(سياسيوا العراق القديم والمنطق الحضاري المطلوب)
لقد ارتبك استقرار العراق لعوامل عديدة ابرزها في الواقع المنظور دون الذهاب بعيدا في الجذور إلى قراءة المشكلة تاريخيا، هي ثلاثي اركان الواقع السياسي في العراق: الركن الأول: إدارة الاحتلال ( القوى المتعدد الجنسيات) وما تمتلك من رؤىً مشوبة بتطلعات هيمنة على المنطقة من خلال العراق الأمر الذي دفعها إلى انتهاج مناهج سياسية قديمة لا تصلح لهذا العصر كسياسة اللعب على الحبال، وخلط الأوراق، وخبط الأمواه للوصول إلى مآربها في داخل العراق ومن العراق.
والركن الثاني هم السياسيون العراقيون الجدد وغياب المشروع السياسي لديهم، بما دفعهم إلى قبول أنصاف الحلول، وفي كثير من الأحيان التسليم لأبعاض الحلول كالمصالحة الوطنية، والوفاق الوطني، والحكومة الوطنية، وكلها كانت على حساب رأي الشعب، ودافعا في تقوية شوكة الإرهاب، وباعثا على التأخر الذي نحن فيه الآن.
أما الركن الثالث: فهم السياسيون العراقيون القدماء من اتباع النظام السابق والمتمحورين حوله من اسلاميين وعلمانيين وعلماء دين تكفيريين، وقد بحثنا الركنين الاولين من قبل وها نحن على اعتاب القول في الركن الثالث من المشكلة.
علما أن البحث في هذا الأمر يتطلب تسليط الضوء على حقائق مهمة قبل الوصول إلى المسؤوليات الملقاة حضاريا على عاتق السياسيين السنة في هذه المرحلة، ومن تلك الحقائق ما يلي:
الحقيقية الاولى: الشيعة مضطهدون تاريخيا من السنة أيام حكومة الأتراك
إذ يجب التسليم بحقائق التاريخ القريب بأن الشيعة مضطهدون (حيويا) من قبل السنة، ويجب أن توضع هذه الحقيقة موضع الاعتبار دون الهروب منها والركون إلى شعار (ضرورة تناسي الماضي) و(وجوب طي صفحة قد ولّتْ) وما إلى ذلك، لأن البحث العلمي يتطلب التشخيص الحقيقي بغية الوصول إلى فهم الواقع، لغرض التوصل إلى حلول الواقع الحالي المر، وبناء المستقبل الحر، وإلا فمن الجناية التاريخية على الشعب (المراوحة) في دائرة شعارات جوفاء لبناء واقع طوباوي أجوف منها.
صحيح أن العراق بأغلبيته الشيعية محكوم من قبل أهل السنّة طوال قرون بعيدة منذ العهود الأموية والعباسية والعثمانية وحتى الملكية والجمهورية على حد سواء إلى يوم سقوط نظام البعث الطائفي، وهذا ما لا يخفى على الباحث العلمي النزيه فضلا عمن له أدنى معرفة بحقائق التاريخ.
فلقد تعرض أئمة أهل بيت رسول الله وشيعتهم إلى القتل والإبادة الجماعية والحرمان والإقصاء وهدم الدور على الرؤوس ومنعهم حقوقهم في الحياة بشكل مطلق، وذلك من قِبَلِ الحكومات السنية طوال قرون سحيقة على ما ذكره التاريخ رغم تعرضه للتزوير والتحريف. هذه الحقيقة هي التي ستتصل ببحثنا عن الموقف الحضاري للشيعة من هكذا إرهاب وإرعاب.
