محمد ونخيل بني النضير


من المسلّم به أن صاحب العقيدة يدافع عن عقيدته ويبذل الغالي والرخيص في حمايتها، وهذا من المألوف للناس، أما أن يفعل صاحب العقيدة ذلك بإنكار جميع المراجع التاريخية المتوفرة لنا والاعتماد فقط على تأويله للنصوص بغير ما أولها به السابقون، فأمر غير مألوف لنا. ولكن هذا بالضبط ما فعله السيد غالب حسن الشابندر في دفاعه المستميت عن سلوك النبي محمد في حصار قبيلة بني النضير اليهودية.
في بداية المقال أقرّ السيد الكاتب بالمصادر التاريخية فقال (تشير بعض المصادر وفي المقدمة المصادر الأساسية إلى أن النبي الكريم حرق نخيل بني النضير، جاء ذلك في سيرة ابن إسحق والواقدي والطبري وطبقات ابن سعد وغيرها من المصادر). فهذه المصادر هي المصادر الأساسية للتاريخ الإسلامي، كما يقر الكاتب. وأضاف السيد الشابندر: (ليس النقاش في أصل الحرق، ولكن في سعته، ومداه، هذا ما نريد أن نناقشه في ضوء الروايات والاية الكريمة) انتهى.


ولكن بعد هذه المقدمة الاعترافية بالحريق في حد ذاته، إن لم يكن في حجمه، عاد الكاتب، عندما ناقش الآية (ما قطعتم من ليِّنة أو تركتموها قائمة على أصولها) فقال: (يقول القرآن (ما قطعتم من ليِّنة أو تركتموها قائمة...)، فلم نصادف هنا أي ذكر للتحريق، الامر الذي يثير الاستغراب حقا. هذا وسوف نعود لمناقشة رواية عبد الله بن عمر هذه في ضوء تضاعيف روايته وبلحاظ ما جاء في القرآن الكريم وبعض الروايات، حيث سنرى هناك إضطرابا مريعا في روايته هذه) انتهى.


والكاتب يعلم حق العلم أن القرآن ليس كتاباً في التاريخ، بينما كتاب البخاري وبقية المصادر التي ذكرها الكاتب كلها كتب تخصصت في تاريخ غزوات النبي، فبأي منطق رجح رواية القرآن على روايات المؤرخين؟ ثم أن القرآن، كما يقول فقهاء الإسلام، كُتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله العالم. فإذا صحّ هذا القول في القرآن، فهذا يعني أن الله قد عرف منذ الأزل أن جنود محمد سوف يقطعون أو يحرقون بعض أو كل نخيل بني النضير، واكتفي بتسجيل الحادثة دون أن يحاول تغيير مجرى الأحداث ويمنع المسلمين من قطع أو حرق النخيل. وهذا لا يليق بالإله الذي أوصى نبيه بمقولة (من رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). فالإقحام بالقرآن في التاريخ والعلوم يعود في أغلب الأحيان بالتشكيك في القرآن بدل تثبيته.


ويحاول الكاتب أن يُثبت أن القرآن على حق والبخاري على باطل لأن البخاري ذكر الحرق والتقطيع بينما القرآن ذكر فقط القطع، فيقول (( تقول الاية الكريمة (ما قطعتم من لِيْنَةٍ أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين). لم يتطرق القرآن الكريم إلى عملية الحرق، بل القطع وحسب، وكما هو معلوم من جماع الروايات التي تعرضت لقضية النخيل، إن يهود بني النّضير كانوا قد اعترضوا على القطع والتحريق معا (فما بال قطع النخيل وتحريقها) سيرة ابن اسحق ص 121. فكيف يستثني الحرق دون القطع وكلاهما محل إعترض أو تساؤل من قبل يهود بني النّضير؟ مع العلم أ ن الحرق أشد من القطع إيذاء وتخريبا وتدميرا؟)) انتهى.


