bull;نقض العهد (إشكالية محيرة)!
بنو قينقاع كما يقول صاحب السيرة الحلبية (بضم النون وقيل بكسرها وقيل بفتحها hellip; أشهر قوم من اليهود وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وعبد الله بن أبي أُبي بن سلول، فلما كانت وقعة بدر، أظهروا البغي والحسد ونبذوا ا لعهد لانه صلى الله عليه وسلم كان قد عاهدهم وعاهد بني قريضة وبني النضير أن لا يحاربوه، وأن لا يظاهروا عليه عدوه، وقيل أن لا يكونوا معه ولا عليه، وقيل أ ن ينصروه صلى الله عليه وسلم على من دهمه من عدوِّه وأي كما تقدم، فهم أول من غدر من يهود) / المصدر 2 / ص 208.
نصادف فوضى روائية مؤذية ومزعجة في تحديد المادة أو البند الذي نبذه اليهود فاستحقوا موقف الرسول الجديد منهم ـ وهو موقف في غاية الغموض والإبهام كما سنبين قرييا ــ. فالنص السابق يشير فقط إلى حصول نبذ، ولكن تغيب هوية هذا النبذ!
تطالعنا صور متعددة لهذا النبذ، في سياقات خبرية مضطربة، تحول حقا دون تكوين رأي تاريخي جيد في صدد هذه (الغزوة) في أكثر من نقطة..
رواية ابن اسحق
في سيرة إبن اسحق نلتقي براوية مقتضبة ولكن فيما بعد يفصل فيها إلى حد ما، فهو يثبت في البداية نقض العهد براوية عاصم بن عمر بن قتادة (وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: إن بني قينقاع كانوا أوّل يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله، وحاربوا فيما بين بدر وأحد) / السيرة ص 32 /
هذه الرواية المقتضبة يفصلها نوعاً ما برواية عبد الله بن المسوِّر بن مخرمة، عن أبي عون، حيث جاء فيها (قال إبن هشام: وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون، قال: كان من أمر بني قينقاع أن إمرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرْف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت إنكشفت سوْأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع)/ المصدر ص 32 /
فحسب هاتين الروايتين نفهم أن هؤلاء اليهود بغوا على إمرأة مسلمة، فدفع عنها مسلم، فقتلوه، اي اليهود مما دعا أهل المسلم للإستغاثة بالمسلمين، فأدى ذلك إلى قيام حرب بين يهود بني قينقاع والمسلمين، كما تنص الرواية، فاليهود هم أساس المشكلة هنا، هم الذين بدأوا بشكل وآخر.
هل نستلم لهذه الرواية؟
أولا: إن هذه الرواية تتعارض مع رواية أخرى يذكرها الواقدي في مغازية نقلا عن عروة بن الزبير، وهو أقرب لمزاج علماء رجال أهل السنة من أبي عون، وعاصم بن عمر بن قتادة، وسوف نأتي على شي من التفصيل في هذه النقطة لاحقا.
ثانيا: إن الطبري لم يأت على ذكر قصة هذه المرأة، كذلك الواقدي، مما يعني أن بعض المؤرخين وكتاب السيرة يشككون في صحتها.
ثالثا: إن الرواية أصلا مرسلة، فإن عاصم بن عمر بن قتادة وإن كان ثقة عند رجال السنة ولكن الرجل توفي سنة 120 للهجرة أو سنة 119، فهو متأخر كثيرا عن زمن النص، ولا ندري عمّن روى، كما أن أبا عون الذي هو: محمّد بن عبيد بن سعيد أبو عون وإن كان ثقة ولكن الرجل توفي سنة 116 للهجرة، فروايته مرسلة، وبذلك تكون الرواية بمجملها مرسلة، وبتفصيلها الشارح والمبين لهذا الإجمال هي الأخرى مرسلة!.
رابعا: ومن الغريب أن الرواية تشير أن حربا نشبت بين يهود بني قينقاع والمسلمين، ولكن يبدو هذه الحرب يتيمة، فلا خبر عن قتل، ولا خبر عن بطل، ولا خبر عن أسر، ولا خبر عن سيف أو فرس، مع العلم أن الروايا ت تصف يهود بني قينقاع بانهم أشجع الناس، وهم أهل حرب!
