الى أخوتي وأحبائي البعثيين أبناء وطني

((الى كل أخوتي وأحبائي وأبناء وطني ممن إنتموا الى حزب البعث العربي الإشتراكي:
لقد أمسكتم بمقدرات السلطة لثلاث عقود ونصف من الزمن، وأوصلتم بالعراق وبالعراقيين الى ما وصل إليه، فلماذا لا تتصالحوا مع ضمائركم أولا، وتبدون إعتذاراتكم الى مواطنيكم وأخوتكم العراقيين وتطلبون الصفح من ضحايا نظامكم، وتتركون الساحة لغيركم، حتى وإن كان بدلاؤكم حكام العراق الجدد يتعثرون في خطواتهم أو هم فشلوا، أو هم لم يحققوا لنا ما نحن نطمحه منهم، أو هم (متآمرون) على العراق، أو هم لصوص مال عام أو هم خونة أمانة وطنية أو باعة وطن؟.
ذلك لأنكم أخذتم فرصتكم بما زادت على الكفاية، فتعثرتم وفشلتم، ولم تحققوا لنا ما كنا نحن نطمحه منكم، وكنتم تآمرتم على العراق، وكنتم خونة للأمانة الوطنية وكنتم لصوص للمال العام وكنتم باعة وطن.
فدعونا نحن عامة الشعب ( لا أنتم ) ننتقد ونعارض ونحاسب بدلائكم في حكم العراق مهما كانت أخطاؤهم، وذلك لسببين أراهما منطقيين، الأول إن هؤلاء البدلاء ( ليس بينهم دكتاتورا حاكما بأمر الله الى الأبد) وجاءوا عبر صناديق الأقتراع، وإن العراق الجديد قد كفل لنا حرية التعبير والنقد والتظاهر والعصيان وهذه وسائل كافية لنقلب الدنيا على رؤوسهم ونحرق الأرض تحت أقدامهم كلما تطلب الأمر ذلك، أما أنتم أيها الأخوة الأحبة فكنتم تقطعون رأس سابع قريب أو جار لنا، إن نحن تجرأنا و..... إنتقدناكم همسا.
والسبب الثاني أخوتي البعثيين الأفاضل هو، أنكم أنتم وحدكم المسؤولون أمام الله والتاريخ عن كل ما حصل ويحصل اليوم في العراق من تدمير وتقتيل وترويع وترهيب وتهجير وتشريد وتجويع وإحتلال، ومن فواجع وفتن وفوضى وفلتان وفساد وفجور وفسق وإنحلال)). (1)

لسنا بحاجة الى معجزة إلهية توقف مكابراتنا ومهاتراتنا وإستعداء بعضنا لبعض قدر حاجتنا الى مصالحة ذواتنا والى أن يكون كل منا شريف أمام نفسه قبل كل شيء، فنحن أيها السادة نعيش أزمة شرف، أزمة قيم إنسانية، قيم يبدو أننا قد تركناها وراء ظهورنا بإنتظار أن يفوز كل واحد منا بنصيب من السطوة والغنى والأبهة والرفعة والشهرة، ولا يهم أن يكون ذلك على حساب وطننا وأهله وسمعته، هذا الوطن الذي لو تجسد اليوم بصورة كائن بشري لبصق بوجوهنا كل صباح عشرات المرات.

لو كانت الكلمة اليوم لفقهاء التحليل النفساني وعلم النفس الإجتماعي وفلاسفة علم الإجتماع لوضعوا على طاولاتنا نتائج فحوص (مختبرية) تصدم الجميع، نحن مرضى أيها السادة، مرضى أكثر من أي وقت مضى، ولأن محيطنا الشرقي والعربي أرض خصبة تشجع على إنتشار الأوبئة الفكرية الهدامة، ولأن محيطنا العربي مريض وموبوء وغير متصالح مع ذاته نتيجة تعاقب السلاطين المجرمين عليه منذ آلاف السنين. فإننا سنبقى نذر الرماد في العيون ونكابر ونغالي ونرائي ونبالغ، وسيبقى الحال على ما هو عليه الى ماشاءالله، وسيظل الكذب وتزوير الحقائق وإطلاق النعوت المزوقة والشائعات الملفقة سلوك لا يخجل منه أحد.