الحقيقة الثانية:الشيعة ومساندتهم السنة الأتراك
ومع ذلك القهر التاريخي لم يذكر التاريخ بان السنة قد تعرضوا إلى إبادة الشيعة لهم أو تكفيرهم أو إلى أية ردة فعل تتناسب وحجم ما تعرض له الشيعة تأريخيا، بل العكس من ذلك فقد كانت وما زالت ثقافتهم تنطق بالاخوة الإسلامية وتنادي بها، وما التاريخ المعاصر في العراق للناظر ببعيد، حتى إذا تداعت الدولة العثمانية (السنية) إلى السقوط وكان الشيعة مُضطَهَدون من قبلها، ورأى الشيعة دولة السنة على وشك الاندحار فقفوا إلى جانبها وقفة أبطال مدافعين عنها دفاع المستميت.
وكشاهد على تلك الحقائق يذكر لنا مؤرخوا العراق الحديث أن طلائع الاحتلال البريطاني للعراق آنذاك لما وصلت الى مشارف البصرة: (غادر النجف عدد من المجتهدين ndash; من علماء الدين - مع اتباعهم متوجهين نحو جبهة الحرب، وصاروا ينْزلون المدن والعشائر الواقعة في طرقهم بغية تحريضهم على الجهاد...ثم ان ndash; احدهم وهو - السيد عبد الرزاق الحلو كان أول المجتهدين الذين وصلوا الى السماوة في طريقه الى ساحة الحرب...وبعد يومين من وصوله وردته برقية من الوالي جاويد باشا الذي كان في البصرة يقول فيها ما نصه: quot; اتوسل إليك برسول الله وآل البيت وفاطمة الزهراء ان تسرعوا في المجيء الي حيث ان البصرة مهددة ونحن في ضيق شديدquot;.
فلما قرا السيد البرقية هتف قائلا: quot; الله اكبر! الله اكبرّ! سمعنا واطعنا! quot; فنادى اصحابه فامرهم بتقويض الخيام ووضعها في السفن حالاً.
وبعد مغادرة السيد عبد الرزاق للسماوة بعشرة أيام تقريبا اخذت تتوافد الى البلدة قوافل المجاهدين من الشامية وابي صخير والنجف ) () متوجهين لنجدة الحكومة (السنية) التي اضطهدتهم، وهذه واحدة من الوقائع والمواقف الكثيرة التي تشير إلى تعاطف الشيعة المقهورين، مع السنة القاهرين، وقد ذكرت هذه الواقعة كشاهد واحد وإلا فبحثه يخرجنا عن دائرة ما نحن فيه.
الحقيقة الثالثة: السنة الاتراك يشهدون بالموقف الحضاري للشيعة
وبقي موقف الشيعة بعلمائهم قبال العثمانيين السنة موقفا مشرّفا يشهد له التاريخ، واذا كان قد نسيه سنة العراق لكونهم من رجال الإدارة المدنية والعسكرية للحكومة العثمانية على العراق، فلم يُمح من ذاكرة الاتراك السنة، ولا من مذكراتهم، ولا من أقلام المؤرخين، فقد ذكر تاريخ العراق الحديث ذلك قائلا:
( عندما كان [القائد العسكري العثماني السني () سليمان بك ] راقدا في المستشفى ببغداد بعد المعركة، دخل عليه احد رجال الدين من الموظفين في الدولة عائدا له، فلما وقع نظر القائد عليه، قال له وهو يهز يديه مستنكرا من قعوده عن الجهاد: quot; أنت ها هنا ترفل بالراحة والطمأنية والنعيم مع انك تتقاضى راتبا ضخما من الدولة طيلة عمرك، وان الامام السيد مهدي الحيدري يحارب بنفسه الإنكليز - على شيخوخته وعظمته - وهو الان في في الصفوف الأولى مع انه لم يقبل من أموال الدولة قليلا ولا كثيرا طيلة عمره quot; ) ()
واستمر الشيعة في مساندتهم الحكومة التركية السنية حتى اخر لحظة هربت فيها الجيوش العثمانية إلى الموصل تاركة بغداد خالية وجيوش الشيعة تقاتل على مشارف البصرة.
