منذ أن تأسست الجمهورية التركية المعاصرة على يد كمال أتاتورك 3/3/1924 وهذه الجمهورية تتنازعها إشكاليات عميقة ليس أهمها بالطبع مشكلتها مع الإسلام السياسي فهذه إشكالية جديدة من منظور التطور التاريخي للحالة التركية. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين وتركيا ومعها الغرب عموما تعيش هاجسين الأول يتمثل في الخوف من المد الشيوعي على حدودها الشمالية والشرقية، وثانيا الخوف من القضية الكردية في تركيا.

وكان حتى فترة ليست بعيدة أي حتى مجيء حزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أو جلان وبدعم شبه كامل من السلطة السورية. كان هنالك معارضة مسلحة وغير مسلحة يوشحها اليسار عموما دون تمييز واضح بين تركي وكردي كما نلاحظ اليوم. لدرجة أن هنالك من كتب في سبعينيات القرن العشرين ـ يورك أوغلو ـ كتابا أسماه تركيا حلقة ضعيفة! ناضجة لسقوط نظامها لصالح نظام يساري مدعوم من السوفييت. وهذا أيضا لم يحصل ولكن لابد لنا من الوقوف عند قضية على غاية من الأهمية في تركيا وهي فساد الطبقة الحامية للعلمانية على مدار أكثر من سبعة عقود، إضافة إلى قومجيتها المفرطة تجاه الحقوق القومية للشعب الكوردي كانت بشكل أو بآخر تتمسك بعلمانية ذات ديمقراطية منقوصة وأحيانا دموية في سلوكها مع المعارضة اليسارية.

حيث لم يكن هنالك معارضة إسلامية تذكر! ونظرة بسيطة للفارق بين مدينة استنبول وبقية الأجزاء التركية ليعرف المرء مدى الفساد والنهب والإفقار الذي عانى منه الشعب التركي وخصوصا الكردي منه ومناطقه لازالت شاهدة على ذلك. ومع ذلك شهد النسق السياسي التركي تطورات مهمة كانت دوما يتم التغطية عليها عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية التي كانت تشهدها تركيا كلما وصلت الطبقة السياسية الفاسدة إلى طريق مسدود. فالانقلابات في السابق لم تكن تحدث خوفا من مجيئ الإسلاميين بل لأسباب أخرى وأهمها الخوف من وصول حالة البلاد لكي تكون مهيئة لمجيئ اليسار التركي الموالي للسوفييت إلى الحكم. وهذه القضية كانت تشكل خطا أحمر بالنسبة للجيش التركي وللعالم الحر كما كان يسمى آنذاك. الآن تركيا ومنذ أكثر من عقدين مع تنامي التيار الإسلامي بعد فشل اليسار وانتهائه الشعبي وبعد وصول الفساد إلى درجة بات العمق التركي على كافة الصعد والمستويات يحتاج إلى ألوان سياسية جديدة.

وهذا ما ساعد التيار الإسلامي في الصعود السريع لكي يشكل وعبر الانتخابات حكومة لوحده دون حتى مشاركة مع حزب آخر وهذا إن دل فهو يدل على أن الحاجة إليه في هذا العمق الشعبي هي حاجة لإصلاح سياسي واقتصادي وتكنيس لآخر بقايا الطبقة السياسية التقليدية الفاسدة والتي كانت مؤسسة الجيش تحميها بحجة حماية العلمانية. والآن نشاهد معركة من نوع آخر وهي نجاح عبدالله غول في الوصول تقريبا لكي يصبح أول رئيس جمهورية إسلامي أو من خارج الطبقة السياسية التقليدية. من جهتنا لانرى مبررا للخوف على الديمقراطية من حزب السيدان أردوغان وغول مطلقا بل الخوف يبقى على أنهما لايأخذان بعين الاعتبار إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية. وهاهما في موقع اختبار حقيقي ومعهما التيار الإسلامي التركي الحداثوي من زاويا كثيرة لن نعرج عليها الآن. لأنني كمواطن عربي أتمنى نشوء مثل هذا التيار في بلداننا تيارا يقبل بفصل الدين عن الدولة قولا وممارسة وإن كان له برنامجا إسلاميا فالواقع هو من يتكفل بترجمته سلبا أو إيجابا.

كماأنه من حقنا كعلمانيين أن نقف سياسيا وديمقراطيا ضد هذا التيار ولكن ليس لدرجة أن نتوقع أن هذا التيار سيصبح مثلنا عندما نصفه بأوصاف لا علاقة لها بمايدور داخل تركيا، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الإسلام السياسي في منطقتنا العربية يمارس نفاقا ويعتبر أن نجاح التجربة التركية نجاحا له وما يحدث هو عكس ذلك تماما. ومع هذا النفاق السياسي نجدهم لايقتدون بهذه التجربة بأن تتحول أحزابهم إلى أحزاب دنيوية على الطريقة التركية. هذا ما نريده من الإسلاميين لكي تتضح معالم المعركة الديمقراطية التي نخوضها على أرض الواقع لا أن نكرس لغة شقاقية من نوع جديد تكون وجها آخر للإسلام السياسي المتشدد والمنافق المتواجد عندنا والمتجادل مع رفض السلطات عندنا أيضا لقيام نموذج إسلامي تركي وهنا بيت القصيد. ومادام حزب الرفاه يمارس الديمقراطية فلا نستطيع أن نمنعه بالقوة ونحرض من أجل تدخل العسكر.

رغم أننا كمواطنين سوريين نجد أن علاقة السلطات التركية بالسلطة السورية في أوج تميزها في هذه المرحلة. وهذه بالنسبة لنا مثلبة على هذه الحكومة التركية.
إذن في المحصلة هو أن يقبل الإسلام السياسي بأن يتحول إلى أحزاب دنيوية تقبل الآخر وتوقع على المعاهدات الخاصة بشأن شرعة حقوق الإنسان. أم غير ذلك فالمواجهة الديمقراطية مستمرة وستبقى إلى أجل غير مسمى.

غسان المفلح