أن مراجعة بسيطة لهذه الملا حظات لا تدعنا نستسلم لهذه الراوية، بصيغتها المجملة، وصيغتها المفصَّلة.
رواية القُرَظي
نلتقي بخلط عجيب في رواية محمد إبن كعب القرظي وهو يحدثنا عن مادة النبذ التي بموجبها تغير موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني قينقاع ــ وهو موقف غامض مبهم مجهول كما سنرى ــ أي من التسالم إلى الحرب كما يقولون. ولاجل تنظيم المادة بشكل مريح، سأضطر إلى ترقيم صور النقض المفترضة كما جاء في تضاعيف الرواية.
الصورة الأولى:
جاء في صدر الرواية (... عن أبي كعب القرظي، قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وادعْـته يهود كلها، وكتب بينهم وبينها كتابا. وألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قوم بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أمانا، وشرط عليهم شروطا، فكان فيما شرط ألاّ يظاهروا عليه عدوا. فلما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر، وقدم المدينة، بغت يهود، وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد). فهنا تذكر الرواية أن يهود بني قينقاع بغت، الأمر الذي يعني إنها خرمت العهد، أو خرمت مادة من مواد العهد، وكل مادة من مواده ملزمة على حدة. والبغي هنا يعني الإعتداء، ولكن أين هو المُعتدَى عليه؟ وكيف حصل؟ الرواية تسكت عن ذلك،. ويلحق (القرظي) بهذه القطعة مباشرة معالجة قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا البغي فيقول (فارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فجمعهم، ثم قال: يا معشر يهود، أسلموا، فوالله إنَّكم لتعلمون أنَّي رسول الله، قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش، فقالوا: يا محمّد لا يغرنك من لقيت، إنَّك قهرت قوما أغمارا، إنَّا والله أصحاب الحرب، ولئن قاتلتنا لتعلمَّن أنَّك لم تُقاتل مثلنا) ص 176. جاء هذا التعقيب مباشرة بعد ذكر نبذ اليهود العهد، وقطعها ما كان بينها وبين محمد صلى الله عليه وسلم، مما يعني أن القطعة هذه ملحقة بتلك الحكاية، أي معالجة لهذا النبذ، ومفاد العلاج هنا،، هو دعوة اليهود للدخول في الإسلام. ومن الغريب أن هذا النص اللا حق، جاء على ذكره أيضا إبن هشام في السيرة مستفتحا حديثه عن الغزوة، فيما أخَّره (القرظي) بعد الإشارة إلى نبذ يهود بني قينقاع العهد، فطريقة سوق القرظي للرواية غير طريقة سوق إبن هشام (القرظي)، سياق إبن هشام كان إفتتاحيا، أفتتح به الحديث، كان منذ اللحظة الاولى دعوة. فيما سياق (القرظي) جاء بعد الإشارة إلى نبذ العهد، مما يدل على أن سياقه كان علاجيا، علاجا لهذا النبذ، فإن النص ليس معنى وحسب، بل منازل ومواقع.
الصورة الثانية:
يقول (القرظي) في روايته مباشرة بعد تلك المعالجة (فبينا هم على ما هم عليه من إظهار العداوة ونبذ العهد، جاءت إمرأة نزيعة، من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع، فجلست عند صائع في حلي لها، فجاء رجل من يهود قينقاع، فجلس من ورائها و لا تشعر، فخل درعها إلى ظهرها بشوكة، فلمّأ قامت المرآة بدت عورتها فضحكوا منها، فقام إليه رجل من المسلمين فاتّبعه فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع، وتحايشوا فقتلوا الرجل، ونبذوا العهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاربوا، وتحصَّنوا في حصنهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم، فكانوا أوَّل من سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجلى يهود قينقاع، وكانوا أوّل يهود حاربت) / المصدر ص 177 /
ولنا ملاحظتان أوليتان على هذين المقطعين (الوسط والعجز) من أصل الرواية، أي رواية محمّد بن أبي كعب القرظي.،
الأولى: إنَّ هذين المقطعين يؤكدان أن نبذ يهود بني قينقاع لما بينهم وبين النبي الكريم لم يبدا مع حادثة هذه المرأة، بل كان قبل ذلك (... فبينا هم على ما هم عليه من إظهار العدواة ونبذ العهد، جاءت أمرآة نزيعة.، من العرب...).