أما يوم انطلقت ثورة العشرين التحررية لم يترك االشيعة كلا من السنة العرب والسنة الأتراك وراء ظهورهم وإن كانوا بالأمس القريب حكاما وولاة في دولة العثمانيين عليهم، بمعنى انهم كانوا يمارسون الاضطهاد التركي ضد الشيعة وهذا ما لا يخفى على التاريخ قط، ووقائعه شاهدة على ذلك.
ومع ذلك فقد كان الشيعة بقادتهم المراجع يقولون بأخوّة السنة معهم في الدين والوطن، حتى أشركوهم في الواقع السياسي الجديد على أثر سقوط الدولة العثمانية، ومع ذلك فقد سحبو البساط من الشيعة وهم قادة ثورة العشرين، وتعاملوا مع الإنكليز واعتبرت ادبياتهم التي اسسها الاحتلال ان الشيعة غرباء وليسوا مواطنين ويجب إقصاؤهم، ولكي تبقى هذه السياسة إلى يوم سقوط حكومة البعث العلماني الفكر الطائفي المنهج.
وحينما سقط نظام استبداد البعث الطائفي كان للشيعة موقفهم الحضاري المشرف الذي يمكن بيانه من خلال تسليط الضوء العمق أن معاناة الشيعية لم تكن وليدة الساعة أو طرأت بعد الاحتلال الأخير، بل هو أمر ضاربٌ بجذوره تاريخيا في البطش مقابل الموقف الحيوي للشيعة بما يضرب به المثل الأعلى في التسامح الذي سيكتب عنه التاريخ المتحيز فضلا عن المنصف، الأمر الذي يوجب الوقوف عند النقاط التالية:
النقطة الأولى: تاريخية المعاناة الطائفية ضد الشيعة
امتدادا للمنهج القديم فقد دأبت الحكومات السنية تاريخيا على التعامل بطائفية قاتمة ضد شيعة نبيّهم في أهل بيته، فلم تكتفي بالإقصاء السياسي ولا الحرمان الاقتصادي ولا التمييز الإداري ولا حتى بالسجن، بل تعداها إلى قرار الحرمان من الحياة، وذلك بممارسة الاعدامات الجماعية التي شهد لها تاريخ الأمويين والعباسيين.
حتى إذا وصل الأمر إلى حكومة البعث الطائفي فقد سبى شيعة أهل البيت أبشع مما قد سبى الأمويون الترك أو الروم، بحيث اقدم قصي صدام وبأمر من أبيه باقتراف مجرزة واحدة ابتدأت من الساعة السادسة صباحا حتى التاسعة مساءا ليرخي الليل سدوله على يوم رهيب متمخضا عن (2000) ألفي إنسان شيعي محب لأهل بيت رسول الله، وهذه مجزرة واحدة من مجازر كثيرة أردت من خلالها بيان ظلامية المشروع الطائفي الذي تعرض له الشيعة خلال التاريخ المظلم بيد اخوتهم في الدين والوطن من (السنة).
النقطة الثانية: معاناة الشيعة من التمنهج الطائفي المدروس
إذ عادة ما يبحث طواغيت الأرض عن نوىً اجتماعيةٍ تبني عليها المحيط الاجتماعي الذي تريد السباحة فيه ليشكل ميدانها المؤيد لها في كل ما تنوي القيام به والانتقام من كل خصم يمثل العين الراصدة لها والساهرة على مصالح الأمة، فكانت تلك العين هي الأنبياء والرسل وخاتمهم والأئمة من أهل بيته ومن تبعهم على نهجهم.
وقد اجتهد الطواغيت على طول التاريخ أن يجعلوا أهل السنة في الطرف المقابل لأهل البيت ( اقتضاء البحث العلمي يحكم أن أهل السنة اسم مستحدث قريبا في العصور المتأخرة للحكام العباسيين بعد أن كانوا يسمون بالعامة)، الأمر الذي دعا الطواغيت إلى الاهتمام في توظيف هذه الشريحة من الأمة المسلمة لصالحها ولتكون المحيط الذي تسبح فيه.