ولعل أكثر ما يدعو الى الإستغراب هو سلوك قسم كبير من البعثيين، فهؤلاء الأخوة إخوتنا وأبناء جلدتنا إستولوا على الحكم في العراق لمرتين، ففي شباط من العام 1963 إستولوا للمرة الأولى على السلطة لمدة تسعة أشهر بمساعدة المخابرات المركزية الأميركية، فأنزلوا الموت والرعب بالشعب، وعاثوا وعبثوا بالأرض ومن عليها فسادا، والكل يتذكر كيف لاحقوا خصومهم في الرأي في طول العراق وعرضه وصفوهم جسديا، بل ووصل إيغالهم في الجريمة حد التنكيل بالأعراض والحرمات، كما ذهب الكثير من العراقيون الأبرياء ضحايا لمجرد الشبهة أو لعدم تأييدهم أوالتصفيق لهم.

ولكن،
يبقى هناك فارق كبير بين بعثيي الأمس وبعثيي اليوم، وربما يجهل معظم أبناء الأجيال اللاحقة على مرحلة البعث الأولى، أو العراقيين الذين عاصروها وضعفت ذاكرتهم، يجهلون حقيقة أن (رفاق) التجربة الأولى الذين (تورطوا) بالإنتماء لحزب البعث حتى عام 1963قد سارعوا متطوعين دون ضغوط من أحد الى تقديم إعتذاراتهم وبرائتهم من حزب البعث، فكانت الصحف العراقية اليومية تمتلأ كل يوم بمئات الأسماء ممن يعلنون برائتهم من البعث وينعتون حزبهم بالعصابة المجرمة والعميلة (3). فكانت ردة فعل العراقيين الضحايا قبول إعتذاراتهم، فعمت المصالحة الوطنية كل أركان هذا الوطن، دون مؤتمرات مصالحة دون وساطات (أخوتنا) العرب والمسلمين، دون دعوات مناطحة من قبل (جامعة) الدول العربية.

فهل تغير شيء في بناء الشخصية العراقية وأخلاقها؟ أوجه هذا السؤال الى البعثيين وخصومهم على السواء، ولماذا إختلف بعثيوا الأمس عن بعثيوا اليوم؟ فما زلت أتذكر الى اليوم وبالأسماء أحيانا كيف كان أخوتنا البعثيين في ذلك الوقت يجلسون في المقاهي ويعددوا جرائم حزبهم وسيئاته، ويعلنون برائتهم على رؤوس الأشهاد وندمهم وأسفهم على تورطهم وإنتمائهم الى هذا الحزب الفاشي.

ولكن،
عندما إستولى عّرابي هذا الحزب على السلطة مرة ثانية عام 1968(وأيضا بمساعدة المخابرات المركزية الأميركية) (4) أصبحوا أكثر خبرة في بناء الدولة الفاشية وفي صناعة الموت وتفتيت مفردات الحياة، فانزلوا الهلاك بالجميع، كما لم ينسوا هذه المرة ملء الساحات والشوارع والبيوت والجامعات والمدارس والمعامل والدوائر الرسمية وواجهاتها بالشعارات، وإستخدموا المال العام لإغراق العراق بالملايين الملايين من أصداراتهم وكتبهم ومنشوراتهم (الأيدولوجية) ولم يوفروا وسيلة إعلامية وغير إعلامية إلا وإستثمروها، بل إشتروا ذمم العديد من الصحف والمجلات العربية ومن الكتاب والشعراء و (الشعاعير) للتطبيل لهم، والتي ثبت في النهاية ( لمن لا يعرف طقوس الفاشية) إنها لا تعدوا غير أباطيل سفسطائية وغسيل أدمغة، فلا شيء غير الرعب والترهيب والملاحقة والإعتقال والقتل وتحطيم الذات الإنسانية والوطنية والإجتماعية بل وحتى الأسرية، لخلق إنسان البعد الواحد والرؤيا الواحدة، الأنسان الأشبه بحصان العربة الذي وضعوا على جانبي عينيه حاجبات جلدية حتى لا يرى أبعد من الخطوات التي أمامه والتي عليه السير فيها.