الثانية: إن نص القرظي مشبع بالتأكيد على نبذ بني قينقاع لما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن هناك شيء في داخله يحثه على إشباع هذه الناحية وإثباتها، فهل هي من أواليات الدفاع عن الذات بسبب إنتماء يهودي سابق؟
وفي ضوء كل ما سبق، أي في ضوء المقطع الاول والثاني والثالث، نستفيد أن يهود بني قينقاع كانوا قد نقضوا العهد، ثم جاء حادث المرأة المسلمة، ثم جاء بعد ذلك حادث مهم، فإن رجلا مسلما قد إنتصف لهذه المرآة بقتل ذلك اليهودي، ثم ما كان من اليهود إلا قتل الرجل المسلم، فتنادى المسلمون، وتقابل الجمعان، فكانت تلك المعركة، وعلى أثرها حاصرهم رسول الله وأجلاهم (فكانوا أوّل من سار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجلى يهود بني قينقاع، وكانوا أوّل يهود حاربت).
هل يمكن الإطمئنان إلى هذه الرواية؟
نلاحظ عليها ما يلي: ــ
أوَّلا: إن أصل الرواية مرسلة، فإن محمد بن أبي كعب القرظي لم يكن حاضرا الواقعة المذكورة.
ثاينا: معارضة برواية عروة بن الزبير التي تنفي أن يكون هناك قتال قد حصل بين نبي الله ويهود بني قينقاع.
ثالثا: الغموض الذي يلف هذه الحرب المزعومة، فهي على كل حال حرب، ومن غير المعقول أن تمر هكذا، بردا وسلاما، أمر من الصعب الإرتكان إلى صحته. لم نقرا شعرا، ولا بطلا، ولا حوارا، فهل ذلك من طبائع الحروب؟ ترى هل هي حرب خاطفة؟
رابعا: وبودي أن أسأل، هل تصرف ذالك اليهودي بحق تلك المرآة المسلمة نقضا للعهد؟ وهل قتل المسلم لذلك اليهودي شرعيا؟ أي هناك مبرر شرعي نصت عليه شريعة القرآن أنذاك؟ وكيف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستجيب لنداء أهل هذا الرجل من دون أن يتحقق من سير الأمور، فلعل هناك غشا، أو وهما أو مفارقات تمنع من شن الحرب على أهل عهد.
من هذا وذاك لا يمكننا أن نركن بسلام إلى رواية محمد بن أبي كعب القرظي،
رواية عروة بن الزبير
رواية عروة في هذه القضية طويلة ومضطربة، فضلا عن كونها مرسلة كسابقتها بطبيعة الحال.نحاول هنا وبشي من الصبر تتبع بعض موادها فيما يخص موضوع النبذ، ونؤجل الحديث عن بقية المواد فيما يخص قضايا اخرى لها علاقة بالغزوة.
المشهد الاول
يستهل عروة حديثه بالقول بعد حذف السند:
[...لمَّا نزلت الآية (وإمّأ تخافَنَّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، قالوا: فحصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أ شد الحصار حتى قذف الله في قلوبهم الرعب...) / الواقدي ص 177 / وتستمر الرواية حتى إستسلامهم عن طوع وصغر كما تلوح الرواية.
هذا (ا لمشهد) من الرواية يشذ عن الروايات السابقة تماما، فإن يهود بني قينقاع لم ينبذوا عهدا، ولم يتحارشوا أمرآة مسلمة، ولم يقع قتال، بل إن النبي سارع وأعلم اليهود بفسخه العهد كما يفهم عروة من الآية، وحاصرهم وإنتهى الامر باستسلامهم!
لا أريد مناقشة هذا المشهد، بل أؤجل ذلك لوقته المناسب، إن شاء الله تعالى، ولكن فقط أريد أن أسجل معالم المشهد ونتيجته.
المشهد الثاني
يقول عروة (ولقد كانوا ــ بني قينقاع ـ أشجع يهود، وقد كان أبن أُبي أمرهم أن يتحصنوا، وزعم أنَّه سيدخل معهم، فخذلهم ولم يدخل معهم، ولزموا حصنهم فما رموا بسهم، ولا قاتلوا حتى نزلوا على صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه...) / المصدر ص 178 /
في هذا المشهد من رواية عروة نفهم أن يهود بني قينقاع لم يقاتلوا، وقد نزلوا على رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلما.