ولكي يستكمل هذا المشروع مهمته فقد دأب الطواغيت باحثين عن غطاء يمنحهم الشرعية لما يتصرفون به ويوظف لهم التيار الاجتماعي الذي فيه يسبحون كيلا يخرج ذلك التيار المسلم عن طاعتهم متأثرا بمنهج الإسلام الذي حمل رايته والدفاع عنه أهل بيت رسول الله، القادرين على كشف زيف مشروع الطواغيت على طول التاريخ، فكان ذلك الغطاء هم وعاظ السلاطين وأئمة الفتوى المأجورين وهيئات علماء صارت وظيفتهم توجيه أهل السنة دينيا لمحاربة أهل بيت نبيّهم والانتقام منهم ومن كل من يؤمن بمنهجهم الذي ورثوه من جدهم.
وبقيت الأمة حتى هذا اليوم تعيش هذه المطحنة ضد أهل البيت والانتقام منهم ومن شيعتهم.
ولأن العراق جزء متميز من هذه الأمة، فقد خضعت بشكل ممنهج إلى هذا الصراع مع أهل البيت وشيعتهم لمآرب سياسية ومصالح فئوية لعوائل وأسَرٍ حكمت الإسلام والمسلمين وطوعتهم عبر التوجيه الديني لهذه المهمة.
النقطة الثالثة: أهل السنة ضحية مشروع الانتقام من رسول الله
وكنتيجة لذلك الواقع التاريخي المر الذي عانت وما زالت تعاني منه الأمة فقد تورط ndash; ومع الأسف الشديد - الغالب الأعظم من أهل السنة بأن اصبحوا في مواجهة حامية ومعركة ضارية مع رسول الله للانتقام منه في أهل بيته وكل من يحبهم ويشايعهم، من حيث لا يعلم عامتهم، ومن حيث يعلم خاصتهم من السياسيين المتعطشين للهيمنة والحكم، ومن وعاظ السلاطين وقضاة الجور. وهذه خطورة تستدعي من جميع الأشراف من أهل السنة الالتفات إلى أن عشاق السلطة والحكم قد وظّفتهم في معركة تاريخية مع رسول الله واهل بيته وفي ذلك خطر كبير.
النقطة الرابعة: الموقف التاريخي للشيعة من التعنصر الطائفي
بمقدار الاشارة لا التفصيل اقول: أن الشيعة مقابل فتاوى التكفير لهم ( لا لذنب اقترفوه سوى أنهم شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يواجهوا تلك الفتاوى بفتاوى مضادة، ولم يحاربوا أهل السنة، ولم يعملوا على الانتقام منهم رغم بشاعة الانتقام الذي كان وما زال يُمارس ضدهم بإسم التسنن وفتوى أئمته، بل العكس من ذلك فقد كانوا يتعاملون معهم على اسس من الاخوة الاسلامية طوال الحقب الزمنية التي كان الشيعة محكومون بالقهر والقسر، والحديد والنار حتى يومنا هذا.
النقطة الخامسة: الموقف الحالي للشيعة من العنف الطائفي
وخلال حكم البعث الطائفي فقد قُتل حوالي المليون شيعي في حرب انتقامية طائفية زج بها العراق مع ايران، وابعد وراء الحدود بين إبعاد قسري وتهجير جبري حوالي الاربعة ملايين شيعي، ثم قتل حوالي النصف مليون شيعي في السجون، ودفن مئات الآلآف في مقابر جماعية، وسحق الملايين الباقية في طاحونة الارهاب والارعاب والتجويع، حتى أني قد اطلعت على احصائية تذكر أن ضحايا الشيعة من نظام البعث بلغ اربعة ملايين انسان، وكان ذلك كله بعامل طائفي وظف فيها حزب البعث علماء السلطان الذين استخدموا بدورهم عامة السنة في الانتقام من الشيعة.