فأنتجوا في النهاية شعبا من ثلاث أجيال منكفئا في غالبيته على ذاته لا ينتمي للعراقية وللإنسانية بشيء، طوابير من أميي الثقافة ومعتوهي الذاكرة ومتخلفي العقول وفاقدي الذمة وناقصي الضمير.

هذه حقيقة أيها السادة البعثيين، والحقيقة كانت دائما مُرة المذاق، فلنتجرعها ولنعترف بها ولو لمرة واحدة، وكفانا دجل ومنافحة ومبالغة وكذب. لأنكم تعاملتم مع الوطن مثل تعاملكم مع عاهرة عجوز، تناوب الكل على جسدها، ولكنه حال أن يفرغ كل منكم شهوته وكبته يبصق بوجهها.

ونود هنا أن نشير الى حقيقة مهمة، لاسيما وأننا وجدنا أن معظم محللي ومنتقدي النظام الفاشي السابق من العراقيين وغير العراقيين يجهلون التراتبية السلطوية التي حكمت سنوات البعث الخمس والثلاثين، وكان هذا الجهل في طليعة الأسباب التي كانت وراء القرارات الخاطئة التي إتخذتها القيادات الجديدة ( التي كانت قد تركت العراق منذ وقت مبكر ولم تدرك عن قرب التفاصيل اليومية للحاكم والمحكوم )، فاخطأت في معالجة ملف النظام السابق وأتباعه، وخصوصا ملف أعضاء حزب البعث وهو الملف الأخطر. أما الأخطاء الأخرى التي يتحدث عنها من يريد أن يدعي الموضوعية، مثل حل الجيش والأجهزة الأمنية وغيرها فهي لا ترتقي الى حجم الأزمة والى حجم ما دار حولها من لغو كبير وسفسطة سياسية.

فما هي تراتبية الحكم الفاشي وكيف حكم الفاشيون العراق؟.
كانت السنتان 68/ 1969 وعقد السبعينات هي سنوات الرفاق البعثيين بإمتياز، الذين أمسكوا البلاد من شمالها الى جنوبها، من أعلى تفصيل حياتي الى أدناه، فلم يعلوا عليهم أحد. حتى إذا ما فرغ منهم الزعيم الفاشي جرى إنزالهم من عرشهم وتجريدهم من تيجانهم وتهميشهم وتحويلهم الى تابعين وخدام.
أما عقد الثمانينات فقد كان عقد العسكر بإمتياز، فأنعم عليهم النظام بكل أنواع الرفعة والجاه والمال والدلال، وأيضا لم يعلوا عليهم أحد، وأيضا عندما فرغ منهم النظام عقب إنتهاء حرب الخليج الأولى جرى إنزالهم من عرشهم وتجريدهم من تيجانهم وتهميشهم وتحويلهم الى تابعين وخدم يأتمرون بأوامر مفوض الشرطة (حسين كامل المجيد) ومن بعده العريف الآلي (علي حسن المجيد) ومن بعدهم الشاب الوريث قصي صدام حسين.
أما عقد التسعينات وما تلاها فقد كانت تلك سنوات قرية (العوجة) وتوابعها وتابعيها وتابعي تابعيها وحاشيتها، عقد القبيلة التي لم يعلوا عليها أحد، بل ولم يتجرأ لأحد أن يرفع صوته في حضرتها.
أما مصير القاعدة الأكبر من الأخوة البعثيين الخائبين (موضوع البحث) فقد بدأت بالتبخر منذ منتصف الثمانينات، أما من بقي منهم محتفظا بإنتمائه فذاك يعود لأسباب معروفة للجميع منها، إما إرتباطه الوظيفي أو لقلة حيلته في تدبير أموره الحياتية خارج الحزب أو ممن أخذتهم العزة بالأثم، أو ممن لا قيمة إجتماعية لهم خارج الصفة الحزبية، ومعظم هؤلاء حولتهم سلطة القبيلة الحاكمة الى مرتزقة وجواسيس وعسس على أبناء جلدتهم، والمصيبة كل المصيبة هنا إن معظمهم كانوا مرتزقة بلا مقابل، أو كما كان العراقيون ينعتوهم حينها بأنهم (شرطة ببلاش)!!.