ولنا على الرواية الملاحظات التالية: ــ
أوَّلا: إن الرواية مرسلة أصلا، بل وهي محل شك لان الواقدي ينفرد بها، والواقدي متهوم لدى علماء علم الرجال السني. وإن كنت غير ملزم بهذا الإتهام، ولكن أتعامل حسب مقاسات علم الرجال الذي هو حجة على الآخر.
ثانيا: إنها معارَضَة برواية إبن إسحق ورواية محمّد بن أبي كعب.
ثالثا: أن مفا د الآية الكريمة كما يقول المفسرون أن الله اخبر نبيه بانه إذا كان يتوجس خيفة من ذي عهد، عليه أن يخبرهم بذلك، ويكون في حل من العهد نفسه، ولكن لا يجوز له ان يبدأهم بقتال، أو حصار، أو تهجير أو أي موقف على هذا الغرار، فإن الله لا يحب الخائنين، هذا ما جاء في الطبرسي والرزاي والزمخشري، وبالتالي، بأي حق يعلمهم الرسول بتوجسه ونبذه العهد على أساس هذا التوجس، ثم يحاصرهم ويأسرهم، ويطردهم من المدينة؟
من كل هذه الملاحظات من الصعب الإرتكان إلى هذه الرواية.
رواية الطبري
يستند الطبري إلى رواية إبن هشام ولكنه لم يذكر قصة المرأة المسلمة التي تحرش بها يهود بني قينقاع، بل يكتفي بالإشارة إلى أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد، وحاربوا بين بدر و أحد، ثم يعرج على رواية عروة فيقتطع منها المشهد الاول، وبعد ذلك ينقل رواية عن الواقدي بقوله: [ قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح،عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يطلع منهم أحد، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتفوا (وهو يريد قتلهم)، فكلمه فيهم عبد الله بن أبي) / الطبري 3 ص 85 /
الغريب أن مثل هذه الرواية غير موجودة في مغازي الواقدي، في حقل غزوة بني قينقاع! ولم أعثر عليها في كتاب الطبقات لابن سعد في خصوص هذه الجملة (وهو يريد قتلهم)!
هذه هي أهم المصادر التي تتحدث عن نقض العهد في قضية بني قينقاع، أو غزوة بني قينقاع، والذي يحير اللب أنها متناقضة، ومتضاربة، وليس هناك صورة واضحة يمكن الإطمئنان إليها فشتان بين صورة وأخرى، شتان بين القتال والسلم، ولا ندري أي صورة هي الحقيقة.
إن نصوص الغزوة هذه، فيما عرضناه سابقا، عبارة عن نصوص يتيمة، أي غير منتجة، نحن بين يدي فقر، جدب، غموض، وهي نصوص تعبر عن إخفاق النص التاريخي الذي يتصل بالسيرة النبوية في هذه القضية الخطيرة، وبالتالي، كيف يتسنى لنا أن نؤسس تاريخا، ونشيد معرفة تاريخية، يمكن أن تتحول إلى مصدر إلهام وتغيير وبناء؟
لم نكن بين يدي نصوص، بل حكا يات كانت يبدو شائعة في زمن هؤلاء الروا ة، اختلط فيها الغث والسمين، الصحيح والزائف، الحقيقة و المبالغة، ولم قادرين على التمييز، فابتلينا بتاريخ أسود، صار مر تعا للعنف و القتل وا لموت والقهر.
bull;حكم النبي في يهود بني قينقاع
نحاول الآن الإحاطة بحكم النبي الكريم بيهود بني قينقاع بعد أن تمكن منهم حربا أو سلما، مستندين في ذلك على النصوص الواردة، وهي نصوص تفيد الحكم المذكور بصورة غير مباشرة، فلم توجد هناك نصوص مباشرة في هذه القضية بالذات.
الصورة الأولى
نقرا في الطبري (قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشر ليلة، لا يطلع عليهم أحد، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمه فيهم عبد بن أبي)، وسبق ان قلت إن مثل هذه الروية غير موجودة أصلا في الواقدي، أي في فصل كلامه عن الغزوة المذكورة. ثم كيف يحكم بقتلهم، وهم أسرى طبق الرواية التي تقول أنهم قاتلوا؟ والسؤال أولى لو أنهم نزلوا عند حكمه صلى الله عليه وآله صلحا كما في رواية عروة بن الزبير.
