دون شك أن ممارسات الدولة للحد من الحريات الاجتماعية والسياسية والدينية، ستحفظ في الذاكرة الاجتماعية أدق التفاصيل الرمزية في إحياء التقاليد والمناسبات والشعائر التي اُجبرت على نسيانها. وتكمن قدرة الأخيرة على البقاء في قدرة الضحية على إعادة إنتاج الحوادث عبر التفاعل بين عناصر اللغة وبين عناصر الحادثة القديمة التي تتوسع كلما ابتعدت وتزداد غموضا كلما يبست. فحادثة من مثل السقيفة أو معارك من مثل صفين والجمل والطف بكربلاء، مستمرة ومتجددة في الذاكرات تتوسطها أسماء ودماء لا quot; يجوزquot; التفكير بنسيانها.


أن القطيعة المفاجئة مع المعيش التي تخلقها المتغيرات السياسية والاجتماعية العنيفة كما بالعراق، ستقيم على أنقاض القديم بناء من القيم والمفاهيم الجديدةـ القديمة، هو خليط من حجارة الماضي وإرث الضحية وطقوس اختلاط الثقافات. والمتتبع للحالة العراقية سيندهش للفترة الزمنية القليلة التي تم فيها التأسيس للقطيعة الطائفية مع قيم وتقاليد سبقت تأسيس الدولة العراقية بكثير. فمن أعوام قليلة كان العيد عيداً، وكذلك القصائد والأغاني والأعراس والجنائز والملابس والأسواق.وجرى تقسيم السنة الهجرية على مقاتل وفضائل أهل بيت الرسول(ص) وضبطت إيقاعاتها على اللطم والنواح والسيوف والسلاسل، في مشهدٍ لا يحسدنا أحداً عليه.


كلنا يعرف المتغيرات المستمرة بالعراق والتي غالباً ما تصاحبها القسوة والعنف،وقد أدت إلى إلغاء مناسبات واستحداث أخريات، إلا أن ذلك لم يصل بعد إلى القطيعة التامة مع إرث المجتمع.فمثل باقي الذاكرات،اعتادت الذاكرة العراقية على مناسبات وأعياد، وابتليت بأخريات،ولكل من ذلك مشايعيه ومخالفيه،مستهلكيه ونقاده.ففي تمازج الممنوع بالحرام،واختلاط الدين بالسياسة،وتبادل أدوار الجلاد والضحية ستقف المناسبات والأعياد الدينية والسياسية والاجتماعية على خط مستقيم لا يمكن معه التفضيل والتشكيك والاختلاف دون أن يحدث اصطفافاً يترك أثراً في النسيج الاجتماعي وبالتالي في طبيعة تلك المناسبات.


أن الماضي الطويل المرتبط بمظلومية شيعة أهل البيت قد جرى استعادته في مراحل متعددة اقتضتها حاجة الطائفة ومصالحها الدينية والسياسية،وما يحدث بالعراق اليوم أحد تعبيراته. وعلى الرغم من أن الشيعة قد تم إبعادهم لقرون طويلة عن الدولة ومنافعها، وانشغلوا هم بدورهم طويلا في اللف والدوران حولها، فإن الزمن الحاضر أخذ quot; مؤقتاًquot; شكل الخط المستقيم تم فيه تقديم الدولة على طبق مستورد مرصع بالمغريات وتبادل المنافع.إلا أن ذلك لم يخفف من فكرة المظلومية عندهم، بل زوّدها بأثواب وأساليب تنسجم والحالة الجديدة.فهم يحتاجون الماضي لتقديم أنفسهم في الحاضر ولكن من دون التخلي عن الفكرة.وبمرور الأعوام تحولت المظلومية من المعنى الديني ـ الاجتماعي المحمّل بمفردات الصراع من أجل الحقوق إلى رمز يصلح لجميع المعاناة وفي كل زمان ومكان، أضحى فيه كل يوم عاشوراء وكل مكان كربلاء.


أن الاتصال والتواصل مع قضية وفكر quot; أهل البيتquot; هما الركيزتان اللتان تستنفر إليهما الطائفة الشيعية في خطابها على مر القرون وحتى يومنا هذا. أي من يوم السقيفة وحتى انتشار المليشيات المسلحة. وعلى الرغم من أن العادة والتكرار يصوغان عالم المؤمن، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة ثبات المعلومة واختلاف الإخبار والتعبير عنها،فيما يخص أفكار quot;أهل البيتquot; ومصائرهم.فمقتل الحسين أبن علي أبن أبي طالب في معركة الطف بكربلاء أرخه كثيرون نثراً وشعرا. وبعد قرون من تكرار المعاناة واستعادة المظالم تحول quot;الحسينquot; رمزاً في الذاكرة الاجتماعية يستعيده من يريد وبأي شكل وأسلوب شعري أو نثري، سياسي أو ديني، ثوري أو متحفظ، على أن لا يذهب بعيداً عن فكرة المظلومية واستعادة الحق الضائع. أن تكرار الشعائر المؤلمة والعاطفية كل عام يساهم في بقاء الطائفة وتناقل موروثها ويعيد إنتاج الحادثة بما يضمن استمرارها.فهم في استحضار الطقس يستحضرون معه معنى حضارياً ملازماً له، وحادثة محددة جغرافياً وتاريخياً. ومع أن عادة التكرار غالباً ما تأتي بالمبالغات التي تهيل تراب الزمن على حقيقة التفاصيل، إلا أن ذلك لا يقلق المعنيين بقدر ما يقلقهم تسرب الملل إلى أفراد الطائفة بفعل التكرار. فتتم الاستعانة بشعائر الشعوب والديانات الأخر لرفد طقوسهم وهذا ما يفسر ظهور السيوف والسلاسل وأنماط جديدة في اللطم وجلد الذات لأحياء الطقوس الشيعية بالعراق والتي يرجع المعنيون أصلها إلى بلاد فارس. وهذا التكرار للطقس والاستعانة بالثقافات الأخرَ لن يتوقف قبل اكتمال النص الثابت والمتفق عليه،قبل انتهاء معاناة الطائفة في ظهور المهدي المنتظر. وتأسيساً على ما مر فإن استمرار تأثير الشعائر يتطلب تجديد الأدوات للتعبير عن ذلك، وهو ما أفرز الشاعر الحسيني والمقرئ الحسيني والمؤدي الحسيني،فارضاً ذوقاً وثقافة وحقائق لم تكن موجودة من قبل وشكلت قطيعة مفاجئة مع السائد. فهم في استدعائهم للشعائر الحسينية الموشات بالعواطف والقصائد ومشاعر الذنب، يستدعون مضامين سياسية وطائفية مدمرة أنتجت في حراكها اليومي الشرطي الحسيني والمخبر الحسيني والقاتل الحسيني، كاشفة عن حقيقة أن الضحية لا تقل قسوة عن جلادها عندما تتغير ظروفها وتمسك بآلة الدولة. أنهما معاً quot;الجلاد والضحيةquot; في الحالة العراقية يعملان على تحطيم الذاكرة وإعادة تشكيلها وفق أولوياتهما،ومستبعدين إلى حين أبسط مفاهيم الوطنية والتسامح والرأي الآخر.