وبعد سقوط نظام البعث قد تخوفت دوائر حكام الطائفية العربية من انتقام الشيعة من السنة، وتعالت ابواقهم الاعلامية في هذا المجال، لكنما العراقيين وبسبب ثقافتهم الشيعية وبحكمة مراجعهم الدينيين فقد اجمعوا على التسامح مع عامة السنة ما خلا البعثيين الذين كانوا ضالعين في تدمير العراق ومحترفين لقتل الإنسان. فرفعوا لواء التآخي وخطبوا في مساجد السنة وفي الشوارع بشعار الأخوّة الإسلامية معلنين صلاة الوحدة، ثم صلى علماء من الاكثرية الشيعية وراء علماء من الاقلية السنية والى غيرها من المواقف التي ما عادت خافية على كل ذي لب ونزيه لتدل على حضارية الموقف الشيعي.
ومما تقدم يتبين مدى تسامح الشيعة مع السنة وإن كانوا بالامس القريب يمثلون المحيط الذي كان يسبح فيه ظلم الحكومات الطائفية السنية على مر العصور ضدهم.
النقطة السادسة: موقف علماء السنة وساستهم من هذا التسامح
لقد جازى الساسة السنة مع علمائهم هذا الموقف السمح تجاههم بأسوأ ما يمكن أن ينكر أحد الجميل لآخر.
ذلك لأن الساسة السنة ينقسمون إلى فئات خمس بشكل رئيس:
الفئة الأولى: زعماء حزب البعث وهم الاكثرية التي فقدت سلطانها على العراق والعراقيين.
والفئة الثانية: حزب الإخوان المسلمين فرع العراق والمعروف (بالحزب الاسلامي).
ثم الفئة الثالثة: وهم كل الأشخاص والشخصيات السنية التي انفرطت من بين الحزبين المذكورين.
والفئة الرابعة: فهم علماء البلاط وفقهاء السلطة البعثية الغابرة.
إضافة إلى الفئة الخامسة: فهي شخصيات استقلت عن الجميع وبقيت محافظة على هويتها السنية من دون تسييس لتدينهم وبقيت محتفظة باستقلاليتها الوطنية ومعارضتها للظلم الذي يقترفه أبناء مذهبهم ضد الشيعة، رافعة شعار (قل الحق ولو على نفسك) وبالطبع فإن هذه الفئة مستضعفة وقليلة جدا.
أما الباقون من أهل السنة فهم من عامة الناس ومغلوبون على امرهم، موزعون على هذه الفئات، ومنهم من انتمى وخرج ومنهم من بقي معها، ومنهم من كان خارجا عنهم أساسا.
وبالنتيجة فإن جبهة حزب البعث الذي خسر عرشه مع علماء البلاط يشكلون جبهة عريضة واحدة يعاضد بعضها بعضا، اما الجبهة الاخرى (الحزب الإسلامي) فهي جهة سياسية دخلت الحكم منذ الايام الأولى التي سبقت سقوط نظام علمانية البعث الطائفي. الا انه حزبٌ تؤكد كل الواقائع التاريخية وما لا ينكره الحزب نفسه أنه مدين لحزب البعث على الاقل في بقاء وجوده في العراق وعدم خضوعه للتصفيات التي تعرضت لها الاحزاب والحركات السياسية الإسلامية الشيعية آنذاك، فخلال الهجمات البعثية الشرسة التي تعرض لها المتدينون في العراق شملت اعضاءا من الحزب الاسلامي اضافة إلى قيادة وكوادر الحركات الاسلامية الشيعية، لكن الاول خرج بشفاعة احمد حسن البكر لكونه رئيس حزب البعث وحاكم العراق آنذاك، فبقي الحزب الإسلامي حرا طليقا في العراق وخارجه بعيدا عن الاضطهاد والحرمان والابادة، لتبقى دائرة الاضطهاد والسجن المؤبد والاشغال الشاقة والاعدام من نصيب الشيعة والحركات الشيعية واحزابها، ومن اُتهم في انتماءه لتنظيم شيعي وهو منه بعيد.