فكون القرآن استثنى الحرق ولم يذكره بينما ذكره أصحاب النخيل أنفسهم، كما روى عنهم أكثر من مؤرخ، يزيد من احتمال صدق رواية البخاري ولا يضعفها بأي حال من الأحوال. أما لماذا لم يذكر القرآن التحريق واكتفى بالقطع فقط، فهذا أمر لا ينفي وقوع التحريق لأن القرآن عودنا أن يصمت عن أشياء كثيرة لا يذكرها تفصيلاً. ولأن فقهاء الإسلام اللاحقين اعتمدوا على أفعال النبي في استنباط الأحكام الشرعية، فقد أقرّ معظم فقهاء المذاهب السنية قطع وتحريق أشجار العدو، فمثلاً قال الشافعي: (تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل، وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي، ص 81). وفي المدونة لمالك بن أنس (وفى شن الغارات [ قلت ] فهل كان مالك يكره أن تحرق قراهم وحصونهم بالنار أو تغرق بالماء (قال) قال مالك لا بأس أن تحرق قراهم وحصونهم بالنيران وتغرقهم بالماء وتخرب) (المدونة، ج3، ص 8) وفي ذكر مالك لتحريق نخيل بني النضير، تقول المدونة (ذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بنى النضير [ ابن وهب ] عن الليث عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرق نخل بنى النضير وهي البويرة ولها يقول حسان بن ثابت رضى الله تعالى عنه وهان على سراة بنى لؤي * حريق بالبويرة مستطير) (نفس المصدر، ص 9). فإذا كان حسان بن ثابت، شاعر النبي، قد قال شعراً في حريق نخيل بني النضير، وهو شاهد عيان، هل نتجاهل هذه الشهادة لأن القرآن لم يذكر التحريق؟ وتقول الموسوعة الكويتية عن إحراق شجر الكفار في الحرب (32 - إذا كان في ذلك نكاية بالعدوّ، ولم يرج حصولها للمسلمين، فالإحراق جائز اتّفاقاً. بل ذهب المالكيّة إلى تعيّن الإحراق. أمّا إذا رجي حصولها للمسلمين، ولم يكن في إحراقها نكاية، فإنّه محظور) (ج2، ص 82، باب إحراق). فيحق للمسلمين تحريق أشجار العدو الكافر إلا إذا شعر المسلمون بأن الشجر سوف يصير من نصيبهم، فيُحظر عليهم القطع والحرق، وهذا ما حدث عندما بدأ المسلمون بحرق نخيل بني النضير ثم تبين لهم أن النخيل سوف يصير من نصيبهم عندما يستسلم بنو النضير، فأوقفوا الحرق.


وكُتاب السيرة الأخرون يقولون بحرق النخيل، فمثلاً، ابن حبان يقول (ثم زحف إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم يحمل لواءه علي بن أبي طالب، و استخلف على المدينة ابن أم مكتوم، حتى أتاهم فحاصرهم خمسة عشر يوماً، و قطع نخلهم و حرقها، و كان الذي حرق نخلهم و قطعها عبد الله بن سلام و عبد الرحمن بن كعب أبو ليلى الحراني من أهل بدر، فقطع أبو ليلى العجوة، و قطع ابن سلام اللون) (السيرة النبوية لابن حبان، ص 100). ويقول ابن هشام (قال ابن اسحاق: فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها) (ابن هشام، ج4، ص 145)


ثم يدور بنا السيد الشابندر في حلقات في محاولة تفسير معنى الكلمة quot;لينةًquot; التي وردت في الآية، كأن ذلك يغيّر من وقوع الحادث. يقول الكاتب (ولكن أختلف اللغويون إختلافا كبيرا في بيان معنى (لِينة)، الامر الذي يعقّد عملية فهم الاية، فاصل الكلمة يرجع إلى مادّة (ل، ي، ن) وهي ضد الخشونة. فإذا ما أردنا أن نصرف ذلك للنخل فليس من المعقول أن ينصرف إلى كل أنواعها، إذا لا تنطبق عليه عدم الخشونة، ومن هنا قال بعضهم أن اللّيِنة نوع من النخيل وليس كله، فهو صنف من النخيل، وقد قال السهيلي (وفي تخصيصها بالذكر إيماء إلى أن الذي يجوز قطعه من شجر العدو ما ليكون مٌعَّدا للإقتيات، لأنهم كانوا يقتاتون على العجوة والبرني دون اللينة) العسقلاني ص 54 مسحوب على النيت / وفي مفردات الراغب الاصفهاني [ (ما قطعتم من لِينة) أي من نخلة ناعمة... ولا يختص بنوع دون نوع ]، مما يعني إنهم كانوا يقطعون نخلا، ولكن ليس كل أنواع النخل الموجود، بل الناعم منه فقط، ولكن ما هو الناعم من النخل؟ هل المقصود هنا التي لا تحمل ثمرا؟ أم هناك أنواع من النخل تسمّى ناعمة؟ وعلى كل حال، فإن عملية القطع الواردة لا تشمل كل أصناف وأعمار النخل. وقد استشهد صاحب مجمع البيان بشعر ذي الرمة (طِراق الخوافي واقع فوق لِينة بذي ليلة في ريشة يترقرق) حيث أتبع ذلك قوله (فأن اللينة نوع من النخل أي ضرب منه)) انتهى.


