثيران. أمريكا تعمل بمنطق المواجهة المباشرة وهذا ما يدعم القول بأنها تفكر كثور هائج.

مع الثور لا تنفع إلا إستراتيجية التشتيت، أي جعل الثور يهاجم الهدف غير الحقيقي. شيء يشبه حرب الأشباح، وإيران تعمل على أن تجعل أمريكا تناطح شبحها فقط، شبحها الذي يظهر مرة في العراق ومرة في لبنان ومرة في سوريا.

مصارع الثيران الذي تحاول أن تكونه إيران، لا تنفع معه المواجهة المباشرة. وخاصة من قبل ثور واحد، لذلك فأمريكا في طريقها لضرب جملة من الأشباح، بدلاً من إنهاك جسد خصمها الحقيقي.

نعم يمكن لمثل هذه المواجهة المباشرة أن تنجح عندما تكون من أكثر من طرف. فمهما كان المصارع بهلواناً ومراوغاً، فهو حتماً لا يستطيع مجارة هياج أكثر من ثور واحد. وهذا ما بدا على أمريكا أنها استوعبته، خاصَّة وهي توقظ المخاوف الطائفية لدى سنة الإقليم من تحول شيعة المنطقة لغول توجهه إيران، وفعلاً بدأت مجموعة من دول الإقليم بالتحول لمجموعة ثيران هائجة ضد إيران. غير أن أمريكا وفي أفعال غير مفهومة سرعان ما شتتت هذا الجهد، عندما عادت للمواجهة المباشرة في ميدان مصارعة ثنائي. التصريحات المُسْتَفَزَّة الأخيرة لبوش وما سبقها من تحركات لحاملات الطائرات وتكثيف لعدد الجنود في العراق.. كل ذلك يكشف عن أن أمريكا لم تبارح بعد منطقة الثور، وأنها لا تستطيع أن تجاري الصبر الإيراني وهو يحيك الدسائس وينتظر بخمول الكسالى نتائجها التي يطبخها على نار هادئة جداً.

طبيعة التعامل الأمريكي مع الملف الإيراني يوحي لي بأن ديمقراطيتها ترهلت كثيراً وهي تقود حروبها التي امتدت على طول زمنها الدموي.. وربما يدعوني هذا الإيحاء للقول بأن الديمقراطية غير قادرة على المطاولة في ميادين الحروب والنزاعات، وخاصة تلك التي تكون على الشاكلة الأمريكية.

(5)

المهم في خضم كل هذا الصراع هو الموقف الذي يجب على الحكومة العراقية أن تتخذه وهي التي تقف لحد الآن في المنطقة الوسط بين ثور هائج ومصارع مراوغ. هل ستتحول إلى خرقة حمراء بيد إيران، أم لقرون على رأس أمريكا؟ أم أنها ستنقسم بين هذا وذاك؟

ما على الحكومة أن تفهمه هو أن منطق المصارع سيدفع بإيران للبحث عن أشباح أو بالأحرى عن فزّاعات وليس عن دروع. وما عليها أن تستوعبه أيضاً هو أن منطق الثور سيدفع بأمريكا لتدمير كل من يقف بطريق هدفها المباشر، وحزب الله مثال واضح جداً على نتائج المنطق اللذي يحكم هذا الصراع، فإيران لم تتخذ من حزب الله درعاً، خوفاً من اختراق القذائف له ووصولها إليها. لذلك بدأ حزب الله يتهاوى بعيداً عن إيران. بفعل القرون الأمريكية طبعاً. بالنتيجة على الحكومة العراقية أن تكون حازمة بقرار الخروج بنفسها وبشعبها وبمصيرها من هذا الصراع المخيف. عليها أن تنأى بنفسها أولاً عن هذا الهيجان الذي بدأ يعم المنطقة ويسرع بها نحو الكوارث. ربما عليها أن تتعلم من السعودية بعض الدروس، فهذه المملكة عمرت طويلاً وسط عواصف الشرق الأوسط الهائلة.. السعودية وكما يبدو واضحاً، أبعد ما تكون عن منطق الثور الهائج، لذلك فهي الأقدر على البقاء وسط الهياج الشرق أوسطي الأخير، ويمكن للحكومة العراقية ان تتعلم منها بعض الدروس.

سعدون محسن ضمد

رئيس تحرير مجلة مدارك

بغداد العراق