من هنا فإن الحزب الاسلامي - والقول للبحث العلمي ووقائع التاريخ - ما زال مدينا للبعثيين، وعلى المدين الوفاء انطلاقا من حسه الطائفي وإن كان السياسيون الشيعة هم الذين أتوا به كواجهة سنية معتدلة في العملية السياسية لكنما هذا الاعتدال قد تغير فكانت خطاب رجال هذا الحزب في العملية السياسية يؤكد على ذات النبرة التي تنطلق منها هيئة علماء (تكفير) المسلمين، والبعثيون المتسسللين في الحكم عبر مجلس النواب وأمثالهم..
من هنا صارت الجبهة السياسية السنية تشمل حزب البعث بواجهاته المتسللة الى الحكم إضافة إلى الحزب الاسلامي، والمؤسسات الدينية الطائفية المتمثلة ب(هيئات علماء الدين ووعاظ السلاطين)، إضافة إلى جبهة بعض الشخصيات التي استقلت عن هذا أو ذاك، وقد دخل قسم منها في العملية السياسية وبعض خارج عنها.
النتيجة أن ثلاثة جبهات رئيسة من السياسيين السنة تتلاحم اليوم مع بعضها وان اختلفت بين علماني وديني، وذلك لدوافع سياسية طائفية للانتقام من الشيعة والإطاحة بالسياسيين منهم.
وكلها تتقاسم الادوار بشكل ابعد ما يكون عن الحضارية، لإتفاقهم جميعا على ثوابت غير منطقية ولا تمت إلى الحضارية بسبيل، ذلك أن المنطق الحضاري يحكم بحيوية الثوابت التي يجب أن يدركها السياسيين عموما والسياسيين السنة خصوصا لأنهم خسروا عرشا تربعوا عليه قرونا طويلة:
فالثابت الأول: الإذعان إلى الحقيقة القائلة بوجوب أن يحكم العراق أهله وفق قانون الانتخاب الذي يحترم لكل أقلية حقها الطبيعي في الحياة، وهذا يتطلب منهم أن يخلعوا عنهم جلابيب الاستئثار القديمة ومسوح الهيمنة البالية لانها ثقافة قد عفا عليها الدهر، وتمرد عليها العراقيون، ومن أراد إرغامهم على العودة إلى القديم فذلك مما لن يكون لعراق ذاق طعم الحرية وإن كانت مشوبا بلون دماء الضحايا الابرياء وبالطبع فإن هذا هو من ثمن الحرية، إذن فحياة المجتمع يجب أن يديمها المجتمع نفسه بنفسه بالانتخاب الحر والقرار الجمعي النزيه لا بالهيمنة قديمة ولا بالاحتلال جديد.
الثابت الثاني: إن أحكام حضارية المنطق في الحياة تقضي بتعايش بني البشر مع بعضهم لكونهم بشرا يتقاسمون الحياة فيما بينهم قاطنين دارا بسطها لهم خالقهم، لينعموا جميعا بما قد سخر لهم من موارد، وليشاطر كل منهم صاحبه في الحياة مواردها دون اثرة أو استئثار، بعكس أحكام شريعة الغاب والظُفر والناب التي تريد هيمنة الأقل على الأكثر بمنطق القوة والبطش والتنكيل لانها ليست من شريعة المتحضرين بسبيل، فكان على الجميع التعايش بحضارية وبناء بلادهم وفق تكافء الفرص والتنافس الحر من اجل البناء لا الهدم، وإتقان لغة الحياة لا لغة التدمير التي من دواتها الاحتيال والأنانية والتعصب لباطل قوم نكاية بحق قوم اخرين.