أن الهوية الطائفية بالعراق هوية رمزية جرى تمثلها وتعميقها عبر قرون من العزلة والمعاناة وضياع الحقوق،تجلت في طقوس وعبادات وأفكار قد لا تلتقي على الدوام مع الآخر السائد على الرغم من نطق الجميع بالشهادتين، إلا أنها تزداد خطورة كلما استندت إلى نص قرآني. طقوس تعيد إنتاج معارك وأفكار تجاوزها الزمن،بأساليب بعيدة عن حقيقة وقوع الأمر، تتعكز على بديهية ثبات القيم واختلاف التعبير عنها في جريان الزمن،انتهت إلى سيادة الطقوس على العبادات. وبما أن ذلك يدور عن زمن الأوائل المشحون بالعواطف النبيلة،وعن عائلة ورد أسمها في القرآن، وعن أمكنة مقدسة أو صارت كذلك، فإن عناصر الطقس هنا تسير في نظام محدد وكل شعيّرة فيه ترمز إلى معنى تاريخي وديني. وحين يتم استحضار الطقس يتم معه استحضار معنى حضارياً ملازماً له،وحادثة محددة جغرافياً وتاريخياً مشغولة بالتكرار والإضافة من دون الابتعاد عن الفكرة الأساسية المتمثلة بمظلومية شيعة أهل البيت.


أن الطائفة الشيعية بالعراق بعد أن شكلت خطابها الديني والسياسي على مرتكزات الضحية،شيدت على مقربة من الأمكنة التي قتل (أو دفن) فيها أهل بيت الرسول(ص) أضرحتها وحسينياتها ورموزها لإعطاء الطقس العاطفي رداء الحقيقة الملموسة والمعبرة عن فكرة quot;المظلوميةquot;. ولذلك ليس غريباً على الأمكنة التي شهدت مقتل آل البيت أو قبورهم، أن تضج بالصراعات والمعاناة والمظالم على مدى تاريخنا الهجري تحت أسباب ومسميات مختلفة. وكأنها قبل ذلك لم تكن أمكنة متحققة على الأرض واحتضنت أحداثاً ومعارك غير تلك التي ارتبطت بمقتل quot; أهل البيتquot;. وعلى الرغم من اختلاف وظيفة المكان في الصراعات الاجتماعية إلا أنه في الخطاب الشيعي لم يفقد قدرته بعد على إيصال الطقس العاطفي إلى ذروته. ومع أن الحكام دأبوا من القدم على أزالت أي أثر أو معلم للأماكن التي قتل فيها أهل بيت الرسول(ص) بحرثها أو إغراقها بالمياه، إلا أن الفرد العراقي تشرب بفكرة مفادها أنه لا يتعامل مع أمكنة وهمية أو متخيلة، بل هي أمكنة محددة جغرافياً وتاريخياً ومتجددة ثقافياً ومتحولة رمزياً في حالة لا يمكن معها الفكاك من عمليتي استدعائها وتكرارها. وإلى جانب تلك الأضرحة شيدت مئات الحسينيات لغرض توسيع وظيفتها الأساسية في العبادة وإعلاء كلمة الله والترحم على أل بيت النبوة، أمكنة أثارت الكثير من علامات الاستفهام عند الجالسين على الجرف الآخر. ويوم بعد يوم تحولت الحسينيات إلى منابر للخطب السياسية والترويج للانتخابات والتخطيط للنشاطات الممنوعة ووصل بهم الأمر إلى تعليق صور المجرمين والمطلوبين على جدرانها قبل الإعلان عنها عبر الوسائل المرئية والمسموعة.

أن الاستيقاظ المتأخر للطائفة الشيعة بالعراق من رقدتها، أدى إلى ارتفاع مفاجئ في سقف مطالبها بالحقوق المدنية والسياسية، وهذه المبالغة التي لم تستند إلى مشاريع سياسية عملية ولم تقدم رجالات دولة يحظون بثقة المجتمع ولم ترتبط بنهضة فكرية أو اقتصادية أو حضارية داخل الوطن، ستؤدي لا محالة إلى نتائج عكسية قد تقلب طاولة الفسيفساء على الجميع وتمهد في الطريق إلى العودة لفكرة المظلومية.. قدر الشيعة الذي أحبهم وأحبوه.

نصير عــواد