وتعريف كلمة quot;لينةquot; لا يغير في الموضوع شيئاً، فجميع المصادر تكاد تتفق في أن اللينة المعنية في الآية هي نوع من النخيل، سواء كان عجوة أو غيرها. فكل أنواع النخيل تثمر تمراً. وقطعها أو حرقها أو قطعها وحرقها كذلك لا يغير شيئاً لأن القطع ما هو إلا حربٌ للناس في مصدر رزقهم. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يأمر فيها النبي بقطع أو حرق أشجار العدو. فقد أمر بقطع أعناب ثقيف عندما حاصرهم ورماهم بالمنجنيق ولم يستطع فتح حصونهم. (فحاصرهم رسول الله وقاتلهم قتالا شديدا وتراموا بالنبل حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله تحت دبابة ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها فرمتهم ثقيف بالنبل وقتلوا رجالا فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف فوقع فيها الناس يقطعون) (تاريخ الطبري، ج2، ص 172).


وفي محاولة يائسة لصرف النظر عما أمر به النبي، يحاول السيد الشابندر أن يجعل القصة صراعاً سياسياً بين الشيعة والسنة، واختلافهم في هل صارت أملاك بني النضير وقفاً على النبي وأهل بيته أم لا، فيقول (إن الرواية التي تحكي عن تقطيع نخل بني النضير وتحريقه بكامله، أو بمديات واسعة جدا تجرّد هذه الارض من قيمتها، ممّا يوحي من طرف خفي أن جعلها بخيراتها خالصة للنبي وأهل بيته كما تقول هذه الروايات / وبعضها روايات سنية صحيحة وبها قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري / موطن تشكيك، أو هي محاولة ذكية في سياق صراع سياسي ومذهبي لتسريب شك دقيق ورشيق في تضاعيف النتيجة المذكورة) انتهى.
ونحن لا يهمنا إطلاقاً لمن صارت الأرض بقدر ما يهمنا من أمر بقطع النخيل اللين، سواء أحرقوه بعد القطع أم لم يحرقوه. وليس هناك من شك في أن النبي هو الذي أمر بقطع النخيل والأعناب.


يقول السيد الشابندر (يروي الواقدي أن محمد صلى الله عليه وأله وسلم كلّف أبو ليلى بقطع العجوة، وعبد الله بن سلام بقطع اللّون، وهي رواية غير مسندة، فضلا عن التشكيك بصدقية الواقدي عند أهل السنة، وعدم أهليته لدى الشيعة أيضا بدرجة و اضحة!! والغريب هنا، فيما يذكر هذا المصدر الذين كلّفهم النبي بالقطع، لم يكشف لنا المصدر نفسه وغيره عن الذين كلّفهم النبي بالحرق) انتهى.


فالسيد الشابندر هنا يهاجم الواقدي لأنه أخبرنا بأسماء من أمرهم النبي بقطع النخيل ولم يخبرنا بأسماء من أمرهم بالحرق. ويبدو أن السيد الشابندر يستهون أمر قطع النخيل ويركز جل أهتمامه في محاولة نفي الحرق. وهل قطع النخيل يختلف عن حرقها. ثم أن نفس السيد الشابندر استشهد بمصدر شيعي لم يذكر لنا مصادره، فهو يقول (تتحدث الروايات الشيعية عن هذا القطع فتحصره في مساحة ضيقة جدا، ففي (بحار الانوار) وهو مصدر شيعي مهم، نقلا عن الكازروني (فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطع نخلهم، وكانت النخلة من نخيلهم ثمن وصيف، وأحبُّ إليهم من وصيف، وقيل: قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، وقيل: كان جميع ما قطعوا وأحرقوا ست نخلات...) 20 ص 165. وفي الحقيقة هناك فرق هائل بين (حرّق نخل بني النضير) وبين قطع ست نخلات أو حتى عشرين نخلة، ويكمن وراء هذا الخلاف سبب سياسي عميق) انتهى.
فمن أين ياتُرى أتى السيد الكازروني بعدد النخيلات التي قطعها المسلمون والقرآن لم يذكر عدداً ولا الأحاديث النبوية ولا المصادر التاريخية المشهورة؟ ثم أن السيد الشابندر قال في بداية مقاله(ليس النقاش في أصل الحرق، ولكن في سعته، ومداه، هذا ما نريد أن نناقشه في ضوء الروايات والاية الكريمة) فبعد أن اعترف بالحرق حاول في آخر المقال أن ينفي أن عملية الحرق قد وقعت، وحتى القطع حاول أن يحصره في ست نخلات. فالاعتماد على مصدر واحد أو على التأويل الشخصي للقرآن لا يمكن أن يضفي شكاً علىالروايات المشهورة والتي تسندها كتب التاريخ التي لا يملك العالم الإسلامي غيرها.