الثابت الثالث: اقتضاء حضارية المنطق هو الحكم بالبقاء للأصلح والأنفع لا للأقوى عَضُلات والأكثر أنيابا، وقد يدوم القوي يوما لكنه غير باق على الإطلاق، حيث أن فطرة الحياة تُنكر الظلم وتأبى الظالمين وتتمرد على المفسدين وإن دامت سطوتهم بسببٍ من عدم اجتماع أهل الحق على حقهم بحزم، وريثما تنهض بالإنسان المظلوم همته ليطيح بالباطل مهما كانت شوكته، إذن يجب على سياسي السنة أن يعوا هذا الثابت، ويتقنوا معرفته، ويحسنوا العمل به.
الثابت الرابع: يلزم على الجميع السياسيين وخصوصا سياسيوا العراق القديم ادراك أن لا صلاح ولا اصلاح بوجود ثقافة الهدم وسياسة العنف ومناهج الاقصاء وسبل التدمير لإخضاع الآخرين من أجل كسب المزيد من التنازلات وربح المزيد من الامتيازات الخاصة.
الثابت الخامس: إن سياسيي العراق القديم وبسببٍ من تمرسهم على منهج الاستئثار واتباعهم سياسة التفرد بالحكم على الناس واستضعافهم الشعب باغلبيته فقد أفتقدوا المعرفة بموازين الحياة التي لو كانوا قد رعوها حق رعايتها لتمردوا على باطل قومهم وفساد حزبهم، ووقفوا إلى جانب حق قوم غيرهم، وانتصروا لأبناء شعبهم، الأمر الذي يحكم، سواء أقرّوا بهذه الحقيقة ام انكروا، بأن هذه الشريحة من السياسيين بما فيهم الدينيين منهم، فاقدة بشكل عام ( وليس على وجه الاطلاق كي لا ابخس الناس اشيائهم) لثقافة الاصلاح والبناء والتعايش، حيث قد عوّدهم ركام الثقافة القديمة على الاستحواذ والهيمنة والتدمير والقتل والنهب والتعصب، وحسب قاعدة ( فاقد الشيء لا يعطيه) فإنهم عاجزون عن البناء، لأن من تعوّد الهدم والتدمير والقتل لن يمكنه البناء والصلاح والاصلاح، من هنا وجب على هذه الشريحة السياسية اتقان لغة الحياة أولا وقبل كل شيء، الأمر يستلزم منهم التجرد من عوالق الثقافة القديمة، والتدريب على منطق الحياة، ولغة البناء، وثقافة التعايش ريثما يدخلوا الحياة من أبوابها، لأن (الخير) كما قال أمير المؤمنين عليه السلام (عادة) يعتادها الإنسان بالتعلم ومجاهدة النفس والتدريب عليه، بينما ( الشر لجاجة) يرغم الإنسان نفسه بها على سحق فطرته، فيلجّ على الشر ويلحّ مقنعا نفسه به، راغما غيره عليه معتبرا إياه حقا مطلقا.
من هنا كان عليهم ترك اللغة القديمة لأنها عقيمة، وهجران ثقافة الهيمنة لكونها سقيمة، أما مؤسسوها فمتنكرون لمنطق الحياة، وزعماؤها اعداء للإنسانية أو كما قال أمير المؤمنين (ما ابعد الصلاح من ذوي الشر الوقاح)، وليكشف عن ضرورة التعود على التزام أولئك ثقافةً جديدةَ بقول معلّم الإنسانية ( عوّد نفسك السماح وتجنب الالحاح يلزمك الصلاح) ()
اما أدوارهم الفعلية ومسؤولياتهم اللازمة فهي كما ستكون موضع بحثنا في الحلقة القادمة بعون الله تعالى.
محمد سعيد المخزومي
26/ شباط/ 2007
المصادف
8/ صفر / 1408
التعليقات