الصورة الثانية
نقرا في ابن هشام (وحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: فحاصرهم رسول لله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أُبي بن سلول،حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحْسن إلى مواليِّ، وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فابطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن في مواليّ، قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرْسلني، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظُللا، ثم قال: ويحك! أرْسلني، قال: لا والله لا أرْسلك حتى تحسن في مواليِّ، أربع مائة حاسر، وثلاث مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، أني والله أ خاف أن تدور علي الدوائر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك) / المصدر ص 32 /
ويرويها ابن اسحق أيضا عن أبيه، إسحق بن يسار،عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، ويرويها الواقدي عن الزهري، عن عروة، وهي الرواية التي ناقشنا بعض محتوياتها قبلا.
فإن هذا النص يفيد ضمنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكم على يهود بني قينقاع بالقتل، وذلك من قول بن سلول (تحصدهم في غداة واحدة)!
ولي الملاحظات التالية على ذلك: ــ
أولا: إن حكم القتل لم يكن ظاهرا في النص على لسان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، بل جاء على لسان المنافق عبد الله بن أبي بن سلول (تحصدهم في غداة واحدة). فهذه كلمة هذا الرجل، وليست هي كلمن الرسول العزيز، ومن يدَّعي أن كلمة عبد الله بن أبي بن سلول جاءت طبقا لمراد النبي أنذاك؟
ثانيا: أن حكم القتل هذا يتناقض مع شريعة القرآن في حكم الأسير، فالأسير لا يقتل، هذا فيما إذا كان هناك قتال حقا، أما إذا لم يكن هناك قتال، بل أن الناس نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم صلحا، فالإشكال أقوى وأمضى! وتلك هي رواية عروة (... نزلوا على صُلح رسول الله صلى الله عليه وسلم وحُكمه، وأ موالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم...)، فما هو الموجب للقتل؟!
لم نعرف بصورة واضحة حكم نبي الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الناس، الروايات غامضة ومرتبكة، وبعد ذلك متناقضة أحينا فيما بينها، كما أنها قد تصطدم ببعض الاحكام الشرعية.
مرة أخرى نلتقي ببؤس تاريخي، بنص تاريخي منهك، لا قابلية له على تاسيس رؤية أو موقف، فكيف يجوز لنا إعتماد مثل هذه النصوص لتأسيس سيرة تربوية نبوية؟
bull;نقد قصة ابن سلول:
لعبد الله بن أبي أُبي قصة في غزوة بني قينقاع، وقد تراوح بيان هذه القصة بين الإجمال والتفصيل في الروايات، نريد هنا تسليط الضوء على هذه الروايات بإسلوب نقدي.
يتعرض إبن إسحاق لهذه القصة مقتضبا، فهو يقول (قال إبن إسحق: وحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: فحاصرهم رسول الله صلىالله عليه وسلم حتى نزلوا حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي سلول، حين أمكنهالله منهم، فقال: يا محمّد أحسن في مواليِّ، وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمّد أحسن في مواليِّ، قال: فاعرض عنه، فا دخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم... فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إرسلني، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حت رأوا وجهه ظُللا، ثم قال: ويحك إرسلني، قال: لا والله لا أرسلك حتى تُحسن في مواليّ، أ ربع مائة حاسر، وثلاث ما ئة دارع، قد منعوني من الاحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إنّي والله أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهم لك) / المصدر ص 33 /
بصرف النظر عن مفارقات السند، فإن البديهة تنادي هنا وبكل بساطة، ترى أين كان المسلمون من هذه الغلظة التي أبداها ابن سلول مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أين كان عمر وعلي وعبادة بن الصامت وغيرهم من المؤمنين؟ لقد أساء الأ دب أكثر من واحد من الصحابة أو المشركين بحق النبي العزيز، ولكن تصدى لذلك الصحابي الجليل عمر بن الخطاب لهؤلاء المسيئين، ومنعه النبي، وقد تكررت مثل هذه الظاهرة مرا ت، فهل عقمت شجاعة هؤلاء مع إبن سلول؟
الغريب حقا أن يستجيب رسول الله لإبن سلول في هذا العدد الكبير من يهود بني قينقاع، حاسرين ودارعين، كان حقه القتل كما هو المفترض حسب مطيات هذه الرواية البائسة المتهاوية، فمن هو هذا ابن سلول كي يتنازل رسول الله لإلحاحه، وطلبه، فيحضى بسبب هذا الألحاح وبسبب هذه الطلب مئات بحق الحياة الذين كان نبي الله قد قرر إمضائه هدرا ومحوا؟
ثم لا ننسى، أن حكم القتل بهؤلاء لا تجيزه شريعة محمد نفسه، فكيف وهذه الحال تستقيم هذه الحكاية المزعومة؟ كيف نوفق بين هذه الحكاية وكون القوم قد نزلوا عند حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحا على رواية عروة الذي تورط نفسه بهذه الحكاية؟ وليس من المعقول أن ينزلوا عند حكمه صلحا، وحكمه كان القتل؟ فذالك من التناقض المنطقي الوا ضح، ومن هراءات الخرا فة وليس من حكمة العقل.