ولكن،
هل كان البعثيون خائفون على نظامهم عندما قرعت طبول حرب الخليج الثالثة التي جاءت للأطاحة به؟ والجواب هو، كلا. برغم أن جواب النفي هذا ليس دقيقا وعليه بعض التحفظات، والسبب أن معظم هؤلاء البعثيين كانوا يعانون من قلق له ما يبرره، فهم من جهة كانوا يتطلعون الى الخلاص من سلطة القبيلة التي خذلتهم وحولتهم الى مجرد فزاعة عصافير ليس أكثر، يتطلعون الى الخلاص من عبوديتهم وفقرهم وعوزهم وجوعهم وخيبتهم، ويرغبون في نزع رداء البعث المتسخ من على جلودهم، ولكنهم من جهة أخرى كان خائفون من أن يعاملهم النظام الجديد معاملة (أهل السلطة) وهم لم يكونوا كذلك لدرجة كبيرة.

ونحن نثبت هذا هنا دفاعا عن الحقيقة، لأننا كنا وسط المعمعة البعثية، وقريبين جدا من المعمعة الصدامية، وكنا نشخص ونستطلع آراء البعثيين عن قرب، وكنا نعرف ظروفهم، بل وكثيرا ما كنا نتلمس لهم العذر لكونهم مازالوا مرتبطين بالحزب، وساعة أعلن (رسميا) سقوط النظام الفاشي، كنت ومعي أحد الأصدقاء عند نقطة العبور على الحدود السورية العراقية في مدينة القائم، وتحديدا عند الحاجز(العارضة) التي تفصلني خطوات معدودة عن حرس الحدود السوري، من هناك هرب البعثيون، ولكن، من هم هؤلاء البعثيون الهاربون؟

كان هؤلاء ممن إقترفوا جرائم بحق الشعب العراقي وبضمنهم قادتهم الكبار، لأنهم كانوا متأكدين من مصيرهم إن هم بقوا داخل العراق، وبعد ثلاث أيام من توقف آخر رصاصة للحرب عدت الى بغداد، وعلمت يومها أن القسم الأعظم المتبقي من أعضاء هذا الحزب قد غادروا مساكنهم للأحتماء مؤقتا عند أقارب لهم، ينتظرون بترقب وحذر شديد ما سيؤل له المشهد السياسي.

(في الحلقة القادمة نجيب على سؤال نحتاج معه الى أحترام الحقيقة:
من أخطأ بحق من في العراق الجديد، البعثيون أم خصومهم القادة الجدد؟ )

حتى لا ننسى: (غالبا ما كانت الحقيقة مؤذية، ولكن دائما كان الشرفاء وحدهم فقط من يحترمها ويتقبل أذاها ويتجرّع مرارتها ). (جورج حاوي)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جزء من رسالة كنت قد حررتها الى صديقي الكريم البعثي الدكتور(ض. ح ).
(2) (4) راجع العراق السياسي ج3 / حنا بطاطو.
(3) راجع الصحف البغدادية الصادرة بعد هزيمة الحرس القومي (البعثي) في 18تشرين 1963.

[email protected]

عبدالجبارالبياتي

حتى لانزور التأريخ 2