لنتفرض أن أصل الحكاية صحيح، ولكن أليس من المقعول أن يُستثنى منهم من يستحق الإستثناء؟ أم هي خبط عشواء ومزاجات تروح وتأتي بين رغبة منافق وقرار نبي؟
خرافة ما بعدها خرافة، ولكن يا للاسف، تحولت الخرافة إلى حقيقة في نفوس الكثيرين، فتحولت تلك النفوس إلى مرتع شر، وإن كان بعضها بريئ بسبب جهله، أو بسبب تجهيله.
يروى إن قوله تعالى (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى ا لله أن يأ تي بالفتح أو أ مر من عنده فتصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)، ولكن أبن كثير في تفسيره يشير إلى تضعيف نزول هذه الأية في موضوع أبن أبي هذا / فقه السيرة هامش ص 242، و الإشارة من الألبناني /.
يهود بني قينقاع إلى الشام!
وما هو مصير يهود بني قينقاع؟
تجيب الروايات بما يلي (حدثني محمد بن قاسم، عن أبيه، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال: أني... مقبل من الشا م، إذ لقيت بني قينقاع يحملون الذرية وا لنساء، قد حملوهم على الأبل وهم يمشون، فسألتهم فقالوا: أجلانا محمد وأخذ أموالنا، قلت: فأين تريدون؟ قالوا: الشام.قال سبرة: فلمّأ نزلوا القرى أقاموا شهرا، وحملت يهود وادي القرى من كان راجلا منهم، وقووهم، وساروا إلى أ ذرعات فكانوا بها، فما كان أ قل بقاءهم) / الواقدي ص 180 / ويتفق إبن سبرة مع عروة بأن مصير يهود بني قينقاع كان أن سلكوا إلى الشام، حتى أذرعات.
يشير المحدث الكبير محمد ناصر الألباني، وهو من أكبر علماء السنة المعاصرين في الرواية، يشير بتعليقة سريعة على كل روا يات غزوة بني قينقاع، وذلك في كتاب (فقه السيرة) للشيخ محمد الغزالي، وذلك لما ختم الغزالي حديثه عن الغزوة بإجلاء بني قينقاع وسلوكهم الطريق إلى الشا م، يشير بقوله [ رواه ابن إسحق 2/ 121 عن عبادة بن الوليد بن الصامت، وابن جرير عن عطية العوفي وعن الزهري (وكلها مرسلات)... ] / فقه السيرة ص 243 /.
وكان الأولى به أن يضيف وروايات متضاربات، وربما بعضها يخالف شرع الله.
فإذن هناك بؤس تاريخي في نص رواة السيرة النبوية في هذه الوقعة المزعومة، أن كل ما يمكن أن نطمئن إليه من جماع هذه الروايات الغثة الهالكة، أن اليهود، يهود بني قينقاع قد أُجلوا من المدينة، ولم يحصل فيهم قتل، ولم تكن هناك حرب، فأين هو مفهوم الغزوة هنا؟
يقول الواقدي (... وقد سمعنا في إجلائهم حيث نقضوا العهد غير حديث إبن كعب) / المصدر ص 180.
أن خاتمة الحديث عن غزوة بني قينقاع، أن لا تاريخ حقا.
التعليقات